أحمد عبد اللطيف
(1)
في الفيلم
الإسباني "الجلد الذي أعيش فيه" للمخرج الشهير ألمودوفار وبطولة أنطونيو
بانديراس، تتعرض ابنة البطل المصابة بمرض نفسي للاغتصاب أثناء حفلة على يد أحد
الشباب، فيقوم البطل، وهو عالم طبيب متخصص في أمراض الجلد والتجميل وله أبحاث هامة
في تخصصه، باختطاف المُغتصِب وإجراء عمليات مرهقة له لتحويله تماماً إلى أنثى، إلى
أنثى جميلة، أنثى لا يمكن ردها إلى ذكورتها الماضية. حتى هنا، رغم القسوة الشديدة
في الانتقام والتي نقلها المخرج في مشاهد هادئة كنصل سكين يشق قلباً، يمكن تلقي
العمل باعتباره واقعياً: فتاة مهانة وأب مكلوم ومُغتصب يقوم بدور الضحية. غير أن
تطور الأحداث يضع الفيلم في منطقة العبث، العبث البدائي، عبث النسيان، عبث
الانصهار والذوبان في الآخر.
(2)
ما من جديد
في صورة المغتصب الذي فقد إنسانيته وتغلبت أنانيته على التفكير لحظة واحدة في
الضحية، ولا في صورة الضحية الضعيفة التي عجزت عن الدفاع عن كرامتها فازداد مرضها
النفسي تعقيداً وراحت للموت بقدم لا تريد أن تطأ الحياة مرة أخرى، ولا في الانتقام
من جانب الأب حتى ولو بدا انتقاماً مفرطاً تركز في الأساس حول سقي الآخر من نفس
الكأس ودفع نفس الثمن كبديل للموت الذي اعتقد الأب أنه راحة لا يشعر بعدها الإنسان
بفداحة ما اقترف. الجديد أن يقع الأب\ الضحية في هوى المرأة الجديدة التي صنعها
بيده وأن يصل للأورجازم عبر ثقب ساعد في شقه، ثقب كان يشغل مكانه من قبل عضو نافر
اخترق بلا رحمة مخبأ فتاة كان يكفيها ما أصابها من مرض جمّد حياتها، فتاة كانت
ابنة لنفس هذا الرجل الذي يذوب عشقاً في المغتصب.
(3)
بهذه
العلاقة المعقدة يطرح الفيلم، الذي يمكن أن نخرجه من حدود جنسيته ليشمل بإنسانيته
كل الثقافات والمجتمعات، سؤالاً أكثر تعقيداً عن علاقة الضحية والمغتصب، والضحية
في هذه الحالة ليس فقط الفتاة التي انزوت بعيداً ورحلت في صمت، بل بالأساس الأب
المكلوم، المغلول، المهزوم أمام ابنته قبل أن يُهزم أمام العالم. الضحية صار
عاشقاً للمغتصب، يشتري له الملابس الجديدة، يعد له فناجين القهوة، يضاجعه بوله
يكفي بشكل قاطع لمشاهدة التسامح مجسداً. الضحية يدلل المغتصب بما يليق بامرأة
جميلة ومخلصة، تستحق نجوم السماء بلا أدنى شك. فتفتح هذه العلاقة المثيرة للجدل
سؤالاً أكثر رحابة لفهم البنية السيكولوجية للكائن الإنساني، بنية أكثر تشوهاً مما
يُعتقد، وربما أكثر هشاشة وسذاجة، بنية تتسق تماماً مع صورة الحاكم والمحكوم،
الفرد في مواجهة الديكتاتور، التابع في خطواته خلف المتبوع، كلها صور مختلفة في
ظاهرها غير أنها في العمق لها نفس الخطوط والدوائر والمربعات، نفس الخضوع ودرجة
التماهي وقوة الانكسار، بل ونفس القدرة على شغل نفس المكان بآخر عند غيابه، لتسير
المعركة في طريقها الخاطيء: معركة خلق مقدس جديد بدلاً من التشافي من أفكار
التقديس.
(4)
وبمد الخيط
على استقامته، يتطور حدث "الجلد الذي أعيش فيه" ليسقط قناع المغتصب
المحتقن لفقد ذكورته، وليتبين أن كل
الهدايا التي تلقاها لم تكن مرضية، وليتحرك كأنه الضحية التي يجب أن تنتقم من
مغتصبها. إنها سخرية تبادل الأدوار، نسيان الخطايا المقترفة ونسبها لآخر، ذوبان
الخطيئة مع المغفرة في نفس كأس المياه، حد الوصول لاستحالة الفصل بينهما، فيصير من
حق كل منهما أن يختار طبيعته الكيمائية. ولأن الضحية اختار أن يكون الراعي،
العاشق، المتسامي، اختار المغتصب في المقابل أن يكون الضحية التي فقدت حقها في
الحياة والآن يجب الدفاع عن هذا الحق. فيكتمل الحدث بقيام المغتصب الأصلي بقتل
الضحية الأصلية، يقتله من جديد، يقتل الأبَ الذي اغتُصبت ابنته، الأب الذي ماتت
ابنته، الأب الذي نسى، في غمرة أحداث الحياة، أن من يعيش معه تحت سقف بيته وداخل
غرفة نومه ليس بضحية، بل المغتصب الذي أفقده بهجة الحياة.