مفاتيح القديم والجديد في رواية صانع المفاتيح
أسما عواد
ليس من السهل أن يتملك شخص في يده مفاتيح صنعته. وصانع المفاتيح الذي أعنيه هنا ليس بطل رواية "صانع المفاتيح"، وإنما صانعها الروائي أحمد عبد اللطيف الذي صنع مفاتيح روايته من محور واحد تتفرع منه جميع الأحداث
في ثراء سردي يصنع الكاتب لكل شخصية مفتاحا خاصا بها ويثريها بوصف وسرد خالي من الحوار حيث تمتلك كل شخصية مفاتيحها الخاصة التي تجعلك تتصورها أمامك وتتخيلها وكأن صانع المفاتيح قد صنع لقارئه مفاتيحا للقراءة أيضا تسمح له باستخدام الخيال. يتخيل بها الأبطال حتى يجدهم ماثلين أمامه مثل أبطال الدراما وتجعله يتمنى لو أنه يراها في عمل سينمائي أو تلفزيوني يتألف ويتعاطف معهم فيحب طيبهم ويكره شريرهم . إنك كقارئ ربما تتمنى أن تشاهد الرواية في عمل سينمائي او تلفزيوني. وربما تسأل نفسك هل من مخرج جريء يحول هذه الرواية إلى فلم سينمائي ؟ لماذا لا يقبل كتاب السيناريو ومخرجو المسلسلات على هذا النوع من الروايات المكنة والممتنعة في نفس الوقت؟ لماذا لا يكون الاتجاه لصنع دراما جديدة قائمة على الخيال الواقعي أو الواقع الخيالي ؟.تجربة ممكنة ومتاحة وبالأخص لبعض الأعمال الخيالية التي يستطيع كاتبها أن يقنعك بأنه يكتب واقعا قابلا للتجسيد. وهذه ليست بالتجربة المستحيلة، وقد جسدت في أعمال كثيرة مثل الحب في زمن الكوليرا لماركيز، و العطر لباتريك زوسكند وغيرهم من الروايات الأدبية التي تحولت إلى أفلام غاية في الإبداع.
الذي يدفعنا لرؤية الرواية في ضوء الدراما ليست تقليدية القضية التي تتناولها (فساد المجتمع) مما يجعلها ممكنة للتمثيل، فقد صنع على الصعيد الآخر بطلا يأخذ بهذه التقليدية إلى مناطق جديدة تشفع للرواية وتنقلها إلى مساحة التجديد. ولكن ما يدفعنا لذلك السرد القائم على فلسفة خالية من المبالغة. وحكمة خالية أيضا من التعقيد.
لقد صنع الكاتب مفاتيحا لكتابته قبل أن يمنحها للبطل في الرواية ومن هذه المفاتيح مفتاح الكلام. فهو عندما جعل البطل صانعا لمفاتيح الكلام ، استخدم هو هذا المفتاح مسبقا من خلال خلو الرواية من الحوار.وهي منهجية عفوية، فالرواية التي تعتمد على السرد الخالي من الحوار هي نفسها القائمة على الحوار الداخلي مثل قول البطل لنفسه: " كم أنت قبيح هل انت من خلق الله؟" ومثل "نعيش في عالم فاسد لست افسد من فيه ". إنه حوار مع النفس يتخلل السرد بلا فاصل أو قاطع، مما يمكنه من الإمساك بحبل السرد فيكمل الوصف وكأنه حكاء يمارس الحكي كل يوم، حتى يخيل لك انه سيبدأ في التمثيل بصوته، وسيقلد أصوات الأبطال. ولو كان للكتابة صوتا مسموعا لسمعت أصوات الأبطال صادرة من فم واحد هو فم الراوي الذي استبدل الربابة بالقلم، وذلك من خلال حكاية من داخل حكاية، وكأن حاكيها يملك من الحياة حيوات أخرى لكنها كلها وان كانت ممكنة، إلا أنها غير عادية فلا أحد يصنع من فندق ومستشفى خيري بيئة رواية خيالية . دون أن يشعرك بأنك انتقلت لقراءة كتاب آخر بلغة جديدة.
بهذا الفاصل يكتب الرواية لتجد نفسك متورط في حكاية جديدة داخل الحكاية الكبيرة المتخمة بالحكاوي الصغيرة، مثل الصداع الذي يشبهه بطفل يتغلب عليه، هذا الطفل الذي يعبث معه حتى ينهيه لكنه طفلا فيبدأ من جديد ، ثم تخيله للصداع على انه نمله او رجل ينقر بإصبعه. ومثل عمل الطبيب في طفولته وتنوع الأعمال التي قام بها حتى الغريب منها مثل جامع العظام. كل هذه التفاصيل الصغيرة تعطي العمل إحساسا بالتجديد لوجود الخيال بها، ثم بجعلها ممكنه بحدث عادي مثل العصفور الذي اشتراه أحد الأبطال. إنها أحداث ممكنة تجعل من الأشخاص الذين يعيشون حكاية وهمية اشخاصا حقيقيين يعيشون ما نعيشه نحن.
لقد استخدم الكاتب مفتاح العوالم الصغيرة من داخل عوالم اكبر ويمثله في الرواية العوالم الصغيرة من داخل عالم القرية التي هي بدورها نموذج مصغر لعالم كبير يوجد بداخله الفندق والمستشفى، عالمان صغيران يمثلان الفساد في الحياة. ثم الجبل الذي يشرف عليهما والذي يمثل المناطق الجميلة والبكر التي لم تلوث بعد . وكل هذه العوالم الداخلية خيالية بالرغم من وصفها المحتمل وقرب وصفها من اماكن متواجدة على الحقيقة.
وبنفس المفتاح التداخلي جاءت لغة الكتابة التي تتضمن تداخلات بين لغة التدوين وهو العالم الأكثر تكلفا وتعقيدا، وبين لغة الراوي وهو العالم الأكثر بساطة. ربما لكي يخرج من مأزق تباين الموضوع بين التقليدية والتحديث، وذلك كي يتمكن من قيادة السرد أينما يشاء بتحييد الراوي، وتحديد البطل في نفس الوقت.
مفتاح آخر صنعه الكاتب وهو مفتاح الكتابة اللغز التي لا يمكن فك شفرتها إلا في لحظة تجلى قد تقضي حياتك كلها دون ان تمر بها، وقد تمر بها في لحظة لا قانون لها. وهي لحظة فجائية أو لحظة عشوائية لا واجد لها من الشخصية . تلك اللحظات التي تكتسب امكانيتها من إمكانية المرور بها لأي شخص، واستحالتها من استحالة استدعائها، تمثل نقطة مضيئة تضيء الروح او العقل برابط خفي لا يدركه الا خالقة. هي لحظة الوعي والاكتشاف العميق، مثل من يرى الحياة أو يرى الله من خلال ذيل القطة. إنها لحظة قد نمر بها جميعا تعيد ترتيب حياتنا من جديد، او تقلبها رأسا على عقب، وتكون مسبباتها أشياء لا علاقة لها بردة الفعل. كأن تغير مسار حياتك عندما ترى نملة تسير على جذع شجرة، أو علما يرفرف في الهواء، أو بقرة تلوك طعاما . إنها لحظة شفافة وثرية لمن يستطيع الإمساك بها. ويمكن لكاتب آخر أن يصنع منها رواية كاملة، مثلما فعل باتريك زوسكند في رواية الحمامة وقلب حياة البطل لمجرد رؤيته لحمامة، جعلته يقف أمام نفسه بقوتها وضعفها، ويعيد ترتيبها من جديد.
ثم يأتي مفتاح الفوضى داخل الرواية انها الحياة بكل تضاربها وبكل نماذجها المتضاربة . من فسد فيها ومن حافظ على نفسه دون فساد، من كان صالحا منها ومن كان طالحا. هي بكل تقلباتها فالصالح قد يفسد والطالح قد يصلح،. ما الجديد إذن؟ قد تسأل نفسك هذا السؤال ولكنك في كل مرة تخطو نحوه ستجد ما يأخذك بعيدا عنه مثل هوس الناس بالمفاتيح ( تجديد) ثم تنوع المفاتيح و تبدلها من مفاتيح الكلام ثم مفاتيح السمع ثم البصر( تجديد) وقبل أن تمل سيلعب بإرادة الأشخاص لحواسهم حتى أنه أصبحوا يعلقون في أعناقهم سلسلة للمفاتيح لاستخدامها وقتما يشاءون ( تجديد) ثم ينتقل إلى متى يكون التحكم وإدارتها أمر مستحب ومتى يكون لعنة قد لا تعيدهم لأصولهم فتجر عليهم الويل واللعنات( تقليدية). وقبل أن تنفلت منه لتسأل نفسك نفس السؤال سيشغلك بشئ جديد يمنعك من الإنفلات. بلغة شعرية تارة مثل وصفه للأمطار التي تهطل لكنها لا تنقي الجو ولا تغسل البيوت ولا تطهر الأجساد .أو بأحلام وكوابيس الأبطال تارة أخرى.
الرواية مكتظة بأحلام وكوابيس الأبطال مثل كوابيس الأب والابن وجميلة وهذا يمثل مفتاحا آخرا في الرواية لكنه مفتاح ماستر صالح لفتح جميع الأبواب ويستخدمه الكاتب كي يجعل الكتابة قابلة لاستيعاب كل ما يرغب في إثراء النص به ولا يجد له مكانا في السياق .
إنه عالم الأحلام الفضفاض القابل لاستيعاب جميع التناقضات عالم القبول الرفض، عالم الرمزية والواقعية، الكناية والتصريح. لكنه لم يوجده عبثا فهو يملك مفتاحا خاصا به ربما ليفتح به باب الضمير. فالكوابيس تشكل الضمير الحي للأبطال. لأجل ذلك لم تنتاب الكوابيس من غيب ضميره للأبد أو من كان خارج منطقة الضمير. هنا تشكل الكوابيس الوجه الحقيقي من البشر الذي يخشى القبح أو يرغب في التطهر منه. فالقضية بالفعل تشغل مساحة كبيرة في الكتابة التي تصف المطر غسيلا للذنوب وللروح، والطفل المشوه هو الحمل الذي قبل أن يتحمله تكفيرا لذنوبه السابقة. وكما جاء على صفحات الرواية " المسألة لديه بالفعل مسألة جوهر لذا " و"ليس كل ما تستقبحه العين تستقبحه الروح".
إنها رواية تحير القارئ فتجعله يتساءل في كل لحظة إلى أي نوع من الكتابة تنتمي هل هي رواية نفسية ام اجتماعية، هل هي تقليدية أم حديثة . مما يجعل شهادة الكاتب أمرا لازما لإشباع فضول القارئ.
لقد كتب الكاتب هذه الرواية بقلب طفل جريء... مندفع تجاه التجريب، لا يحمل خوفا من التجربة، فيمزج ما بين اتجاهين في الكتابة، دون أن يهتم بردة الفعل ودون خوف من العواقب. وهي شجاعة محسوبة له، حتى أنه ربما يهز كتفيه بعد قراءة مثل هذا المقال ويقول لنفسه:
ـ لا يهمني سأبدأ في رواية أخرى أجرب فيها شيئا جديدا .
تم نشر المقال في مجلة الثقافة الجديدة يوليو 2010
وموقع الكتابة الجديدة