العجوز والصرافة الشابة
الإثنين 21 مايو
الاهرام المصرية
إبراهيم أصلان
الكاتب( خوان خوسيه مياس) أحد أبرز الكتاب الأسبان المعاصرين. له مجموعة من الروايات والقصص القصيرة التي ابتدع لها شكلا يراوح بين القصة والمقالة, وهو عندما بدأت الحرب الاسرائيلية علي لبنان كتب مقالا يختزل الحرب كلها في شخصية مانيكان كانت ترتدي فستان عرسها عندما قطعت إحدي القنابل رأسها وفصلتها عن جسمها, وراح يقول إن هذه المانيكان التي كانت تهرب, قبل المعركة من شارع إلي آخر: لم تعد بحاجة إلي وجه لكي يعبر عن مدي الرعب الذي ينتابه, فبالرغم من أنه وجه بلا عينين إلا أننا نستطيع أن نري الخوف في حدقتين, وبالرغم من أنه بلا فم, فإنه يحمل إنذارا مرسوما فوق شفتين, واليدان المقطوعتان تطيران أمامه مثل عصفورين مذعورين من الصراخ الخارج من حنجرة ذبيحة..
هذا الكاتب, صدرت له مؤخرا واحدة من أحدث رواياته بعنوان( لاورا وخوليو) نقلها إلي العربية أحمد عبداللطيف, وصدرت عن قطاع الثقافة بمؤسسة أخبار اليوم, وهي رواية شديدة الغني والتكثيف وتقوم بشكل أساسي, ربما, علي الثالوث الشائع: الزوج والزوجة والصديق وهي تفعل ذلك علي نحو غير مطروق, والزوج( خوليو) يعمل مهندسا للديكور وعلي هذا فهو مكلف بإعداد ديكور فيلم يتم إعداده داخل نص الرواية, هذا الفيلم, وليس الرواية, وهو ما أريد أن أحدثك عنه الآن.
الفيلم يتناول علاقة تنشأ بين صرافة شابة تعمل في سوبر ماركت وبين سيدة عجوز لها جسد كالعصفور. إنها تشتري كل يوم رغيف خبز وعلبتي زبادي, وساعة الدفع كانت تختار أن تقف في الصف الذي يؤدي لهذه الصرافة الشابة. وسرعان ما نشأت بينهما حالة من الود والصداقة الصامتة, وذات يوم, وبعد أن وضعت العجوز ما اشترته في حقيبتها, سلمت للشابة مظروفا ما إن فتحته حتي وجدت به مفاتيح بيت العجوز, كما وجدت ورقة كتبت فيها تقول, فضلا عن عنوان بيتها القريب: إذا لم آت ذات يوم لشراء احتياجاتي فالسبب سيكون وفاتي, وفي هذا اليوم أدخلي بيتي, خذي كل ما يعجبك كذكري, وبعد ذلك بلغي الشرطة ليدفنوني كما ينبغي, قبل أن يتعفن جسدي.
ومرت الأيام والعجوز تظهر في موعدها. لقد توطدت علاقتهما. وبينما الصرافة الشابة تضع المشتريات علي جهاز كشف السعر, كانا يتحدثان عن الحياة والصحة والزمن. وكانت العجوز تشتري كل يوم أقل من سابقه, كأن صحتها تسوء مثلا أو احتياجاتها تقل, من دون أن تشيرا أبدا إلي الاتفاق الذي تم بينهما.
أخيرا, اختفت العجوز. وأنهت الصرافة الشابة ورديتها الأولي والثانية وأغلق السوبر ماركت أبوابه والعجوز مازالت مختفية. حينئذ توجهت إلي منزلها القريب, ودقت الجرس عدة مرت من دون جدوي, حينئذ فتحت الباب بالمفتاح الذي تحمله, ودخلت.كانت العجوز ميتة فوق كنبة الصالون. وكان التليفزيون مشتعلا.
بعد لحظات الحيرة الأولي تجولت في الشقة وقلبت الأدراج حتي عثرت داخل أحد الدواليب علي حافظة كبيرة من الجلد ممتلئة بالمال, لقد كان المبلغ أكبر مما تستطيع أن تتخيل. وعندما حملت الحافظة تحت إبطها وهمت بالخروج خيل إليها أن العجوز تتنفس, وعندما لمست كتفها برعب, عادت العجوز لسكونها, حينئذ خرجت بالمال, لكنها لم تبلغ الشرطة.
سيبلغها أحد الجيران عندما تفوح الرائحة في السلم. هكذا فكرت. لقد انتصر الجشع والحاجة علي ما هو إنساني, حتي لو لم تكن العجوز قد ماتت فهي علي وشك ملاقاة أجلها, بالإضافة إلي ذلك هي في حال من السكينة ولا تعاني.
خلال الأيام التالية كانت اشترت شقة هائلة, بينما راحت تعاني من صراع بين تأنيب ضميرها ومتعتها بالمال. أسبوع وراء آخر. فجأة رأت العجوز تدفع عربتها في السوبر ماركت, تشتري ما اعتادت شراءه من أكل يشبه أكل العصافير. وهي, بعدما فعلت, اتجهت إلي صف آخر, غير الصف الذي يؤدي بها الي الصرافة الشابة.