الاثنين، أبريل 20، 2009

قصة : باقة ورود زرقاء

للكاتب المكسيكي الأشهر : أوكتابيو باث استيقظتُ وأنا أتصبب عرقاً . كانت الأبخرة الساخنة تتصاعد داخل غرفتي المشيدة من الطوب الأحمر ، التي قد رششتها بالماء قبل نومي . خطفت بصري هذه الفراشة بجناحيها الرماديين ، بحومها حول بؤرة صفراء . انتفضتُ من أريكتي ، سرتُ حافيا داخل غرفتي ، وكنت حريصا ألا أطأ عقرباً هجر جحره لينعم بنسمة هواء باردة .اقتربتُ للنافذة الصغيرة ، استنشقت ملء رئتي نسيم الريف ، سمعت تنفس الليل ، الهائل والرقيق . عدتُ بعدها لمنتصف الغرفة ، أفرغتُ ماء الدورق في الطشت المعدني ، بللتُ فوطتي ، ودعكتُ بالقطعة المبللة رقبتي وقدميّ . جففتُ أعضائي ، وارتديتُ ملابسي ، بعد أن تحققتُ أن ثناياها خالية من الحشرات ، ثم انتعلتُ حذائي . هبطتُ درجات السلم متخطياً الدرجة الخضراء ، ووجدتُ صاحب البنسيون جالساً عند مدخله . رجل أعور ومتحفظ ، يجلس علي مقعد صغير من التول ، يدخن بعينين شبه مغمضتين . سألني بصوت أجش : ـ رايح فين يا سيدي ؟ ـ أتمشي ، هنا الجو نار . ـ آه ، بس هنا مفيش حاجة فاتحة دلوقتي ، وكمان مفيش نور . خليك هنا أحسن . ربتُ علي كتفه وهمستُ في أذنه " مش هتأخر " . دخلت بعدها في ظلام دامس . في البداية لم أر شيئاً ، فسرتُ أتلمّس طريقي في الشارع المرصوف ، وأشعلتُ سيجارة . سطع القمر فجأة من خلف سحابة سوداء ، فأضاء جداراً أبيض وفتت بالتدريج قطع الظلمات . وقفتُ امام بياضه مشدوهاً ، فاقداً بصري . سمعتُ صفير الريح ، وتنفّستُ عطر التمر هندي . كان الليل يهتز بحشراته وورقات أشجاره ، وكانت الضفادع كامنة في معسكرها بين الحشائش الطويلة . رفعتُ وجهي للسماء : النجوم ايضا تكمن في معسكرها العلوي . فكّرتُ في الكون : ماهو إلا نظام رحب من الدلالات ، ما هو سوي حوار بين كائناته الهائلة . إن حركاتي ، ونقيق الضفادع ، الشبيه بصوت منشار ، ورمشة النجوم ، ما هي إلا وقفات ومقاطع وعبارات مبعثرة من هذا الحوار . ماهي هذه الكلمة التي أشكّل فيها مقطعاً ؟ من الذي يتفوه بها ومن الذي يتلقاّها ؟ رميتُ السيجارة علي الرصيف ، فشكّلتْ منحنياً مضيئاً بمجرد سقوطها ، وتناثر منها شرر ضئيل ذكّرني بطيارة ورق صغيرة . سرتُ الهوين لوقت طويل ، وشعرت بالحرية والأمان مع هاتين الشفتين اللتين نطقتا بسعادة بالغة : الليل حديقة مليئة بالعيون . عندما هممت بعبور الشارع ، شعرت أن أحدا ينطلق من داخل مدخل بيت . رجعتُ ، لكنني لم أتمكن من تمييز أحد . أسرعتُ الخطي ، وسمعتُ بعد لحظات ضجيجاً خامداً علي بعد خطوات ، ضجيج يخطو فوق الأحجار الساخنة . لم يرُق لي أن ألتفت ورائي رغم ادراكي لاقتراب الظل ، الذي يزداد التصاقا بي . حاولتُ أن أطلق ساقي للريح ، لكنني عجزتُ عن ذلك . تسمرتُ في مكاني فجأة ، وقبل أن أدافع عن نفسي ، شعرتُ بنصل سكين في ظهري وسمعت صوتاُ عذباً : ـ لو اتحركت هدفنك ف مكانك . وبدون أن ألتفت إليه سألته : ـ عايز إيه ؟ ـ عايز عينيك يا سيدي .ـ أجابني صوت ناعم وشبه حزين . ـ عيني! وهتفيدك في ايه عيني ؟ اسمع ، أنا معايا فلوس كتير ، مش كتير قوي يعني ، أديك كل اللي معايا ، بس تسيبني ، ما تقتلنيش . ـ ما تخافش يا سيدي ، مش هقتلك . أنا مش عايز أكتر من عينيك . سألته مرة أخري : ـ وهتفيدك بإيه ؟ وليه عيني بالذات ؟ ـ ده طلب خطيبتي ، عايزة بوكيه ورد متزين بعيون زرقا ، وهنا مفيش حد عينه زرقا . ـ بس أنا عيني مش هتنفعك ، لأنها مش زرقا ، دي صفرا . ـ وكمان عايز تضحك عليّا . أنا عارف العين الزرقا كويس قوي . ـ ماهو ما ينفعش حد ياخد عين حد كده . أنا هديك حاجة تانية . ـ ما تبقاش متزمت كده . قال لي هذه العبارة بقسوة شديدة . فالتفت إليه فوجدته نحيلاً هزيلاً ، يغطي نصف وجهه بقبعة ، ويمسك بيده اليمني سكيناً يلمع مع ضوء القمر . ـ ارفع وشك ! امتثلت لأمره ، وأشعلتُ عود كبريت وقرّبته من وجهي ، فأجبرني لهيبه أن أغمض عيني قليلاً . فتح جفوني بيد قوية . لم يسعه أن يري شيئا ، فوقف علي أطراف أصابعه وتأملني بدقة . كاد اللهيب أن يحرق أناملي ، فألقيت بعود الكبريت علي الأرض . التزم الصمت برهة . ـ صدقت بقي إن عيني مش زرقا ؟ ـ انت حدق قوي ! ـ أجابني ـ ولع عود غيره! . أشعلت عودا آخر وقربته لعيني ، فأمسكني من كم قميصي وأمرني : ـ اركع علي ركبتك ! ركعت ممتثلا لأمره ، فأمسك بشعري باحدي يديه وشد رأسي للخلف ومال فوق صدري . كان مدققاً ومتوتراً ، بينما كان نصل السكين يقترب ببطء ويلمس جفني . أغمضتُ عيني تلقائياً . ـ افتحهم كويس ـ أمرني . فتحتهما بطاعة ، فأحرق لهيب النار رموشي . فجأة أطلق سراحي . ـ عينك مش زرقا ، عفيت عنك . واختفي . ارتكزت علي جدار ما ، واضعاً رأسي بين كفي ومستويا في مجلسي . نهضتُ بصعوبة ، فوقعتُ ، ثم نهضتُ من جديد . شرعتُ في الركض ، وواصلت ركضي ساعة كاملة في هذه القرية المهجورة . وعندما وصلت للميدان ، رأيت صاحب البنسيون جالساً كما كان أمام المدخل . دلفت دون أن أنبس بكلمة . وفي اليوم التالي قررتُ أن أهرب من هذه القرية .
نشرت بترجمتي في مجلة نزوة العمانية.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...