جريدة القدس
فضوها سيرة
فضوها سيرة
عزت القمحاوي
22 يوليو 2008
من أمتع ما كتب حول الرواية الأكثر فتنة ـ بعد دون كيشوت ـ أعني الجميلات النائمات، دراسة لماريو فارجاس يوسا يعيد فيها الرواية إلي أصل توراتي، هو حكاية أبيشج الشونمية التي اضطجعت في حضن الملك داوود (ليدفأ سيدنا المك) بعد أن فشلت كل الأغطية في دفع برودة الاحتضار.وقد انتحر ياسوناري كاوباتا من دون أن يكشف عن المثير الذي ألهمه روايته الجميلة، لتبقي قراءة يوسا مجرد فرضية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. وصوابها يكمن في شواهد أخري تؤكد أن العين الغريبة علي ثقافة ما تستطيع التقاط ما لا تلاحظه عين الذات، وفيما استخرجه الكتاب الغربيون من كنوز ألف ليلة والتصوف الشرقي عبرة لمن يعتبر.وهذه الفرضية؛ فرضية العين الغريبة التي تري أوضح، تجعلنا نتشكك في فرضية أخري متفشية بين النقاد العرب تعلق افتقارنا إلي فن السيرة الذاتية، علي عدم شيوع ثقافة الاعتراف التي تطبع المجتمع المسيحي الغربي. ويأتي الرد علي هذه الفرضية من بوذي ياباني آخر هو يوكيو ميشيما الذي كتب واحدة من أفضل السير الذاتية (اعترافات قناع) التي يمكن ردها بسهولة إلي تقليد الاعتراف الكنسي، والإحساس بالذنب أكثر مما نستطيع أن نرد أية سيرة ذاتية غربية، من اعترافات القديس أوغسطين إلي اعترافات جان جاك روسو وحتي جان جينيه، وجينيه بالذات يتناول ذات الموضوع الذي يتناوله الياباني ميشيما، لكن ميشيما هو من يكتب بإحساس المذنب لا المسيحي جينيه. ويذكرنا جان جينيه بمحمد شكري الكاتب العربي الذي يمكن أن نحسبه علي تقاليد الاعتراف كأي من كتاب أوروبا المسيحية.وكل هذه الشواهد: من رواية كاواباتا إلي اعترافات محمد شكري تؤكد إمكانية تأثر الغريب بتقاليد الثقافة الأخري، أو لنعترف بأن الرغبة في البوح، ولع يوحد البشرية.وفي الحالتين علينا أن نبحث عن سبب آخر لتعثر فن السيرة عربياً.ولنتفق أولاً علي أن إلصاق صفة (الاعتراف) كمحدد وحيد لفن السيرة ينقل هذا الفن من فنون الأدب إلي فنون الصحافة، مثلما نقلت فضائل البوح والكشف والتعرية الرواية العربية من مقام الفن إلي مقام نشرة الأخبار.في بعض السير كـ اعترافات قناع وفي بعض الروايات السيرية كـ البحث عن الزمن المفقود قد لا نعثر علي حدث أو فعل يتم الاعتراف به، فكثير من الأعمال الحلوة تنبع حلاوتها في تمحورها حول ما لم يحدث، وليس ماحدث. لكن غياب الفعل لا يعني غياب التفكير فيه، وسكون الجسد يعوضه صخب الروح، التي تغلي بأسئلة الكتابة والوجود. ربما هنا يكمن السر. وفي الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الكاتب يكمن الفرق بين عديد من السير الذاتية العربية غير الممتعة، وبين السير الممتعة في آداب الشرق والغرب. سيرة الكاتب تسبر اعماق أحلامه ومخاوفه، وسيرة المواطن تقدم أوراقاً ثبوتية: ولدت سنة...، وتخرجت في...، وتتلمذت علي!والمشكلة أيضاً ليست مشكلة حرية؛ فسيرة أدباء من أمثال كزنتزاكيس أو ماركيز، أو ساراماجو (التي انتهيت من قراءتها حالاً وكانت في الحقيقة دافعي إلي هذه التأملات) ليس فيها ما يحتاج إلي الحرية، أو ما يمكن أن يتحرج كاتب من ذكره في أكثر المجتمعات العربية تزمتاً. لا تصادم مع الدين ولا اجتراح بطولات ضد الإله، ولا تنفج بفحولة حقيقية أو مدعاة مع النساء.ليس لدي أي منهم سوي عذوبة الحكي، حول طفولة وشباب عاديين، وتحت هذه العادية الخادعة نلمح عذابات الكائن وتشوفه إلي الكتابة. نيكوس كزنتزاكيس جعل من سيرته الطريق إلي غريكو صعوداً نحو الجد، أو نحو الإطلالة الكريتية إطلالة المجد يعني، وهي القيمة الحقيقية التي يراها لوقائع حياته. ماركيز أخذها من أقصر الطرق، ليقرر في العنوان أنه ما عاش حياته إلا ليرويها، بينما يعنون ساراماجو سيرته بعنوان شديد التواضع الذكريات الصغيرة 1 ويقول فيها إنه فكر في البداية بتسميتها بـ كتاب الوساوس فما يحكيه هو وساوسه وتخوفاته من وقائع بسيطة مثل الخوف من زوج الجارة لأنه تعرض لها بكلمة، أو انتظار انتقام أب لفتاة لم يفعل سوي أن نظر إليها من الشرفة، أو التكوم تحت اللحاف منصتاً لخطوات مجذوم علي أرضية المطبخ الخشبية، وقد من الشاشة في الفيلم الذي شاهده في في ذات الليلة وتتبعه من صالة السينما إلي بيت خالته، حيث جاء ليقضي شطراً من عطلته الصيفية عندها!يتذكر ساراماجو، عندما أرسلته أمه لشراء ملح من محل البقالة القريب، وفتح القرطاس وتذوق حبات الملح. واقعة شديدة التفاهة ولا تستحق أن تروي، إلا أنها كانت طريقه لاكتشاف أكثر المرطبات بدائية: مزيج من الملح والخل والسكر. وقد استخدم هذه التركيبة بعد ذلك في كتابه الإنجيل لقتل العطش الأخير للمسيح.هذه القصة وغيرها مما تضمنته سيرة ساراماجو توضح الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الفنان؛ الأول يراكم الوقائع والأخبار التي لا يدري القاريء لها نفعاً، مهما كانت أهميتها لصاحبها، والثاني يحكي عن أكثر الوقائع ابتذالاً، لكنها تصبح ذات شأن في علاقتها بفنه وتأثيرها عليه. الفن وحده هو ما يعطي هذا المواطن البرتغالي أو ذاك اليوناني أو الكولومبي مشروعية التعري أمامنا، وهو ما يعطي ذكرياته مشروعية أن تروي.
22 يوليو 2008
من أمتع ما كتب حول الرواية الأكثر فتنة ـ بعد دون كيشوت ـ أعني الجميلات النائمات، دراسة لماريو فارجاس يوسا يعيد فيها الرواية إلي أصل توراتي، هو حكاية أبيشج الشونمية التي اضطجعت في حضن الملك داوود (ليدفأ سيدنا المك) بعد أن فشلت كل الأغطية في دفع برودة الاحتضار.وقد انتحر ياسوناري كاوباتا من دون أن يكشف عن المثير الذي ألهمه روايته الجميلة، لتبقي قراءة يوسا مجرد فرضية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. وصوابها يكمن في شواهد أخري تؤكد أن العين الغريبة علي ثقافة ما تستطيع التقاط ما لا تلاحظه عين الذات، وفيما استخرجه الكتاب الغربيون من كنوز ألف ليلة والتصوف الشرقي عبرة لمن يعتبر.وهذه الفرضية؛ فرضية العين الغريبة التي تري أوضح، تجعلنا نتشكك في فرضية أخري متفشية بين النقاد العرب تعلق افتقارنا إلي فن السيرة الذاتية، علي عدم شيوع ثقافة الاعتراف التي تطبع المجتمع المسيحي الغربي. ويأتي الرد علي هذه الفرضية من بوذي ياباني آخر هو يوكيو ميشيما الذي كتب واحدة من أفضل السير الذاتية (اعترافات قناع) التي يمكن ردها بسهولة إلي تقليد الاعتراف الكنسي، والإحساس بالذنب أكثر مما نستطيع أن نرد أية سيرة ذاتية غربية، من اعترافات القديس أوغسطين إلي اعترافات جان جاك روسو وحتي جان جينيه، وجينيه بالذات يتناول ذات الموضوع الذي يتناوله الياباني ميشيما، لكن ميشيما هو من يكتب بإحساس المذنب لا المسيحي جينيه. ويذكرنا جان جينيه بمحمد شكري الكاتب العربي الذي يمكن أن نحسبه علي تقاليد الاعتراف كأي من كتاب أوروبا المسيحية.وكل هذه الشواهد: من رواية كاواباتا إلي اعترافات محمد شكري تؤكد إمكانية تأثر الغريب بتقاليد الثقافة الأخري، أو لنعترف بأن الرغبة في البوح، ولع يوحد البشرية.وفي الحالتين علينا أن نبحث عن سبب آخر لتعثر فن السيرة عربياً.ولنتفق أولاً علي أن إلصاق صفة (الاعتراف) كمحدد وحيد لفن السيرة ينقل هذا الفن من فنون الأدب إلي فنون الصحافة، مثلما نقلت فضائل البوح والكشف والتعرية الرواية العربية من مقام الفن إلي مقام نشرة الأخبار.في بعض السير كـ اعترافات قناع وفي بعض الروايات السيرية كـ البحث عن الزمن المفقود قد لا نعثر علي حدث أو فعل يتم الاعتراف به، فكثير من الأعمال الحلوة تنبع حلاوتها في تمحورها حول ما لم يحدث، وليس ماحدث. لكن غياب الفعل لا يعني غياب التفكير فيه، وسكون الجسد يعوضه صخب الروح، التي تغلي بأسئلة الكتابة والوجود. ربما هنا يكمن السر. وفي الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الكاتب يكمن الفرق بين عديد من السير الذاتية العربية غير الممتعة، وبين السير الممتعة في آداب الشرق والغرب. سيرة الكاتب تسبر اعماق أحلامه ومخاوفه، وسيرة المواطن تقدم أوراقاً ثبوتية: ولدت سنة...، وتخرجت في...، وتتلمذت علي!والمشكلة أيضاً ليست مشكلة حرية؛ فسيرة أدباء من أمثال كزنتزاكيس أو ماركيز، أو ساراماجو (التي انتهيت من قراءتها حالاً وكانت في الحقيقة دافعي إلي هذه التأملات) ليس فيها ما يحتاج إلي الحرية، أو ما يمكن أن يتحرج كاتب من ذكره في أكثر المجتمعات العربية تزمتاً. لا تصادم مع الدين ولا اجتراح بطولات ضد الإله، ولا تنفج بفحولة حقيقية أو مدعاة مع النساء.ليس لدي أي منهم سوي عذوبة الحكي، حول طفولة وشباب عاديين، وتحت هذه العادية الخادعة نلمح عذابات الكائن وتشوفه إلي الكتابة. نيكوس كزنتزاكيس جعل من سيرته الطريق إلي غريكو صعوداً نحو الجد، أو نحو الإطلالة الكريتية إطلالة المجد يعني، وهي القيمة الحقيقية التي يراها لوقائع حياته. ماركيز أخذها من أقصر الطرق، ليقرر في العنوان أنه ما عاش حياته إلا ليرويها، بينما يعنون ساراماجو سيرته بعنوان شديد التواضع الذكريات الصغيرة 1 ويقول فيها إنه فكر في البداية بتسميتها بـ كتاب الوساوس فما يحكيه هو وساوسه وتخوفاته من وقائع بسيطة مثل الخوف من زوج الجارة لأنه تعرض لها بكلمة، أو انتظار انتقام أب لفتاة لم يفعل سوي أن نظر إليها من الشرفة، أو التكوم تحت اللحاف منصتاً لخطوات مجذوم علي أرضية المطبخ الخشبية، وقد من الشاشة في الفيلم الذي شاهده في في ذات الليلة وتتبعه من صالة السينما إلي بيت خالته، حيث جاء ليقضي شطراً من عطلته الصيفية عندها!يتذكر ساراماجو، عندما أرسلته أمه لشراء ملح من محل البقالة القريب، وفتح القرطاس وتذوق حبات الملح. واقعة شديدة التفاهة ولا تستحق أن تروي، إلا أنها كانت طريقه لاكتشاف أكثر المرطبات بدائية: مزيج من الملح والخل والسكر. وقد استخدم هذه التركيبة بعد ذلك في كتابه الإنجيل لقتل العطش الأخير للمسيح.هذه القصة وغيرها مما تضمنته سيرة ساراماجو توضح الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الفنان؛ الأول يراكم الوقائع والأخبار التي لا يدري القاريء لها نفعاً، مهما كانت أهميتها لصاحبها، والثاني يحكي عن أكثر الوقائع ابتذالاً، لكنها تصبح ذات شأن في علاقتها بفنه وتأثيرها عليه. الفن وحده هو ما يعطي هذا المواطن البرتغالي أو ذاك اليوناني أو الكولومبي مشروعية التعري أمامنا، وهو ما يعطي ذكرياته مشروعية أن تروي.
1 خوسيه ساراماجو، الذكريات الصغيرة، ترجمة أحمد عبداللطيف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز.