إبراهبيم عادل زيد
يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث عن «مأساة الموريسكيين» معروفًا ومألوفًا، ليس في الروايات التي تناولت الحدث التاريخي الأبرز في تاريخ الأندلس/إسبانيا فحسب (ونذكر في هذا الصدد «ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، وخماسية طارق علي «تحت ظلال شجرة الرمان»، ولكن لأن الحديث عن «الأندلس»، باعتبارها فردوسًا مفقودًا، كثيرًا ما يتردد ويستعاد باستمرار في دراسات وكتابات التاريخ الإسلامي الحديث.
وأحمد عبد الطيف مترجم وروائي مصري، حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2011 عن روايته «عالم المندل»، وحازت روايته «كتاب النحّات» على جائزة ساويرس عام 2015، كما ترجم عددًا من الروايات المهمة لساراماجو، وخوان ميّاس وغيرهما، عُرف بكتابته التي تنزع إلى التجريب واستطاع أن يبني من خلال رواياته السابقة عالمًا خاصًا به يستطيع القارئ تلمسه واكتشافه مع كل عملٍ جديد.
إقرأ أيضا: كتاب «النحات»: نحو واقعية سحرية مصرية
وعلى الرغم من ذلك كله بدت روايته عن مأساة المورسكيين كحلمٍ بعيدٍ ظل يخايله طويلاً، ولكن لم تواته الفرصة ولا الوقت لكي يكتبه حتى حدث ذلك أخيرًا الآن، في وقتٍ بدا فيه أن المآسي التي يمر بها التاريخ الإنساني تتشابه وتستعاد باضطراد.
تتبّع الرواية حكاية عائلة «دي مولينا» الموريسكية من خلال الأوراق والمخطوطات التي كانوا يحرصون على كتابتها وتدوين يومياتهم فيها ونقلها لأبنائهم جيلا بعد جيل، بدءًا بالراوي الذي لا يرد اسمه منذ عام 1679 (آخر الأوراق المدونة والتي تأتي في بداية الرواية) وحتى عام 1414 تقريبًا (في عقد موثق يشير إلى شراء أرض في كوينكا) كما تتنقّل الرواية بين المدن الأندلسية (تطوان، كوينكا، حصن التراب، وصولاً إلى مدريد) وبين هذه الانتقالات الزمانية والمكانية تدور أحداث الرواية بين شخصياتها وأبطالها المختلفين، تأتي الحكاية في البداية بصوت الراوي الذي يتحدث عن مخطوطة تركها له والده قبيل وفاته:
كنت أتفهّم جولات أبي، وكنت أرافقه كلما سمح لي، كنت أعلم، وهو يعلم أني أعلم، أنه يمر بتجربة روحية لم تتسرّب إليَّ بعد، أو كانت تتسرّب ببطء نهارٍ يتسلل إلى الظلام. بجولاته كان يستعيد الماضي عبر ذاكرةٍ لا تلين، ذاكرة تنشط كلما زادت الخلوة وتعمّقت. وفي خلوتي، في مواجهة خلوته، كنت أستعيد الماضي عبر مخطوطاتٍ تسوّد ذاكرتي البيضاء، أثناء ذلك كان سؤالي حول الموت يتقاطع مع سؤالي عن المستقبل من ناحيةٍ أخرى. إن كان ثمّة آخرة، إن كانت ثمّة جنّة في الآخرة، كما يعتقد أبي، فلابد أن الموتى من يشيدونها.
نتعرف في الرواية على مأساة تلك العائلة من خلال مخطوطات وأوراق «إبراهيم ميجيل دي مولينا» وإخوته «محمد بن عبد الله» وحفيده «مانويل بن مريم بنت عبد الله» و«عائشة بنت مريم بن عبد الله» و«خوان دي مولينا» و«كارمن دي مولينا» وغيرهم من شخصيات الرواية الذين نتعرّف على أطرافٍ من حكاياتهم التي تأتي من خلال أوراقٍ تركوها يجمعها الراوي في رحلته إلى «حصن التراب» حيث مقر أسرته القديم، ونجد في كل فصل أو جزءٍ من تلك الحكايات أثرًا من آثار المأساة أو طرفًا من أطرافها، حتى نهاية الرواية.
لا تعتمد الرواية إذن على حبكة تقليدية ولا حكاية متسلسلة، بل على العكس تعمد إلى تفكيك القصة القديمة، وعرضها بشكل آخر من خلال الاعتماد على فكرة المخطوطات والأوراق تلك التي تجعل القارئ منتجًا آخر للنص، يجب أن يتعامل معه بتركيزٍ شديد لكي يجمع أطراف الحكاية وفقًا لترتيبها الزمني الطبيعي، ولكنه في الوقت نفسه يتمكن من قراءة الحكاية والتعرّف على المأساة.
تبدو الحياة كلغزٍ كبير، ليس بوسعي مهما بذلت من جهدٍ أن أفكه أو أصل لعقدته، مشهد الرحيل، الطرد، التهجير، لا يزال مشهد حياتي كلها. النقطة التي أدور حولها، كل ما جاء بعده يترتب عليه، كل ما جاء بعده لا يمكن فهمه دونه. حياتنا في «تطوان» لم تكن إلا حلقات ممتدة في نفس السلسلة. حلقاتٍ يمكن تلخيصها في منظر «كارمن» وهي غارقة في الدموع، منظري أنا وأبي سنواتٍ طويلة بمفردنا، نجلس بظهرنا على شاطئ البحر، ننظر للضفة الأخرى بيننا وبين أرضنا كيلومترات قليلة. بيننا وبين أجدادنا عبور البحر، لكن عبور البحر صار مستحيلا، وكمحاولة للتعايش مع الحاضر شيدنا بيوتنا على الطراز الأندلسي، المعمار الوحيد الذي عرفناه واعتادته أعيننا. …… (من أوراق ميجيل دي مولينا 1653)
تدور الرواية في «إسبانيا» وتتحدث عن مأساة المورسيكيين، ولكنها في الوقت نفسه تذكّر القارئ بعددٍ من الحوادث الواقعية التي تحيط بنا في عالمنا العربي، بل وواقعنا المصري من اضطهادٍ للأقليات الدينية والعرقية، واستغلال السياسة والدين لقهر شعوبٍ أخرى وفئاتٍ أخرى من المجتمع لم يكن ذنبها ولا جريرتها إلا أنها اعتنقت دينًا مخالفًا لدين السلطة الحاكمة، فتم قمعها وتهجيرها ومحاكمتها بأبشع الطرق.
والرواية إذ تعرض كل ذلك لا تعرضه بطريقة «ميلودرامية» ـ كما جرت العادة ولا تمعن في وصف المأساة وإنما تأتي على الحوادث والكوارث كما جاءت في الوثائق التاريخية تارة، وكما يأتي في الرسائل والمخطوطات المتخيلة المتروكة من جيلٍ لجيل حتى لا تضيع الحقيقة بمرور الزمن كما يحدث عادة، حتى لا تنسى الأجيال اللاحقة ذلك التاريخ المأساوي الذي يبدو أنه لا يمل من التكرار!
وأخيرًا، لا يخدعنّكم أحد بأن الكاثوليكيين يكرهون المسلمين، ولا أن الكاثوليكيين يتطلعون لطرد وقتل المسلمين، انظروا إلى أعمق مما ترونه على السطح، فحقيقة الأشياء ليست كما تبدو عليه، انظروا لتروا أن الملك يحرّك الكنيسة، وليست الكنيسة من تحّرك الملك، انظروا لتروا أن مآرب الملك الكاثوليكي تختصر في السلطة والسيطرة والتوسع، والكنيسة محض أداة، الكنيسة التي تتحدث باسم الرب تجمع من الأتباع أكثر من الملك الذي يتحدث باسم الوطن. والضحية «الكافر» لن يجد من التعاطف ما يمكن أن يجده الضحية الخائن. هكذا يفتشون في ضمائرنا حتى ينتزعوا أملاكنا، لا ليرسموا أيقونات القديسين في قلوبنا. … (من أوراق عبد الله دي مولينا 1471)
طاقات الكتابة السردية
لعل أبرز ما يميّز «حصن التراب» ويجعلها رواية فارقة ليس في طريقة عرضها للمأساة فحسب، وإنما في طريقة كتابتها أيضًا، هو استخدام «أحمد عبد اللطيف» لكل طاقات الكتابة السردية المتاحة، فالروائي الذي خاض في عوالم الفانتازيا والخيال طويلًا في رواياته السابقة «كتاب النحات» أو «عالم المندل»، استطاع أن يفيد من ذلك البناء الخيالي الفانتازي لاسيما في الفصول التي تتحدث عن تحوّل أبطال الرواية إلى أحجار (أوراق مانويل دي مولينا 1609) التي تبدو من أشد فصول الرواية شاعرية وإعمالاً للخيال ووصفًا لشعور الغربة.
بعد ذلك الانتقال الذي حل بأفراد تلك العائلة، نجد ذلك من جهةٍ أخرى في تقنية الكتابة التي استخدمها الكاتب والتي لجأ في فصولٍ منها إلى التشكيك في الأحداث وحالة اللايقين التي يتحدث بها السارد، حدث ذلك في أكثر من فصلٍ من الرواية ومع أكثر من شخصية، لعل أبرزهم كانت «عائشة دي مولينا» التي كانت تشك في وجودها وفي وصيّة أمها وعلاقتها بأختها، تلك الحالة التي ربما تذكرنا ببطل روايته السابقة «إلياس».
ليس هذا فحسب، بل عمد الكاتب إلى إضافة عدد من الراوبط الإلكترونية التي تحيل إلى مقطوعات موسيقية، صوفية وأندلسية، وأفلام وثائقية، وذكر في مقدمة الرواية أن «اللعبة السردية» لن تتم إلا بالاطلاع على تلك الروابط والاستماع إليها ومشاهدتها. من ذلك مثلاً مشهد فيديو بعنوان «ما الذي اقترفه المورسيكيون» يعرض لعدد من اللوحات التي تصف المأساة باللغة الأسبانية، وفيلم «الموريسكيون في الأندلس» المدبلج والذي تم عرضه على الجزيرة الوثائقية.
وهكذا تتضافر الصورة والمشاهد والموسيقى مع النص الروائي المكتوب، لتضع المتلقي في قلب حالة الرواية وعالمها، وربما يفاجأ القارئ أن عددًا من تلك المقاطع والمشاهد من مسلسلات ليست عربية أصلاً، بل بعضها أجزاء من مسلسلات إسبانية الأصل، أو برامج تتحدث عن «الموريسكيين» وتراثهم الباقي في إسبانيا حتى اليوم.
ولا شك أن مثل هذه الإحالات لن يكون من اليسير على قارئ الرواية متابعتها، ولكنها موجودة في متن الرواية وأشار الكاتب إلى ضرورة الرجوع إليها، وهي مع المراجع الواردة في نهاية الرواية تجعل من الرواية بكل تفاصيلها محاولة جادة لتحفيز القارئ ودفعه دفعًا إلى التعرف على الأحداث واستكشاف عوالمها سواء من خلال لقطات الفيديو أو الموسيقى أو المراجع التاريخية وغير ذلك.
وهكذا تبدو الرواية بشكلٍ عام محاولة جادة للخروج من أسر «البكائيات على الماضي» إلى التعرّف على ذلك الماضي بشكلٍ موسّع واستيعابه لعدم تكرار ما حدث فيه من أخطاء، ولعل هذا ما نجح فيه «أحمد عبد اللطيف» بشكل كبير، حيث تخلَّصت الرواية مما قد تمتلئ به مثل هذه الروايات من «ميلودراما» سواء في مشاهد التهجير أو التعذيب أو المحاكمات وغيرها، إلى استيعاب ذلك الحدث التاريخي ووصفه ومحاولة فهمه وتجاوزه.
وبين هذا وذاك تبقى الرواية بحثا طويلا يتجاوز حكاية الموريسكيين إلى طبائع الناس والشعوب، ورصد علاقتنا بالآخرين، وتقبلنا للآخر، كما هي بحثٌ في الحياة وعلاقتنا بالموت، وما تتركه الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة، وأثر ما نكتبه ليبقى وما نتركه فيذهب في أدراج النسيان.