الخميس، ديسمبر 26، 2013

عن الضحية والمغتصب في ثقافة الهزيمة \ مقال



أحمد عبد اللطيف

(1)

     في الفيلم الإسباني "الجلد الذي أعيش فيه" للمخرج الشهير ألمودوفار وبطولة أنطونيو بانديراس، تتعرض ابنة البطل المصابة بمرض نفسي للاغتصاب أثناء حفلة على يد أحد الشباب، فيقوم البطل، وهو عالم طبيب متخصص في أمراض الجلد والتجميل وله أبحاث هامة في تخصصه، باختطاف المُغتصِب وإجراء عمليات مرهقة له لتحويله تماماً إلى أنثى، إلى أنثى جميلة، أنثى لا يمكن ردها إلى ذكورتها الماضية. حتى هنا، رغم القسوة الشديدة في الانتقام والتي نقلها المخرج في مشاهد هادئة كنصل سكين يشق قلباً، يمكن تلقي العمل باعتباره واقعياً: فتاة مهانة وأب مكلوم ومُغتصب يقوم بدور الضحية. غير أن تطور الأحداث يضع الفيلم في منطقة العبث، العبث البدائي، عبث النسيان، عبث الانصهار والذوبان في الآخر.

(2)
     ما من جديد في صورة المغتصب الذي فقد إنسانيته وتغلبت أنانيته على التفكير لحظة واحدة في الضحية، ولا في صورة الضحية الضعيفة التي عجزت عن الدفاع عن كرامتها فازداد مرضها النفسي تعقيداً وراحت للموت بقدم لا تريد أن تطأ الحياة مرة أخرى، ولا في الانتقام من جانب الأب حتى ولو بدا انتقاماً مفرطاً تركز في الأساس حول سقي الآخر من نفس الكأس ودفع نفس الثمن كبديل للموت الذي اعتقد الأب أنه راحة لا يشعر بعدها الإنسان بفداحة ما اقترف. الجديد أن يقع الأب\ الضحية في هوى المرأة الجديدة التي صنعها بيده وأن يصل للأورجازم عبر ثقب ساعد في شقه، ثقب كان يشغل مكانه من قبل عضو نافر اخترق بلا رحمة مخبأ فتاة كان يكفيها ما أصابها من مرض جمّد حياتها، فتاة كانت ابنة لنفس هذا الرجل الذي يذوب عشقاً في المغتصب.

    (3)

     بهذه العلاقة المعقدة يطرح الفيلم، الذي يمكن أن نخرجه من حدود جنسيته ليشمل بإنسانيته كل الثقافات والمجتمعات، سؤالاً أكثر تعقيداً عن علاقة الضحية والمغتصب، والضحية في هذه الحالة ليس فقط الفتاة التي انزوت بعيداً ورحلت في صمت، بل بالأساس الأب المكلوم، المغلول، المهزوم أمام ابنته قبل أن يُهزم أمام العالم. الضحية صار عاشقاً للمغتصب، يشتري له الملابس الجديدة، يعد له فناجين القهوة، يضاجعه بوله يكفي بشكل قاطع لمشاهدة التسامح مجسداً. الضحية يدلل المغتصب بما يليق بامرأة جميلة ومخلصة، تستحق نجوم السماء بلا أدنى شك. فتفتح هذه العلاقة المثيرة للجدل سؤالاً أكثر رحابة لفهم البنية السيكولوجية للكائن الإنساني، بنية أكثر تشوهاً مما يُعتقد، وربما أكثر هشاشة وسذاجة، بنية تتسق تماماً مع صورة الحاكم والمحكوم، الفرد في مواجهة الديكتاتور، التابع في خطواته خلف المتبوع، كلها صور مختلفة في ظاهرها غير أنها في العمق لها نفس الخطوط والدوائر والمربعات، نفس الخضوع ودرجة التماهي وقوة الانكسار، بل ونفس القدرة على شغل نفس المكان بآخر عند غيابه، لتسير المعركة في طريقها الخاطيء: معركة خلق مقدس جديد بدلاً من التشافي من أفكار التقديس.

(4)


    وبمد الخيط على استقامته، يتطور حدث "الجلد الذي أعيش فيه" ليسقط قناع المغتصب المحتقن  لفقد ذكورته، وليتبين أن كل الهدايا التي تلقاها لم تكن مرضية، وليتحرك كأنه الضحية التي يجب أن تنتقم من مغتصبها. إنها سخرية تبادل الأدوار، نسيان الخطايا المقترفة ونسبها لآخر، ذوبان الخطيئة مع المغفرة في نفس كأس المياه، حد الوصول لاستحالة الفصل بينهما، فيصير من حق كل منهما أن يختار طبيعته الكيمائية. ولأن الضحية اختار أن يكون الراعي، العاشق، المتسامي، اختار المغتصب في المقابل أن يكون الضحية التي فقدت حقها في الحياة والآن يجب الدفاع عن هذا الحق. فيكتمل الحدث بقيام المغتصب الأصلي بقتل الضحية الأصلية، يقتله من جديد، يقتل الأبَ الذي اغتُصبت ابنته، الأب الذي ماتت ابنته، الأب الذي نسى، في غمرة أحداث الحياة، أن من يعيش معه تحت سقف بيته وداخل غرفة نومه ليس بضحية، بل المغتصب الذي أفقده بهجة الحياة.      

تكوير العملات الورقية لا يفقدها قيمته\ مقال


ا
أحمد عبد اللطيف


     تقول الحكاية الإسبانية إن مدرسة دخلت الفصل وأخرجت 20 يورو من جيبها وسألت التلاميذ: من منكم يريد هذه العملة؟ فرفع الجميع يده بحماس وأجابوا بصراخ: أنا. كورت المدرسة العملة تماماً ورفعتها لأعلى بإصبعين وسألت من جديد، فأجابها الجميع بحماس: أنا. فأخذت العملة الورقية ورمتها على الأرض وشاطتها بقدمها حتى إحدى الزوايا، وسألت نفس السؤال، فجاءتها الإجابة: أنا. انحنت وأخذت العملة وألقت بها في سلة الزبالة، وسألت بتكرار، فجاءها الجواب: أنا. فأخرجت العملة من السلة وداست عليها بقدمها حتى بدت متسخة تماماً، وسألت بتحد: من منكم يريد العملة بعد كل ما حدث لها. فأجابها التلاميذ: أنا. حينها ابتسمت وأخبرتهم أن هذا هو درس اليوم: رغم كل ما حدث للعملة الورقية إلا أنها لم تفقد قيمتها، وعليكم بالتالي أن يعرف كل منكم قيمة نفسه مهما أصابه من مرض او ضرر، مهما هاجمه الآخرون واتهموه بما ليس فيه.
الحكاية، رغم أنها تبدو للتنمية الذاتية للمراهقين، إلا أنها في حقيقة الأمر تصلح لكل الأعمار والظروف، خاصةً  الآن في مصر، حيث تواجه الاتهامات في صمتك كما تواجهها في حديثك، وأصبح اتبّاع صوت الأغلبية فرض عين على كل المختلفين معهم. كم مرة في اليوم ترى من يكوّرك ويشوطك لأنك تعترض على فض اعتصام الإخوان بالقوة؟ كم مرة يضعونك في صندوق الزبالة لأنك تدافع عن البرادعي وتنتظر سماع شهادته عن كواليس الاستقالة؟ كم مرة يدوسونك بأقدامهم لأنك تقول إن الحلول الأمنية لن تأتي إلا بالخراب، وأن وظيفة الحكومة أن تقدم حلولاً سياسية حتى لا تعطي للإخوان فرصة العودة للعب دور الضحية المحبوب لديهم. سيلومونك بالطبع لاعتراضك على وجود عمرو موسى في لجنة تعديل الدستور، مثلما يلومونك على المادة الإعلامية المقززة التي يقدمها يوسف الحسيني وخيري رمضان، وربما يكون اللوم أكبر لو وجهت كلماتك لمرتضى منصور وأعلنت أن كلامه مثير للغثيان. في كل الأحوال سيكون هجومك لخط سير الدولة سبباً لتكويرك واتهامك بالخيانة، كما يكون تخوفك من عودة الدولة الأمنية بصلابة سبباً لخروجك من الصف الوطني. حتى عندما تصمت عند محاولة اغتيال وزير الداخلية سيأتيك الهجوم، ستقف للتأمل: هل هو انتقام الإخوان أم لعبة أمنية جديدة، وفي الوقت الذي تحتار فيه لفك ملابسات الحادث، سيأتيك من يؤكد لك ببرهان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنها الجماعة الإرهابية التي تريد الخراب لمصر. يا سيدي، لست مختلفاً معك في أنها جماعة تريد الخراب لمصر، لكن لماذا تريد أن تنزع عني الحق في الشك والتأمل وانتظار نتائج النيابة، ثم في حالة افتراض أن جماعة الإخوان أو جماعة أخرى تابعة لها قامت بالفعل، ألا يعيدنا ذلك لما اختلفت معي فيه من قبل: أن الحل الأمني ستكون نتيجته تفجيرات، وأن الحلول السياسية يجب أن تكون فعالة، حتى ولو رفض قادة الإخوان فدور الدولة أن تجرهم لأرضها خاصةً أن لها ظهير شعبي ويمكن مراجعة فيديوهات 30 يونيو وجمعة التفويض. ثم لماذا لا تتذكر معي ما حدث في إسبانيا على يد منظمة إيتا الانفصالية، سنوات طويلة من الإرهاب والتفجيرات والقتل والدم، والدولة تواصل حلولها الأمنية لإسقاط مزيد من الضحايا المدنيين بجانب الجماعة الإرهابية، ثم في النهاية يدرك رئيس الوزراء خوسيه ثباتيرو أن الأزمة يجب أن تنتهي على مائدة مفاوضات، وانتهت على مائدة مفاوضات بالفعل. نفس الحكاية، وأشد منها، حدثت في كولومبيا على يد جماعة الفارك الثورية، التي انتهت كجماعة إرهابية في آخر المطاف واستولت على مناطق وأغلقتها وفرضت سيطرتها عليها، وبعد أكثر من نصف قرن في حروب مع الدولة، أدركت الحكومة أنه لا سبيل لوقف بحور الدم إلا بالجلوس على مائدة مفاوضات، وهذا ما حدث. وما كان يجب أن يحدث بعد ثورة 30 يونيو، وما يجب أن يحدث الآن قبل أن تزداد الازمة ونصل، في غمضة عين، إلى 20 سنة في حروب ومعارك. أقول "أدركت الحكومة" لأن الحكومة من عليها أن تدرك، لأنها السلطة، ولأنها من يجب أن يحافظ على أرواح مواطنيها، ولأن دورها أن تعيد الأمن للشارع. وإن لم تتقدم الحكومة في هذا الاتجاه، فلا يلومني أحد إن قلت إن الدولة تستمريء "لعبة الذريعة" لتمد قانون الطواريء وحظر التجوال، ولابد أنه يحلو لها أن تظل للأبد دولة أمنية تطارد من يخالفها، وتناهض الحريات، وتكورّ من يعلو صوته، وتدوس على من يطالب بحق المواطن في حياة إنسانية كريمة، ثم تضعه بكل بساطة في سلة الزبالة، رغم أن ذلك لن ينقص شيئاً من قيمته.     

"كتاب النحات" البحث عن جزر جديدة



لؤي حمزة عباس


تقترح رواية  (كتاب النحات) لأحمد عبد اللطيف العودة لسؤال الوجود، لفكرة أولى طالما وقف أمامها الإنسان، وعياً وتأملاً، وعاود مواجهتها، لا في سبيل إيجاد جواب شاف لها فذلك أبداً لن يكون، بل لاختبار قدرته على استعادة السؤال بما يحتويه من قلق وهو يحمل انشغالاً عميقاً في معاينة فكرة الخلق، طريقاً من طرق المعرفة التي لا تُحد، الطريق الذي سارت فيه من قبل إبداعات إنسانية عدّة مقترحة محاولاتها في اليوتوبيا، فكرة وتمثلاً، وهي مواجهة تقترحها في كلِّ مرّة خصوبةُ المسعى وجسامةُ السير فيه. تواصل (كتاب النحات) قلقاً شغل الفكر الإنساني طويلاً ليُستعاد في زمن مبكّر من أزمنة الكتابة الروائية العربية مع فرح انطوان وفرنسيس فتح الله مراش، مع تباين الأهداف والغايات، وقد مثّل الوجود بالنسبة لهما فكرة ومواجهة وسؤالاً، حتى زمن قريب من أزمنة الكتابة كما في أعمال مثل (أبناء حارتنا) لمحفوظ و(المسرات والأوجاع) للتكرلي، حيث تعيش الفكرة تحولاتها وهي تسعى لتدوين وجه عصري من وجوه السؤال.
إنها وجهة روائية لتجديد السؤال والانتقال به إلى منطقة تُغنيها الذاكرة وقد عاشت قلقها في مواجهة حَيرة الوجود، وهي، في الآن نفسه، مساءلة لحقل أحمد عبد اللطيف الروائي والانتقال به من قلق الفرديّة الذي شكّل التقاطاً شذريّاً تتسع معه الرواية وتمتد عبر انشغالها بشخصية محدّدة كما في روايتي (صانع المفاتيح) و (عالم المندل)، وقد اختير لهما أن تتحرّكا على مساحة من نفس الانسان وشواغله، لتعدّ الشخصيّة المركزية فيهما مادة الرواية وحقل اختبارها، إلى سؤال التجربة الإنسانية في مظهرها الجمعي وهي تولد وتنمو حاملة في دواخلها أسباب فنائها، من هنا لم تكن تجربة مجتمع (كتاب النحات) قد تحققت لمرّة واحدة، إنها حلقة من سلسلة سبقتها تجارب مماثلة ولحقتها أخرى، التجارب التي تجمعها رحلة النحات وهو يعبر بزورقه الأنهار باحثاً عن جزر جديدة، حاملاً معه ما يكفي من الطين لنحت كائنات هي عُدّة تجربة تنهض على أنقاض أخرى قديمة يكون فيها شاهداً وشريكاً وهو يدخل اختبار الوجود في كل مرّة من باب مختلف تفتحه هواجس الانسان ورغباته، لتبدو شخصيات الرواية بذلك تمثيلاً للهواجس وتجسيداً للرغبات في قوام يخلع عن الشخصيات أسماءها ويمنحها صفات بديلة ابتداء من النحات نفسه مروراً بعروسة النهر، والأم، وزوج الأم (المخرج المسرحي)، ورجل البرميل، ورجل القضيب، وبائعة بطاقات اليانصيب، فضلاً عن شخصيات ثانوية تبتكرها الرواية من طين العزلة، إنها جميعاً تحيا قلقها الخاص ليظل سؤال الخلق حيّاً، فاعلاً ومؤثراً، يرنُّ في فضاء الرواية وهي تنتقل بنحاتها لإنتاج تمثيل جديد ليوتوبيا قديمة لن تكون غير صدى منكسر عن فكرة خلق أول فيه من القسوة وعسر السؤال ما يقوده، كأنما بإرادة حتمية، لانقلاب المخلوق وانجذابه الأعمى لإرادة الخديعة والزوال.
طبقة بعد طبقة تتابع الرواية تحولات مجتمعها، وترصد انقلاب وقائعها مستندة إلى تقنية المخطوط التي توجهها عتبتان: نبويّة وفلسفية، تتواجه في العتبة الأولى فكرتا النوم والانتباه، وبينهما يقف الموتُ فعلَ إثارةٍ وتحفيز، " الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا"، ويتجلّى في الثانية موقف الرواية على لسان سقراط ضد (فكرة) الجمهور عن الآلهة، حيث تبدو الرواية تمثيلاً واسعاً تؤسسه العتبتان بمرجعيتيهما ومحموليهما في نسيج لغوي متباين، يستعين الراوي على كتابته بأحبار مختلفة، ظاناً في ديباجة مخطوطه "بأن في ذلك فرادة ولفتاً واجتهدت قدر استطاعتي ليكون تعدّد أصوات الرواة إلماماً بجوانب الحكاية ويكون إيقاع لغتهم من بطيء لمتعجل ومن سرد أحداث لمتأمل فيها ومن تجريد لتجسيد"، لتقارب الديباجة بيان التأليف في مدوّنات السرد العربي القديم وتكشف بعضاً من خصائصه، من تعدد الأصوات إلى تحوّل الإيقاع اللغوي، ومن مواجهة الحدث، سرداً وتأملاً، إلى خصيصتي التجريد والتجسيد اللذين يؤمّنان للعمل الروائي تبايناً لا يقف عند مهمات الشكل اللغوي بل يجتهد في سبيل التعبير عن قلق الشخصيات وهي تحيا خوف التجربة الأولى وتتذوق مراراتها، وهي تمضي منقادة باتجاه أقدارها. النحات، وحده، مَنْ يتطلّع لكتابة قدره، كل منحوتة كلمة، وكل تجربة جملة في عالم يبدو الإنسان فيه كاتباً ومكتوباً في آن، "أنزل إلى النهر وأسبح. أصير سمكة تخترق الماء بمرونة، وأعتليها بظهر مسترخ... ليس حسنا أن نخلق كائناً منفرداً وأن نكتب له العزلة كمصير حتمي، حتى لو كنا على يقين أننا، سواء أردنا ذلك أم حاربناه، سنموت وحيدين"، لكن حكاية النحات تُستعاد مرّة أخرى من أجل استمرار العالم وتواصل التجربة الانسانية التي لا تستمر بغير حكاية تأخذنا أبداً لحياة التماثيل، "فربما ينتهي العالم لو انتهت الحكايات".  



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...