الجمعة، أغسطس 28، 2009

عما هو إنساني في أدب ساراماجو

عما هو إنساني في أدب ساراماجو

في حفل تكريم ساراماجو سنة 2007 ، ألقت الكاتبة الكولومبية الشهيرة لاورا ريستريبو نصا رأينا من المفيد نقله للعربية ، يتناول تحليلا لأهم ملامح الرواية الساراماجية ، الملمح الإنساني . ولاورا ريستريبو تعد من ابرز الوجوه الحالية في الثقافة الكولومبية ، فهي صحفية و روائية كتبت أكثر من عشر روايات و نالت العديد من الجوائز داخل كولومبيا وخارجها ، ولعل أهم تلك الجوائز جائزة الفاجوارا عن روايتها " هذيان " وجائزة سور خوانا إنيس عن "صحبة حلوة " .

هذا الشيء الذي يسمي ذاتنا

ترجمة : أحمد عبد اللطيف

في بلدة " بارّانكا " البترولية الواقعة في الغابة الكولومبية ، والتي عانت ما عانته من الحرب و العزلة ، ذهبت أبحث عن بعض المعلومات حول الأحداث الواقعة فيها ، فدخلت المكتبة العامة ، وسألت عن المكتبيّ الذي أخبروني أنه رجل دقيق واسع المعرفة بما يخص تلك البلدة . وبينما كنت أحادثه ، دخل مجموعة أطفال صاخبة ، من الأولاد والبنات ، تتراوح أعمارهم بين العاشرة و الثانية عشرة ، جاءوا أيضا لغرض مماثل ، سؤال المكتبي عن النساء الشهيرات في الحياة الكولومبية ، حيث عليهم البحث في ذلك وتقديمه للمدرسة كواجب مدرسي ، وهي فكرة شبيهة لما قام به السيد جوزيه في رواية " كل الأسماء " ، عندما سجل في ورقة أكثر من مائة شخصية شهيرة ، الفرق الوحيد يكمن في ان بحث الأطفال يقتصر علي النساء دون الرجال . بدأوا في توجيه أسئلتهم للمكتبي عن الوزيرات ، ممثلات السينما ، فتيات الموضة ، وأخيرا أجابهم متصنعا أنه يسمعهم وسط ضجيجهم : إن المشهور ليس هذا الشخص الذي يلقي خطبا ، ولا هذا الذي يظهر في الصحافة و التليفزيون ، وإنما المشهور هو هذا الذي يهب الآخرين أسباب السعادة ، وبالتالي عليكم أن تنسوا الوزيرات و الممثلات و فتيات الموضة ، و عودوا إلي أحيائكم وقابلوا مدرساتكم و أمهاتكم و جداتكم وطبيبة المستوصف ، والتقوا بأختكم التي تدرس في الجامعة ، بالأخري التي تعمل لأنها لا تستطيع الدراسة ، وفي تلك النسوة ستجدون ما تبحثون عنه ، فهن جديرات بأن يكنّ شهيرات بلدنا ، لأنهن يهبننا أسباب السعادة .

بهذا المعني يعد هذا المكتبي أيضا جديرا بالشهرة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا أنه تم إغتياله بعد ذلك بقليل برصاصات المؤيدين للعسكر ، وما حدث له حدث لكثيرين من أهل البلدة . وبنفس المعني تعد مشهورة تلك المرأة التي وهبت للسيد جوزيه ، مؤلف "كل الأسماء" ، أسباب السعادة ، بل و أسباب الحياة أيضا . ويعد مشهورا ايضا جوزيه نفسه ، حوزيه ساراماجو ، الاديب و الإنسان ، فهو سيد بمعني الكلمة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا هذا التناقض الذي تحدث عنه ذات مرة قائلا " كُتّابي المفضلون سَفَلة بقدر كونهم إنسانيين " . ولعل أبرز ما نلاحظه في ساراماجو أنه يعيش ما يكتبه ويكتب ما يعيشه ، بعيدا عن هذا التناقض ، كما أنه واضح في حياته كما في كتاباته ، وهو نفسه مثل شخصيات رواياته ، يبدو كأنه أثر واضح للبشرية أمام العيون المتذبذبة الشرهة .

و لعل أهم خصائص الرواية ، الرواية الناضجة ، هو تركيز الميكروسكوب الروائي علي الكائن البشري لنتعرف من خلاله علي أنفسنا ، علي هذا الكائن ، علي معني ما نفعله ، ولماذا جئنا لهذه الأرض ، وليس من السهل معرفة ذلك ، حتي أننا ننسي هذا السؤال عدة شهور ، أو ننساه دائما ، وفي وسط هذا الشرود ، تقع في يدنا رواية تجعلنا نتبع آثارنا لنصل لذاتنا ، مثل الكلب يتبع قطعة الملابس ليصل للمجرم . هذه رائحة بشرية ، هذا ما يسوقنا إليه العمل الساراماجي ، فنسير وراءه ، نتبع خطاه ، ندخل في أزقته ، نري هالته المضيئة ، نواجه شراسته في الحق ونشعر بحجم ألمه ، بعيدا عن المجاملات و التملق وأراجوزات الكتابة ، والسير وراء المدعين . إن الشخصية التي يقدمها لنا هذا الكاتب تحمل في حامضها النووي الكائن البشري ، بصمته ، دمه ، أو كما يقول ريكاردو رييس في عام موته : " علامات إنسانيتنا " . حينئذ تؤدي كتابته للقاء هذا الرجل وهذه السيدة التي تم انقاذهما من الشرود ، أو بمعني ادق الإلتقاء مع أنفسنا ، صفحة بصفحة ، فنشعر شعورا حميميا ، مريحا ، يجعلنا نلتقي بأحزاننا ، فتهرب من مآقينا الدموع . و الحقيقة أنني كلما قرأت " إنجيل المسيح " أبكي بكاءا حارا ، ونفس الشيء يحدث مع " الكهف " وساعتها أسأل نفسي كيف تستطيع روايات هذا الرجل أن تصل لأقصي أعماق ذاتي ؟ ، فتأتيني الإجابة التي لا تتغير أبدا : لأنه رجل صادق ، يتميز نثره بالصدق وشعره بالجمال ، فيعود بنا إلي البيت ، بيت الإنسانية ، بيت الرجل و المرأة ، هذا المكان الذي تقبع فيه روحنا ، حيث يقترب كل منا من نفسه ، ويكتشف الركن الذي يناسبه في القصة ، فعودتنا للبيت تشبه عودته هو في " الذكريات الصغيرة " للبيت الجميل ، الأكثر حميمية وعمقا ، هذا البيت المدقع فقرا لجديه لأمه ، أو البيت الآخر الموجود في " حصار لشبونة " حيث يصير الحب ممكنا والسرير ينتظرنا بملاءات نظيفة . وفي البيت قد تجد أنواع الكلاب المختلفة ، فقد تجد الكلب لقيط ، أو ثابت ، أو الكلب الذئب الذي يخيف زيزيتو ، أو ربما تجد الكلب العطوف الذي ابكاني في " البصيرة " وهو كلب الدموع .

أشار ساراماجو ذات مرة ، في الإشارة إلي إيما بوفاري ، دون كيخوتيه ، جوليان سوريل ، أن هناك شخصيات أدبية أكثر حياة من شخصيات نعرفها في الواقع . والحق أنه أصاب ، فنفس الشيء يحدث مع جوزيه ، في انجيل المسيح ، هذا النجار المحمّل بالأحلام و الذنوب ، و جوزيه الآخر في كل الأسماء ، الذي عثر في الحب علي خيط ارديانا الذي وجب أن يسحبه من متاهة البيروقراطية و بئر العزلة ، والطفل جوزيه في الذكريات الصغيرة ، حيث يجلس علي ضفاف النهر ليصطاد الصور و الأصوات و الروائح و الذكريات و المشاعر ، فيظهر صدي هذا في رواياته .

إن الرواية الساراماجية تأخذنا دائما إلي ما هو إنساني ، بعيدا عن روايات البيست سيلر وسوق التسلية التي ظهرت وازدهرت في ظل الديمقراطية اللايت ، تلك الديمقراطية المعكوسة في " البصيرة " . ووسط هذا التردي يأخذنا ساراماجو لأدب عظيم ، أدب يتميز بالكرامة ، فلو نظرنا لمجمل شخصياته سنجدهم كالقبيلة الواحدة التي يشترك أفرادها في صفة الكرامة . فسلوكهم بدءا من الافعال التقليدية ، " يتبول ، يأكل ، يشرب ، يعمل ، يستريح " تكتسب كرامة وعظمة لأنه يعيد خلقها ، هذا الخلق الذي يسمح له أن يجمع اجزاءهم المتناثرة . أما رؤيته هو لهذه الشخصيات فهي بعيدة كل البعد عن الرؤية الجزئية ، فتتميز بالشمولية ، كما لو كان عندما يكتب عنها لديه عقيدة راسخة أن كل شخصية تمثل في الواقع قصة الإنسانية جمعاء ، رجلا كان أم إمرأة . أما قصص الحب عنده فهي قصة الناس أجمعين ، قصص خالدة خلود روميو وجوليت ، فمن ينسي دومينجو وسارة في " ثورة الأرض " ، أو جيرونيمو و جوزيفا في " الذكريات الصغيرة " .

وبرغم أن بطله رجل ، إلا أن صورة المرأة في عمله صورة مضيئة ، فهي دائما الحكيمة ، الكريمة ، المتفتحة ، الواقعية . كما أنه لا يبذل جهدا ليجدها ، فهي تقفز دائما في رأسه ، " عندما أبدأ في كتابة رواية ، لا أقول لنفسي إنني يجب أن أخلق امرأة بارعة ، فهي تظهر وحدها من الأحداث التي أرويها " . وعلي كثرة النسوة في أعماله ، تعد أعظمهن ماريا في " إنجيل المسيح " ، تلك الأم التي يجب عليها أن تحتمل في صمت الحب و الألم الذي تشعره نحو وليدها ، إنها إمرأة صغيرة تنضج فوق نيران الواقع ، تودع إبنها بلا إبتسامة وبلا وعد بالعودة ، . " لم تصلني اخبارك ـ قالت ماريا أخيرا وحينها هربت من عينيها الدموع ، كان ابنها البكري يجلس أمامها ، فتي طويل القامة ، بملامح وجه إكتملت رجولته ولحية نابتة ، وبجلد أسمر كما لو قضي حياته تحت الشمس ، بوجهه للريح و لرمل الصحراء ـ " .

إن هذه المرأة التي تحمل إبنها ميتا بين ذراعيها لشديدة الشبه ببلدي ، بقارتي ، بهذا العالم الثالث الذي أنتمي إليه ، بأفريقيا كاملة ، وصولا للعراق و فلسطين و لبنان ، فكلهن أمهات تهبن أولادهن الحياة ليأتي الموت ليقصف أعمارهم . أمهات يدفنّ أبناءهن بدلا من حدوث العكس . إن الموت عجوز فوق سريرك صار حلما صعب المنال .

ساراماجو أيضا كاتب كلاسيكي عندما يخلق رجلا يسيطر علي إرادته الخاصة وعلي ضميره ويمتلك بين يديه زمام أمره ، إنه الرجل الذي يعارض الظلم و يحرك إرادة المقاومة و التغيير ، برغم أنه لا يحقق ذلك دائما . وبينما يقع الرجل دائما تحت التهديد ، يهاجم ساراماجو بشراسة ما يلغيه ، ما يؤذيه ، ما يستعبده ، وهو في ذلك كاتب شجاع ، في الحياة و العمل ، يضطرنا أن نظل بعينين مفتوحتين أمام ضغائن السلطة ، التي قال عنها إنها فاسدة ، وإن السلطة المطلقة لفساد مطلق ، لكنني أضيف أن السلطة لا تحتاج أن تكون مطلقة لتصير فسادا مطلقا . ولعل لهذا السبب نجد فكرة الحصار بارزة في أعماله ، ففي "العمي" نجد العميان محاصرين كما لو كانوا يعانون من مرض معد ، وفي " حصار لشبونة " يموت المسلمون محاصرين ، وفي " البصيرة " تحاصر العاصمة لأنهم أدلوا بأصوات بيضاء ، وفي " ثورة الارض " يحاصر الفلاحون بالفقر من قبل الإقطاعيين ، وفي " الكهف " يجد الفخاري نفسه محاصرا من المركز التجاري . وهكذا نجد الذين يفرضون الحصار ويشدون أحباله في صورة كائنات قبيحة ، غير إنسانية ، فهم يحيكون الكوابيس ويخلقون المتاهات .

وأخيرا ، قد نجد عنصرا بين العمل الكافكاوي و الساراماجي ، هو التشاؤم . والحقيقة أنه ليس تشاؤما ، إنما الواقع المحزن الذي يغزونا فينطبع في صفحاتهم ، صفحة وراء أخري ، لكن الحق أن هناك فرقا شاسعا بين كافكا و ساراماجو ، فالأول يخلق شخصيات تختنق وحدها وتكافح وحدها ضد ما يخنقها ، بينما نجد في شخصيات الثاني روح التضامن و التعاون من أجل المقاومة . هل هو المعتقد السياسي ؟ ، نعم بالطبع ، إنه المعتقد السياسي المطبوع في كل أعماله .كما أن شخصيات ساراماجو تبذل ما في وسعها للحفاظ علي نفسها مخلصة لمبادئها ، وهو ما يجبرها علي التحرك ومكافحة عالم كابوسي ، فيعطيها ذلك طابع المغامرة . بينما لا نجد ذلك عند كافكا ولا تيار ما بعد الحداثة .

السبت، أغسطس 22، 2009

حوار مع ساراماجو

سارماجو : مازلت صبيا أتعلم . ترجمة أحمد عبد اللطيف يقولون عنه إنه أكثر من كاتب ، لكنه يقول عن نفسه إنه مازال صبياً يتعلم المهنة ، وهي الجملة التي رددها من قبل عند تسلمه لجائزة نوبل منذ احد عشر عاماً ، ليكون بذلك أول برتغالي يحصل عليها . إنه ساراماجو ، أو زي ، كما كان جده يناديه ، الذي قال عنه هارولد بلووم ، أكثر النقاد صرامة ، إنه " أستاذ ، الأستاذ " ، ووصفه بأنه " أكثر كتاب العالم موهبة وأحد آخر الكتاب العظام " . وكرجل موهوب كتب روايته الأخيرة " رحلة الفيل " وهو علي فراش الموت ، وحقق بها إنتصارا للغة والخيال والفكاهة ، المرتبطة بالموت .
في أحد أيام الكريسماس الماضي ، ركز ساراماجو في عينيه ، ففوجيء باتساعهما الغريب ، حتي أنهما أكلتا وجهه . كانتا تنظران إليه باستغراب ، بفضول ، بدهشة ، وتقولان له : أمازلت هنا ، أمازلت هنا .
هذا ليس حدثاً في رواية القرين ( التي ترجمت للعربية بعنوان الآخر مثلي ) ، وإنما هي فترة كان فيها ساراماجو قرينا لنفسه ، شاهدا علي صراعه ليعود للحياة ، وكان قرينه رجلاً ناعماً ، فصحح له هلاوسه : لا ، ليس لك عينان جاحظتان، بل هما في حجمهما الطبيعي ، ما تغير هو المحيط بهما . وكان القرين يعرفهما جيدا ، لذلك قال : إنهما نجمتان مضيئتان في وسط الخراب . إنه تعبير شاعري لساراماجو ، هذا الرجل الذي أنعش السرد العالمي الجديد ، وليس فقط السرد البرتغالي ، عندما نشر روايته " العمي " عام 1995 ، لكن ثورته الحقيقية بدأت قبل ذلك بكثير ، عام 1980 ، برواية " ثورة الأرض " ( التي ستصدر قريبا بالعربية ) .
لقد فقدت عشرين كيلو يا زي ، لقد كنت دوما نحيفا مثل جدك جيرونيمو ، لكن عشرين كيلو كثير . كان طولك 180 سنتيمتر ، ووزنك 71 كيلو ، الآن صار وزنك 51 كيلو فقط ، أمازلت تعتقد بالتفاح المشوي ، الذي كانت جدتك تصنعه لك! القرين كان يعلم كل شيئ ، كان يعلم أن جيرونيمو ، الذي عاش في ازينياجا ، كان يودع الحياة عندما خرج لمعانقة أشجاره بالحديقة ، جيرونيمو ، الذي علّم حفيده حكاية القصص عندما كان ينام بجواره تحت شجرة التين ، دخل التاريخ من أوسع أبوابه عندما حفر الحفيد اسمه عند تسلمه لجائزة نوبل :" أكثر الرجال الذين عرفتهم في حياتي حكمة كان رجلا لا يعرف القراءة والكتابة " ، نعم ، كان القرين يعرف كل شيئ ، حتي ما قالته جوزيفا يوم وفاة جده كان القرين مطلعا عليه :" لا أخاف من الموت ، لكن الدنيا جميلة ، والموت يبث في الحسرة " .
يعيش ساراماجو في السنوات الأخيرة حالة صحية متردية ، حيث سقط فريسة للمرض ، إلا أن التفاح المشوي يقويه ، لذا لم يتوقف عن الكتابة ومازال مستمراً بشكل بطولي ، كما لم يتوقف عن السفر في أنحاء العالم ، ليعلن ادانته للعولمة " التي هي شمولية جديدة " وربما يستخدم عبارة كارل ماركس في العائلة المقدسة " إذا كانت الظروف تشكل الانسان ، فمن الضروري أن نشكل الظروف بشكل انساني " ، إنها هلاوس ساراماجو ، كما يقول بعض الوقحاء .
في سنة 2005 نشر ساراماجو رواية " تقطعات الموت " ، لم تكن تجريدا ، فالموت كان حاضرا بجسده ، ويمكن ملامسته . يقول ساراماجو " المؤلف هو خالق شخصياته ، وفي الوقت نفسه احدي مخلوقاتها " . وشخصية الموت تحولت من شيئ غير مرئي لشيئ مرئي ، ولم تكن لعبة ، يتذكر ساراماجو ، فقد كان قاب قوسين من الموت ، ولم يكن يربطه بالحياة سوي خيط هزيل ، حيث كان جسده مستسلما . " أعتقد أنهم لم يودوا أن تكون نهايتي في المستشفي ، وأنا أشكر لهم ذلك ، لكن الموت لم يداهمني ، وكنت مدركا لما يدور حولي ، وأشعر انني علي حافة الانتقال للعالم الآخر ، وبعد ذلك قلت لهم لا تحدثوني عن الموت ، فأنا أدري به منكم ، فلقد رأيته رؤي العين " . ورغم استسلام الجسد ، كان قلبه ينبض بقوة ، وعقله يخزن ما يحدث حوله . ورغم أن ساراماجو يُعرف بأنه الرجل الصامت ، إلا أن أعماله تغلب عليها روح الفكاهة ؟
ـ جاءت الفكاهة متأخرة ، فما كتبته وأنا في الثالثة والعشرين لا فكاهة فيه ، وأعتقد ان أساس الفكاهة يكمن في معرفة الذات ومعرفة الآخرين ، كما أن الفكاهة ابداع مجهد .
ـ بعد أن نشرت " ثورة الأرض " قلت " أنا لا أكتب من أجل شرح وجهة نظري ، بل لأنني أكتب كما أتنفس ، كما أتحدث " . ربما ساعدتك الكتابة علي اجتياز الأزمة .
ـ بالطبع . فالكتابة عكازي الذي استند عليه لانتقل من حالة لحالة ، نعم لم أكن أتحرك من سريري ، لكنني كنت أشعر بنفسي محمولا بين كفي الكتابة . كان عقلي مدركا لطبيعة حالتي ، وكان لديه المقدرة لقبوله ، والتعامل كما لو لم يحدث شيئ . وشعرت في هذه اللحظات بكم هائل من الصفاء ناتج عن قربي من الموت .
ـ في هذه الرحلة يفكر الانسان في حياته ، ويعيد حساباته ، لهذا قال بورخس :" لقد ارتكبت أفظع كبيرة في حياتي ... أنني لم أحيا سعيداً "
ـ هذه عملية عقلية تبتدع بعد ذلك ، ولم يحدث ذلك معي . لقد عدت للحياة بشكل طبيعي وبصفاء تام حدثتك عنه .
ـ يقولون إن ساراماجو لم يبع نفسه ابدا . ألا تشعر أنك قد تنازلت ذات مرة من أجل الحصول علي شيئ ، كجائزة مثلا ؟ ـ أبدا ، لم ابع نفسي أبدا ، لا ماديا ولا رمزيا . أما نوبل فهي تأتي علي شيئ تم عمله بدون الالتفات لنتيجته .
ـ وماذا عن الكراهية بين الكتاب ، خاصة عندما يكونون جيرانا ، وفي هذا السياق يقول جين شابلين " الكاتب لا يقرأ لزملائه ، بل يراقبهم " .
ـ لا أجد تفسيرا لهذه المسألة . لا أعرف . فعندما ظهرت كان كل شيئ في مكانه ، الشهرة ، الحب ، الكره ، ولم أكن قريبا من الأوساط الثقافية .
ـ في رواياتك هناك شخصيات لا يمكن نسيانها ، لأنهم مدهشون ، وينتمون لما يسمي الواقع الذكي . لا تقل لي انك لم تعشق بليموندا في رواية " مذكرة الدير " .
ـ بليموندا ... قد تكون تجسيدا لنساء كثيرات عرفتهن في حياتي ، انها امرأة بسيطة . لكنني عشقت حقا زوجة الطبيب ، في " العمي " و " البصيرة " . هذه حقيقة .
ـ يبدو من أعمالك أنك صديق للنساء أكثر من الرجال ؟
ـ هذه حقيقة أخري .

الخميس، أغسطس 13، 2009

قصة : صورة رجل فارس

فرانثيسكو أيالا

ترجمة/ احمد عبد اللطيف

لستُ أدري كيف وصل بنا الحديث في هذا اليوم إلي تناول سيرة أجدادنا . كان أصدقائي يتحدثون عن عظمة وأمجاد وبطولات آبائهم السالفين ، يتحدثون بغطرسة إستعراضية مليئة بالمبالغة ، لكنهم لم يتفوهوا بأكاذيب خيالية . وكنت أنصت إليهم ملتزماً الصمت ، رغم أنه ليس لديّ ما أخجل منه ، لكنني دوماً أشعر بحياء يمنعني من الحديث عن نفسي أو عائلتي ، بل وحتي عن كل ما يمت لي بصلة حميمة. كنت أستمع صامتاً ، حتي سألني صديق لي ، وماذا عن جدك؟ ماذا كان يعمل ؟ فأجبته بأنه " كان فارساً". حينئذ نظر إليّ الجميع باندهاش وأجروا جميعا وبالتناوب ذكر الألقاب التي حصل عليها أجدادهم، والوظائف البارزة التي شغلوها في زمنهم . حكي أحدهم أن جده كان نائبا في مجلس بلدية أنتيكيرا ، وحكي الآخر أن جده كان رئيساً للمحكمة الإقليمية بقرطبة . وكان جد ثالثهم وصيفاً في البلاط الملكي . وهكذا أجداد بقية الأصدقاء قد شغلوا وظائف شبيهة . هل كانت تراودني فكرة أن أقول لهم إن جدي كان فارساً من فرسان المائدة المستديرة ؟ ابتسمتُ بوجه بشوش أمام هذه الأضحوكة ، وقلت " لا شيئ من هذا " . أم أنه كان واحداً من هؤلاء الفرسان الأثرياء الذين يعيشون من أملاكهم بلا عمل ؟ لا شيئ من هذا ، حقا كان جدي يعيش في الفترة التي كان فيها يُكتب علي مظاريف الخطابات "مالك أراضي" بلا كتابة لاسم ما، لكنه لم ينتسب لهذه الطبقة الثرية الفارغة. كان جدي رجلاً وقوراً ، له طريقه في الحياة ، كما أنه كان عصامياً وليس أرستقراطياً . كان نبيلاً ولكن بشكل آخر . كان طبيباً وأستاذاً بالجامعة ، واستطاع أن يحقق مكانته الاجتماعية بمجهوده الشخصي ، لكنه فوق كل ذلك كان فارساً . أنا لم أتعرف عليه في حياته ، لم تتح لي الفرصة لذلك ، لأنه قد مات قبل مولدي بعام واحد ، لكنه ترك في عائلتي هالة من الإحترام له والإعجاب به والتكريم لذكراه . هذه الأشياء تسمح لي الآن أن أتذكره ، كما لو أنني قد تعرفت عليه في حياته وعاشرته أمداً طويلاً ، والفضل في ذلك يرجع لأمي لأنها الباعثة لهذا الإحترام ، فقد ملأت طفولتي وغذتها بالحكايا الكثيرة عنه .

حكت لي ذات مرة ، وكنت صغيراً آنذاك لكنني كنت مدركاً ، قصة مرتبطة بسيدة كنا نعرفها ونتبادل معها الزيارات (وكانت الزيارات بين المعارف في تلك الفترة تمثل طقساً إجتماعياً هاماً بكل معاني الكلمة ، حيث علي الجميع أن يلتزم بمواعيد الزيارة وإيقاعها وقواعدها ووقارها ) .

السيدة التي أتحدث عنها كانت صديقة لأمي ، ولم تكن زياراتنا لها واجباً اجتماعياً فحسب ، بل أكثر من ذلك بكثير ، فهي سيدة عانس ، ظهرت عليها علامات الشيخوخة ( أو هكذا كان يبدو لي من منظوري كطفل)، وكانت ثاقبة الذهن متقدة الذكاء ، سعيدة ومبتسمة دوماً وحنوناً مع الأطفال . ولعل أهم ما كان يميزها ذاكرتها التي تشبه جوهرة منقوشاً عليها رسومات واضحة ، كتلك التي اعتادت أمي أن تعلقها فوق فستانها الساتان الرمادي ذي الخرز الكهرماني الأسود . خرز أسود لامع يشبه عينيها الدقيقتين . والصداقة بينها وبين عائلتي كانت قد بدأت منذ زمن بعيد .

الحكاية التي روتها لي أمي ذات يوم عن هذه السيدة ، وروتها بكل ثقة فيّ لعلمها أنني سأحفظ سرها ، كانت كما يلي :ـ

منذ زمن بعيد ، عندما كانت هذه السيدة في الثامنة عشرة ، استدعي أهلها جدي ، وكان طبيباً وصديقاً للعائلة ، ليستشيروه في وعكتها الصحية التي بدأت منذ وقت قريب ، حيث بدأت الصبية تعاني من التقيؤ والدوار والعصبية الشديدة . ذهب جدي حينئذ إليها وأجري كشفه ولخص تشخيصه في عبارة واحدة " إذا كانت متزوجة فهي أعراض حمل ، وإن لم تكن كذلك فأنا لا أعرف سبباً لما تعانيه " . كان جدي فارساً قادراً علي تغليف العبارات الثقيلة التي تتطلبها طبيعة عمله بألفاظ محترمة ومقنعة . عندما حكت لي أمي هذه القصة كانت تنظر لصورة جدي المعلقة في مكان بارز من الصالة . كانت الصورة كبيرة الحجم كتمثال نصفي في حجم طبيعي ، مأخوذة من آخر صورة له قبل موته ، وكنا نحتفظ منها بصور صغيرة ، لكن ، وبرغم البرواز العريض المصنوع من الأبنوس المحيط بها ، وبرغم أننا علقنا الصورة بعد وفاته ، إلا أنها لا تعطينا إنطباعا بأنها صورة لميت عندما نتأملها بدقة؛ فهي ليست كصورة تافيرا ، هذا الطائر الأمريكي الذي رسمه جريكو علي أنه أثر جنزي (وهو طائر لا أعرف عنه أي خبر حتي الآن) ، بل علي العكس من ذلك ، كانت صورة جدي تعطينا شعورا بالجدية والحيوية والعمق .

كانت أمي تنظر إليها ، فكنت أري في عينيها الزرقاوين شيئاً كأنه الموافقة علي موته ، موافقة حزينة ، نعم ، ومليئة بالألم الراسخ في أعمق قلبها . أثناء ذلك ، كنت أشعر بداخلي بإحساس بخيبة الأمل لأنني لم أتعرف عليه في حياته ، وأظن أن ما يجب علي الآن هو أن أعشق صورة قديمة ذهب صاحبها للعالم الآخر . التزمنا الصمت برهة ، بعدها سألت أمي عن نهاية القصة التي بدأتها عن هذه الفتاة ، ماذا حدث لها؟ كيف انتهي أمرها؟ أجابتني أمي بأن عائلة الفتاة عجزت عن معرفة مرتكب الجريمة هذه ، ذلك لأن الفتاة لم تعترف بشيئ رغم أن عائلتها استخدمت معها كل الأساليب الممكنة من توسلات ودموع ، وتهديدات وعقاب . ربما كان من المستحيل لصاحب هذه الجريمة أن يصحح خطأه عن طريق الزواج ، فربما كان متزوجاً ، أو راهباً ، أو رجلاً مجهولاً أو وضيعاً ، فيتسب زواجها منه في عار أكبر من العار الذي لحق بها .

قاومت الفتاة كل الضغوط التي فرضوها عليها بكل ما أوتيت من قوة ، وأخيراً وضعت وليدها لكنه جاء ميتاً . إنها فتاة باسلة وتعيسة ، لذا فمن الصعب مقارنتها بهذه السيدة العجوز المرحة ، حاضرة النكتة ، التي تزورنا وأعرفها منذ زمن بعيد . فلنعد مرة أخري إلي جدي ، فالصورة التي رسمت في أذهاننا عنه أنه ليس فقط الرجل المعصوم من الخطأ ، بل هي صورة فارس مليئ بالمزايا ، فارس بكل معاني الكلمة ، فهو الإنسان الجاد ، المخلص، البشوش ، المتفاني من أجل الآخرين ، وبالإضافة لذلك ، فهو رجل فيلسوف . لقد واجه هذا الرجل في حياته الكثير من المحن المؤلمة ، بلا شكوي ، وعاني منها في صمت ، وعليّ أن أحترم صمته وخصوصياته ، خاصة أنه كان متحفظاً ، لكنني أستطيع أن أخمّن بعضاً من همومه بأن أجمع التفاصيل المبعثرة من حكايات أمي ، بجانب بعض التخمين المبني علي الفضول وبعض الملامح المستنبطة من مجموعة صوره الفوتوجرافية الموجودة بألبوماته . يُخيل إليّ أنه كان ذا طابع منفرد ، وأنه كان يحيا داخل مسئوليته المقدسة . علينا أن نعترف أن هناك نوعاً من الهموم يجعل حياتنا كئيبة ويغلفها بالمرارة ، لكنها مع مرور الوقت تتحول لذكريات جميلة لو تعاملنا معها من منظور كوميدي . سأقتطف بعضاً من المواقف التي واجهها جدي مع زوج ابنته الكبيرة ، وهو رجل خيالي وعاشق للمسرح ومن أشد مناصري جوانيير ، ومن ألد أعداء روسيني وفيردي . عقد هذا الرجل الكثير من الصفقات الوهمية التي لم تأت سوي بالخسارة والديون، التي كان علي جدي أن يسددها دون أن ينبس بكلمة . كان هذا الرجل المتبجح ، المتظاهر بالأبهة ، بطلاً لحدث لا يمكن نسيانه ، فقد رأي ذات يوم أثناء تناول الغداء ، فأراً يسير بين قدميه ، فقفز فوق المائدة وأطلق صرخات مليئة بالرعب أمام اندهاش الحضور ، وكان يردد هذه العبارات " لا ، يا إلهي ، لا استطيع أن أحتمل كل هذا ، أنا لا أقاوم الفئران ، هذا فوق طاقتي ، احبسوني لو أردتم مع أسد ، نعم أسد ، لكن الفئران لا أحتملها ، لا أستطيع ..." ، ومنذ ذلك الحين استغل أخوالي، إخوة زوجته ، هذه الفرصة لينتقموا منه بسبب حماقاته المتكررة ، وأصبح ضحية لسخريتهم المستمرة لعدة أشهر . فمن حين لآخر ، وأثناء تناولهم الغداء ، يعيدون ذكر هذا الحدث المضحك حتي وضع جدي نهاية لهذه الدراما بأن وبخ أولاده بألفاظ رقيقة أمام زوج ابنته المهزوم ، وأوضح لهم أن له مستقبلاً بارعاً في ترويض الأسود في السيرك الأمريكي الكبير ، الذي سيزوره عما قريب . كان جدي يقول ذلك بكل جدية ، لذلك لم يتجرأ أحد علي أن يبتسم ، لكن ابنته الكبيرة ، زوجة هذا الدُن كيشوت المتصنع ، قطبت جبينها ، ناظرة في طبقها . امرأة مسكينة تلك المرأة التي فرضت عليها الحياة أن تعايش رجلا يشبه زوجها . لكنها كتوم لسر بيتها . كانت هذه السيدة ، كما ذكرت ، الإبنة الكبيرة لجدي ، بينما كانت أمي هي آخر ثمرة في عنقود طويل متعدد الثمار ، لذا كان يوجه عنايته وحمايته وشفقته بكل رقة لهذه الطفلة الصغيرة ، حتي أصبح مفهوماً للجميع أنه نوع من التفضيل . وانضمت هذه الطفلة إلي حفيدات أبيها اللاتي كن يلعبن في حديقة المنزل عند مولدها . مما لا شك فيه أن الأب كان يفكر في هذه الطفلة عندما ينظر إليها ويجدها بين حفيداته ، فيدور في خاطره أن قانون الحياة سيجعلها يتيمة خلال وقت قريب ، ولأنها لا زالت صغيرة كانت لا تحمل للحياة هماً ولم تواجه محناً ، بينما كان أشقاؤها يواجهون ما يواجهونه من مصاعب الحياة وبلاويها . كان الأب يركن إليها فيتحدث معها في أوقات فراغها ، ويحكي لها ما يتعلق بيومه . كان يكلمها هي فقط ، ويقدم لها ما استنبطه وتفكر فيه ويعلّمها بشكل غير مباشر كيفية التفكير الفلسفي . هكذا تربت أمي و سمت روحها ، ولحسن حظي وصلني جزء كبير من هذه التربية لأنه قد تكرر معي ما حدث معها . فأنا ابنها الوحيد ، لذا كانت تثق في وتعتقد أنني سأفهمها أكثر من الآخرين ، فكانت تروي لي تأملاتها وتبدي لي آراءها ، وتناقشني في كل ما يشغلها في الحياة ، كما تحكي لي أحزانها التي تجلبها لها تلك الحياة. حقاً كنت أنا حافظ سرها وموضع ثقتها ، وهذا يرضيني بشكل كبير.

تعرفت من شفتيّ أمي علي صفات جدي الشخصية . حكت لي من ضمن أشياء أخري أنه عندما ساد وباء الكوليرا وعم المدينة بأسرها وقضي علي حياة الناس موتاً ورعباً ، وجعلهم يبتعدون عن أقاربهم المصابين به ، كان جدي يزداد اقتراباً من الناس ليؤدي واجبه المهني ، وأنه تميز حتي أصرت الحكومة علي أن تكافأه بمنحه لقب نبيل . لكن جدي رفض لأنه يتعارض مع مبادئه الديمقراطية ، فهو رجل نبيل بطبعه . فهذا الفارس ، صاحب هذه الصورة ، لا يحتاج لشهادة مكتوبة لتدل علي نبله . أغمض عينيّ لتتحرك في مخيلتي صورته عندما كان يتنزه في حديقة منزلنا بصحبة شابة صغيرة ، هي أمي ، أتخيله رجلاً طويلاً ، نحيفاً ، بلغ من الكبر عتيا ( لقد ازداد نحافة في سنواته الأخيرة ) أتخيله بشاربه الأبيض الطويل المتساقط علي فمه ( ففي صورة سابقة كان قصير اللحية ، وكان يطلق علي شاربه اسم فابوريس) أتخيله بعينيه العميقتين الكامن فيهما حزن السنين . بعد أن تقدم العمر بجدي أحيل إلي المعاش وترك الجامعة وودع حياته العملية ، لكنهم كانوا يطلبونه لمساعدتهم في الأوقات العصيبة . ومن هذه الأوقات عندما عاد الوباء من جديد . لم يكن شنيعاً كالمرة السابقة ، لكنه كان خطيراً . لا أعرف تفاصيل هذا الوباء ، فثقافتي الطبية محدودة وكل معلوماتي عنه أنه وباء يهاجم الرئتين . علي أي حال ، كان جدي يستنفد كل طاقاته كلما طلبوه ليعتني بالمرضي . وذات صباح ، عاد جدي ليستريح علي أريكته ويتناول كأساً من النبيذ اعتادت أن تقدمه إليه أمي ، فسألته إن كان سيصطحبها كالعاة في عيد الربيع أم لا . كان الربيع قد أطل ومازال الوباء موجوداً ، لكن السلطات المحلية أمرت ألا يتوقف عرض العربات وألا يلغي الاحتفال ، وليتم ككل عام في مدينتنا وفي نفس التاريخ بلا تأجيل . " ربما فعلوا ذلك لكيلا يشعر الناس بالقلق الشديد ". حفل الربيع حفل كبير ، يعشقه كل الشباب وخاصة الصبايا ، لأن قلوبهن مفتوحة لكل ما يبعث فيهن السرور والبهجة والحرية . ربما كانت أمي تنتظر هذا الحفل لتضيئه بجمالها الرقيق ولتتلاقي مع من سيكون زوجها في المستقبل . روت لي أمي ، وهي حزينة حزناً يطفح منها ، كأنه جرح يُفتح من جديد كلما تذكرته ، أن جدي ، بعد أن صمت لحظة ، أجابها ب "لا" ، لأنه مشغول ومرهق ، كما أن جو هذا العام لا يسمح بالتنزه . ولأنني أعرف جيدا حمية الشباب ورغباتهم الشديدة ، أتخيل مضمون ما حملته عيناها الزرقاوان من خيبة أمل لم تعبر عنها كلماتها بدقة . لكن ما حدث في صباح اليوم التالي كان مفاجأة لم تكن تتوقعها . فأثناء تناولهما الإفطار ، أحاط ابنته بنظرة حادة ومؤثرة وحزينة ، وقال لها وهو يصب القهوة في فنجانه الفضي ( وكان يلاحظ باهتمام هذا السائل الغامق الذي ملأ به فنجانه ) إنه فكر جيداً في الأمر ، وإنه موافق علي أن يصحبها إلي حفل الربيع ، و سيعطي أوامره ليجهزوا الخيل في الساعة الخامسة لتذهب بها إلي العرض . وعليها هي أن تعد سلة الزهور كذخيرة لها لتشترك بها في الحفل ولتفوز بالطبع في معركة لا سفك فيها للدماء . قفزت أمي من مقعدها بكل سعادة عندما سمعت ذلك ، وتوجهت إلي جدي لتقبله في جبهته ، وشكرته بكل كلمات الشكر " أنت طيب جدا يا أبي ، تضحي من أجل سعادتي " . " قد يكون هذا العام هو الأخير الذي أصطحبك فيه لحفل الربيع يا ابنتي " همس لها بذلك . اكتسي وجهها بالحزن عندما سمعت العبارة الأخيرة ، " يا أبي ، لا تقل ذلك بالله عليك" . والتزمت الصمت وشعرت بالخوف ، ورغم أنها عجزت أمام خوفها ، إلا أنها قضت وقتاً سعيداً أثناء العرض ، وشعرت بالتسلية واستمتعت بالحفل في بعض اللحظات . ومن آن لآخر ، كانت تلقي نظرة خاطفة علي أبيها الكهل الذي جلس بجانبها ، فيبادلها النظر ويبتسم لها ابتسامة تبعث علي الطمأنينة . وبالفعل ، كان هذا العام عامه الأخير الذي اصطحب فيه ابنته لحفل الربيع والعرض التقليدي للعربات . في اليوم التالي سقط مريضاً ، ولم يطل مرضه فوافته المنية . ويوم الحفل ، عندما استيقظ من نومه كان يسعل ، واكتشف عندما بصق أنه قد أصيب بالوباء الذي دمر كثيرا من السكان . كان جدي يعلم جيداً انه سيذهب للعالم الآخر بعد أيام قليلة بسبب تقدمه في السن ، وقوة المرض . لذا لم يشأ أن يحرم ابنته الحبيبة من رغبتها البريئة .

آه ، عندما تكون المشاعر عميقة وصادقة وتصدر منها أفعال مليئة بالطيبة والتضحية ، يكون الألم أكبر بكثير من هذا الألم الذي ينتابنا عندما نواجه مشاعر باردة ولا مبالاة .

مازالت الدموع تسكن عيني أمي كلما حكت لي ذلك .

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...