سلطة اللغة في مواجهة لغة السلطة
أحمد عبد اللطيف
في مقال تحت
عنوان "اللغة"، يطرح إدواردو جاليانو أزمة استخدام مفردات مكان مفردات
أخرى. يتعجب كاتب أوروجواي الشهير من هذه الازدواجية التى تحمل في طيتها دلالات،
يقول:"في العصر الفيكتوري، لم يكن مسموحاً ذكر كلمة بنطلونات في حضور آنسات.
واليوم، ليس مستحسناً قول بعض الألفاظ أمام الرأي العام". محاولة إقصاء كلمات
من قاموس اللغة المنطوقة في مقابل إعطاء شرعية لكلمات أخرى، سواء لكون الأولى
بذيئة والثانية مهذبة، أو لإخفاء حقيقة الأشياء بذكرها بغير مسمياتها، يثير سخرية
الكاتب. فالإمبريالية صارت عولمة، والرأسمالية تُسمى اقتصاد السوق، وضحايا
الإمبريالية يُسمون دولاً نامية، كما نسمي الأقزام أطفالاً. بدلاً من الانتهازية نقول براجماتية، كما نسمي
الخيانة واقعية. نستبدل كلمة فقراء بمحتاجين أو محدودي الدخل. والتعذيب يُسَمى ضغوطاً
غير مشروعة أو ضغوطاً جسدية ونفسية، وسرقة خزائن الدولة مجرد إهدار للمال العام أو
ثراء غير شرعي. وجرائم السيارات تسمى حوادث.
يقول
جاليانو إن تسمية الأشياء بغير مسمياتها يمتد حتى للمرض، فالسرطان أو الإيدز يسمى
بالمرض الوحش. ويذكر حادثة وقعت في عام 1995، عندما خرج سفير فرنسا في نيوزلندا
عقب الانفجارات النووية الفرنسية في جنوب المحيط الهادي، وقال:"لا تعجبني
كلمة قنبلة، إنها ليست قنابل، بل مواد تنفجر". ويتذكر الفعل
"يتعايش" الذي طالبت به الحكومة الكولومبية عندما ازدادت عصابات قطع
الطرق التي كانت تغتال المارة تحت حماية العسكر. و"كرامة" كان اسم أحد
المعتقلات في الديكتاتورية الشيلية، كما كان "حرية" اسم أكبر سجن في
الديكتاتورية الأوروجوائية. والمجموعة التي كانت تدافع عن العسكر وقتلت 45 فرداً،
كلهم من النساء والأطفال، أثناء صلاتهم في كنيسة بقرية أكتيال، كانت تسمى: السلام
والعدالة.
***
يفتح جاليانو
بذلك جدلاً جديداً حول اللغة، جدلاً أيديولوجياً، يخص الكاتب السياسي أكثر مما يخص
كاتب الأدب، لكنه يطرحه كأديب متورط كليةً في أزمات مجتمع أمريكا اللاتينية
الكبير، وهو المجتمع الذي أخلص كُتّابه لتناول الحياة السياسية في الكثير من
رواياتهم، حد أن السلطة والثورات عليها مثّلتْ سمةً أساسية في أدب ما سُمى ب
"جيل الانفجار" الذي تمخّض عنه "خريف البطريرك" "حفلة
التيس" "أنا الأعلى" "أنا الرئيس" وغيرها من الأعمال
التي رسمتْ صوراً مختلفة لديكتاتورية العسكر. في المقابل، أثار كاميلو خوسيه ثيلا،
الإسباني الحائز على نوبل عام1989، قضية الألفاظ النابئة في الكتابة. لم يتوقف
ثيلا عند صدم المجتمع الإسباني في الفترة الفرانكية وما بعدها بمفردات لم تُستخدم
من قبل في الأدب لجرأتها، بل أصدر عدداً من الكُتب التي تنتقد فكرة استبعاد كلمات من
اللغة لمجرد وصفها بأنها بذيئة، وأصدر قاموساً يجمع كل الكلمات والتعبيرات
الخارجة، خاصةً تلك التي تحمل دلالات جنسية، بهدف الحفاظ عليها كجزء من هوية
المجتمع الإسباني في فترة بعينها. ولعل روايته "عائلة باسكوال دوراتي"
من الأعمال التي عكست فكرته عن إدخال هذه الألفاظ لحقل الأدب باعتبارها جزءاً من
تركيبة الشخصيات وخير معبّر عن عالمها. وإذا كان إدواردو جاليانو يتساءل:" لا
ندري من جعل الألفاظ البذيئة بذيئة، ولا نعرف كيف يمكن الاستغناء عنها رغم
انتشارها في اللغة المنطوقة"، ويرى إنها وسيلة غير مشروعة لقمع عنف اللغة في
مقابل لغة ناعمة لا تعبر صدقاً عن المضمون (أو مجرد أسماء لا تناسب مسمياتها)،
فخوسيه ثيلا طبّق أفكاره بشكل عملي، وفتح باباً لكُتّاب جيله والكُتّاب من بعده،
فصارت الألفاظ النابئة التي تناسب عالم الأبطال استكمالاً لجماليات النص.
لكن عنف
اللغة في العمل الأدبي لا يتوقف عند المفردات الخارجة أو المشاهد الإيروتيكية، بل
تمثل في عنف المحتوى الذي استخدم سخرية ووصفاً فنياً قاسياً للقضاء تماماً على
سلطة ما.
***
كيف يمكن
للغة السرد، إذن، أن تكون ناعمة؟ إذا كان الأدب قائم بالأساس على الصدمة والدهشة،
فهذا يعني أن اللغة التي تناسبه يجب أن تكون عنيفة. ما من رواية حفرت اسمها في
تاريخ الأدب إلا وتضمنت قدراً من الراديكالية، قد يحدث ذلك على مستوى المفردات،
كاختيار الألفاظ البذيئة (أسماء الأعضاء التناسلية، الشتائم، العبارات المستخدمة
أثناء المضاجعة. كاميلو خوسيه ثيلا نموذجاً). وقد يحدث على مستوى آخر، أكثر عمقاً،
حيث تحمل اللغة دلالات عنيفة، كما حدث مع جريجوريو سامسا في رواية
"المسخ" حين استيقظ من النوم ليجد نفسه قد صار حشرة، وفي رواية
"العطر" حيث يصير القتل من أجل جمع الروائح حدثاً طبيعياً، وفي
"مائة عام من العزلة" عندما يسال الدم في الشوارع راكضاً حتى عتبات
البيوت، وفي "الغريب" خاصة في مشهد المحاكمة الأخير. أي لغة تستطيع أن
تعبّر عن مشاهد بهذه القوة إن لم تكن لغةً عنيفة؟
يتمثل العنف
اللغوي أيضاً، وبشكل أوسع، في الأعمال التي ناطحت سلطة الطغاة أو رجال الدين. في
الرواية الأهم للكولومبي الحائز على نوبل، جابرييل جارثيا ماركيز، يستخدم هذا
النوع من اللغة لكسر هيبة الديكتاتور. ففي "خريف البطريرك" يمزج الكاتب
بين اللغة المثقفة والشعبية، لغة الشارع المستخدمة يومياً، ليستخلص منها خلطة
السخرية، متكئاً عليها لرسم صورة واقعية وأسطورية لديكتاتور يحمل صفات إله شرير.
يمتلك الجنرال سلطات لا يمكن حصرها حتى يبدو أن الخلود مصيره الحتمي، بجانب هذه
الصورة لا يتوقف المؤلف عن إبراز العجز الذي يحيط بكائن فوق طبيعي، خاو من الداخل،
ربما تكون الصورة الأقرب التي عكستها لغة متهكمة هي خيال المآتة. هكذا
يكتب:"القصر لم يكن يشبه قصوراً رئاسية بقدر ما كان سوقاً ينبغي فيه شق طريق
بين جنود وصفوف حفاة كانوا يضعون سلال الخضار وأقفاص الدواجن في الأروقة...وكان
ينبغي تحاشي المياه الوسخة للخليلات...احتجاجات الموظفين الدائمين الذين يجدون دائماً
دجاجات تبيض في أدراج مكاتبهم...وممارسات الجنود والمومسات في المراحيض، وجلبة
الطيور". في نفس هذا القصر الرئاسي، ووسط الدجاجات والطيور، يصدر الجنرال
أوامره ببيع البحر، يقدّم مآدب من اللحم البشري المتبّل، ولا يتوانى عن إشعال حروب
مع منافسيه، بدءاً من الأطفال ومروراً بالكرسي الأبوي في روما حتى الرب! ومثل أي
ديكتاتور، تسود علاقة الحب\الكره مع شعبه، وهي العلاقة الناجمة عن القمع. وفي
الوقت الذي يخافون فيه الخروج عليه، يحتفلون بخبر موته، وعندما يُكذب الخبر،
يحتفلون أكثر وأكثر.
يجمع ماركيز
في روايته قطعاً من كل طغاة أمريكا اللاتينية، ويعترف في حوار أنه، قبل أن يشرع في
كتابة عمله الأعظم، قرأ خلال عشر سنوات سيرة هؤلاء الطغاة. النص الماركيزي بدا
واعياً لتحدي الزمن والذاكرة، فحياة طاغية عسكري لا يمكن تلخيصها في الهالة
الخارجية، بل برسم صورة داخلية كاريكاتورية، حيث يتحدى في وحدته العظمة والبؤس،
المجد والهزيمة. وعبر لغة قاسية، قدّم عزلة السلطة، فالبطريرك عجوز منعزل، عنيف،
وحشي، ماكر، ومع مرور الوقت يزداد خلله العقلي والجسدي. إنه طاغية مبالغ فيه، حتى
أن "خصيتيه بحجم كلية الثور". على طول الرواية، يستمر الكاتب النوبلي،
بإصرار، في توضيح ملامح الديكتاتور من شتى جوانبه، يبين أي نوع من الانحطاط
يمارسه، ليس فقط على مستوى الطغيان، كعسكري مجنون وسياسي فاسد، بل أيضاً على
المستوى الإنساني، فيشير لذلك بممارساته الجنسية وعنفه في تحقيق ذلك، حتى لو كانت
النتيجة فشلاً. على أن السردية التي ظهرت فيها الأم بزجاجات فارغة لتأمره بردها
لصاحب الدكان بينما كان وسط تشريفة رئاسية يسطع فيها كنجم للعالم، واحدة من أفضل
أجزاء الرواية سواء في الوصف أو في اللغة الساخرة التي دمرت أسطورة طاغية ليس
بالنسبة لأمه سوى هذا الجاهل الذي، لسوء حظ شعبه، صار حاكماً. ومثلما بدأ العمل
بموته، انتهى بموته، لكن بعد أن عرف أنه"طاغية من أجل الضحك، لم يميز قط وجه
الحياة من قفاها"، "باتجاه مملكة النسيان الحقيقي، متشبثاً بجلباب الموت
الرث"، "غريباً عن هتافات الحشود المهتاجة التي كانت تهرع إلى الشوارع جذلى،
منشدة موته بأناشيد الحبور... وعن أجراس البهجة التي زفت للملأ البشرى بأن زمن
الأبدية الهائل انتهى أخيراً".
***