الخميس، مارس 06، 2014

فيلم الكيف.. حكاية المخدر والفن



أحمد عبد اللطيف


     في فيلم "الكيف"، قال تاجر المخدرات للكيميائي الذي يستعين به لعمل تركيبة جديدة من الحشيش، إنه ذات مرة أخلص في عمل التركيبة بالمادة المخدرة كما ينبغي، فتذمر الزبائن وطالبوا بعودة التركيبة القديمة، التركيبة التي لم تتكون من المادة المخدرة الأصلية التي تصنع المود الذي يطمح إليه الزبون. الزبائن طالبوا بالتركيبة المزيفة التي اعتادوا عليها، وتوهموا أنها الأصلية. والتركيبة الجديدة التي طلب تاجر المخدرات من الكيميائي عملها هو حشيش من الحنّة غزا الأسواق وكان الأكثر شيوعاً. تركيبة أخرى مزيفة أقبلوا عليها ظناً أنها الأصلية.

     في الفيلم الذي أخرجه علي عبد الخالق وقام ببطولته يحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز وجميل راتب، نجد طرحاً آخر لتركيبة أخرى: تركيبة غنائية يعلم صانعوها أنها مزيفة، غير أنهم يصرون عليها. المطرب بصوته النشاز يغني كلمات هابطة بلحن أقل ما يقال عنه إنه ضجيج منظّم. ومع تقدم المشاهد، نجد شريط الكاسيت منتشراً في الشوارع والمقاهي ووسائل المواصلات، وتعليقات من قبيل "في الأول معجبنيش بس بعدها اتعودت عليه وعجبني"، وموزع الشرائط يتباهى بالواد اللي كسر الدنيا.

     سردياً، يتطور الفيلم في خطين متوازيين، ليحكي حكايتين: عالم المخدرات التحتي بخباياه، وعالم الفن الجلي والذي رغم وضوحه لا أحد يستطيع أن يعلن أنه كشف خباياه. وبينما يتقدم الكيميائي في الحكاية الأولى في تعاونه مع تاجر المخدرات، يبدأ شريط الكاسيت في الانتشار. الأول يصنع مخدراً من الحنّة يطلبه السوق، والثاني يعبيء الشريط بأغنية الكيمي كيمي كا التي تكسّر السوق. والزبون موجود، دائماً موجود، يتلقى ما تعود عليه، يتلقى ما يمكن أن يتعود عليه.

     أيهما يصنع الفن\ المخدر في الحقيقة؟ ذوق المتلقي\ الزبون؟ أم رؤية الفنان\ التاجر؟ المطرب في الفيلم يقدم فناً هابطاً، الذوق العام لم يكن يألفه، استغربه في البداية ثم أعجبهم بعد أن اعتادوا عليه. في نفس المشهد، يظهر شاب بنظارة في تاكسي ليبدي تذمره من السائق ومن الأغنية، لكن ذلك لم يغير من الواقع شيئاً. وعلى الجانب الآخر، الكيميائي يصنع المخدر من الحنّة فيحقق نجاحاً ساحقاً، الزبون جرّب الجديد وآلفه وأقبل عليه.

     الفنان إذن هو من يستطيع أن يقود الدفة. بوسعه أن يقدم فناً راقياً كما بوسعه أن يقدم فناً هابطاً. تردى الفن لا يمكن أن يكون سببه المتلقي بقدر الفنان، والترسيخ للفن السيئ مسؤولية الفنان أولاً ثم الداعمين له. المتلقي\ الزبون موجود دائماً، في انتظار ما يأتي، والفنان السيئ موجود أيضاً ليعلق ضعف موهبته على الذوق العام. من هنا كانت فائدة الفن التجريبي والطليعي، تحريك الفن الجيد في طرق جديدة، إلقاء حجر في الماء الراكد. في البداية يستغربه المتلقي، ثم يعتاده وترتفع به ذائقته. كما يعتاد أيضاً الفن الهابط، وتنحدر معه ذائقته. المغامرة هي روح الفن، هي عقله المدبر، هي ما يسمونه الفنانون بـ "الجنون". وهي ما تبقى.    


منشور في "قل"

رحلة الواقعية السحرية



أحمد عبد اللطيف



     في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، هاجر الكثير من العرب، وخاصةً من فلسطين ولبنان وسوريا إلى دول متعددة من أمريكا اللاتينية، لعل أبرزها كولومبيا وتشيلي والأرجنتين. لم يهاجروا فقط بذوات محبطة وبحثاً عن حياة أقل قسوة، بل هربوا بأحلامهم وحكاياتهم وموروثهم الثقافي إلى أرض لا يعرفون عنها شيئاً. هربوا في مجموعات، وظلوا يتوافدون على هذه الأرض جيلاً وراء جيل، حتى شكّلوا داخل المجتمع الجديد جاليات عربية لها قوة التأثير في الثقافة، كما كان لها قوة التأثير في السياسة في بعض الأحيان. ليس غريباً إذن أن تكون زوجة جارثيا ماركيز من أصول مصرية، ولا أن يعيش الكاتب الكولومبي الحائز على نوبل في قرية أغلب سكانها من العرب، ولا أن يبدأ بورخس في آخر عمره في دراسة اللغة العربية على يد مدرس سكندري.  لكن الملفت جداً أن العربي اشتهر في هذه المجتمعات بأنه حكّاء، وأن حكاياته تتكيء على الفانتازيا والحلم، والواقع القادم منه مثّل بالنسبة للواقع الجديد ما سمي بعد ذلك بالواقعية السحرية.  

     ربما من هنا يمكن التقاط الخيط، بل وأبعد من هنا بكثير حين تم اكتشاف أمريكا عام 1492. في هذا التاريخ الذي يتفق أيضاً مع سقوط الأندلس، هاجر الكثير من العرب الأندلسيين إلى القارة الجديدة، وتركوا فيها بذرة ثقافتهم العربية. لكن الهجرات الحديثة، أقصد التي تمت بعد أربعمائة سنة تقريباً من هذا التاريخ، ربما كانت أكثر تأثيراً على الأدب اللاتيني الذي ظهر بعد ذلك بسمات تبدو موشومة بالطابع العربي. هل يكون للعرب المهاجرين أي فضل في تشكيل وعي ما سمي بجيل الانفجار اللاتيني الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين؟ أغلب الظن أن تأثيرات الثقافة العربية في بورخس وإيزابيل الليندي وجورجي أمادو وماركيز لم تكن فقط تأثيرات قادمة من قراءة ألف ليلة وليلة، بقدر ما كانت احتكاكاً مباشراً بأبناء هذه الثقافة، بل وقراءةً أيضاً لأبناء المهاجرين الذين صاروا فيما بعد كُتّاباً مزدوجي الهوية، ومن بينهم والتر غريب التشيلي الفلسطيني، والذي تجمع روايته "المسافر والبساط السحري" العناصر المعروفة –بحسب الغرب-عن عناصر الكتابة العربية: الفانتازيا والحلم والواقع السحري. ورغم أن رواية غريب تقوم في الأساس على تيمة الهجرة من فلسطين لتشيلي، وتضع في الخلفية الهرب التاريخي من الامبراطورية العثمانية، إلا أنها تخلق شخصياتها المعتقدين فيما هو سحري وحلمي بشكل مكثف.  

     لعل الاقتراب من هذه النقطة، التي تناولتها العديد من الكتابات في القارة اللاتينية، والتي اهتمت بتأثير العربي وثقافته وحتى ظهوره في أعمال عدد كبير من الروائيين اللاتين، يفتح لنا أفقاً جديداً في الاقتراب من موروثنا الثقافي، وربما من خلال الآخر يمكننا إدراك أهمية التراث العربي والأسئلة التي طرحها عبر الفانتازيا ومحالاوته الجادة في الاقتراب من الميتافيزيقي. ودون أن نريد رد الفانتازيا البورخسية أو السحرية الماركيزية إلى أصول عربية، نريد أن نؤكد على الأقل أن هذا الإنتاج الأدبي الثري استفاد حتى النخاع من التجربة العربية، سواء عبر قراءة كتب التراث العربي أو من خلال التعامل مع الذهنية العربية التي تؤمن بالميتافيزيقي وترسخ له حتى في الحياة اليومية. 

منشور في "قل"

هوية النوبة كطفل في عرض النهر



أحمد عبد اللطيف

     في غفلة من الزمن، قررت الدولة أن تكون لغتها الرسمية هي العربية ودينها هو الإسلام، وبالتالي فالهوية المعترف بها هي الهوية العربية الإسلامية، مقصيةً بذلك كل الهويات الأخرى.
     أراد عبد الناصر في لحظة الشبق العروبية أن يعلي من شأن الثقافة التي تجتمع حولها الدول العربية بلا اختلاف ليكوّن اتحاداً عربياً، فاتخذ طريقه إلى ذلك طمس الثقافات المصرية الأخرى التي لم ترتكب ذنباً سوى بقائها خارج مخططه. الأمر لا يقتصر على تهجير أهل النوبة من أراضيهم لبناء مشروع قومي سيعود بالخير على البلاد-بحسب الخطاب الناصري-، بل إهمال النوبيين بثقافتهم ولغتهم المميزة، والقسوة في نقلهم لمكان آخر مثلما نقلت المعابد الغارقة عقب قيام السد. الفارق الوحيد أنه كرّم المعابد أكثر مما كرّم البشر، فجاء للمعابد بمتخصصين اختاروا المكان الأنسب لها، فيما لم يهتم باختيار متخصصين من أهل النوبة ليختاروا المكان الجديد. لقد انتزعهم من أرضهم وألقى بهم في أرض جديدة متناسياً علاقة الناس بأماكنهم وجذورهم، وإيماناً منهم بالمشروع القومي، التزموا الصمت. لكن تقصير الدولة لم يتوقف عند التهجير، بل امتد لتسييد الثقافة العربية على الثقافات الأخرى، فغابت عن المشهد الثقافة النوبية الممتدة بجذورها في الأرض المصرية، ولم تعترف بها الدولة، بل حاربتها.
     السؤال الآن، والممتد منذ أكثر من ستين عاماً، ما الضرر الذي يقع على الدولة باعترافها بأنها متعددة الهويات، وأن الثقافات الأخرى غير العربية تثري البلد وليس العكس؟ ما المانع حقيقةً أمام المساهمة في مشروع تحويل اللغة النوبية إلى لغة مكتوبة؟ ما الأزمة في أن تسخّر وزارة الثقافة جزءاً من قصور ثقافتها لدعم الفن النوبي ونقله خارج حدوده؟ لا أظن أن مسؤولاً ثقافياً اهتم من قبل بجمع التراث الشعبي النوبي، ولا أظن أن هناك طريقة حكومية لتوثيق الموسيقى النوبية وأغانيها، ولا أعرف-في حدود علمي- أن الدولة قد أعطت أي خطوة للأمام للالتفات لمكونات الثقافة النوبية. حتى متحف النوبة بأسوان الذي يضم معلومات عن تاريخ النوبة ويستعرض أهم تقاليدها، شيدته منظمة اليونسكو.
     لن تستطيع دولة العواجيز أن تعرف قيمة الهوية النوبية إلا بقراءة تاريخها شديد القدم، ثم زيارة النوبة الجديدة، حتى وعودها الدستورية بالاعتراف بالثقافة النوبية كإحدى الثقافات المصرية، ستنحصر في كتاب يعلم الجميع أن لا أحداً ينظر فيه، كما انحصرت من قبل الحقوق والحريات وعادت الدولة الأمنية قبل أن يجف الحبر على الورق. لن يستطيع مسؤول أن يتبنى مشروعاً لثقافة لم يزر أهلها، لم يتحرك بينهم، لم يشاهد الرسومات على واجهات بيوتهم ذات الطابق الواحد أو الطابقين، لم يسمع موسيقاهم وأغانيهم، وبالطبع لم يتعاطف مع قضيتهم.
     في زياراتي الكثيرة للنوبة الجديدة، غرب سهيل، سواء عبر مركب أو فوق جمل، لمست هويةً أخرى جديرة بالحفاظ عليها والدفاع عنها، هويةً خاصة وفريدة في مكوناتها. وبالإضافة للطيبة وبشاشة الوجه والكرم، يُلمح الفن الطبيعي على واجهات البيوت وداخلها، تُلمح هندسة البيوت المطلة على النهر مباشرةً، ببساطتها وأناقتها، تُلمح الصناعات اليدوية من سجاد وعقود وأساور تعبر عن المكان وخصوصيته. ويلفت الانتباه سماحة أهلها مع الهويات الأخرى وحسن استقبالهم لها. إنها هوية يتم إقصاؤها، في حين لا تطمح سوى إلى تجاور هويتها مع الهويات المختلفة.
  ولعل أكثر ما يلفت الانتباه، في الطريق إلى النوبة أو العودة منها، طفل صغير في مركب صغير جداً داخل نهر عميق، يجلس نصف عارٍ ببشرته السمرة، يشاور للزائرين لأرضه بترحاب، متحدياً الطبيعة القاسية بابتسامة ذهبية، ذهبية مثل أرضه، ملخصاً تاريخ النوبة.   

منشور في "قل"             



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...