الأحد، نوفمبر 28، 2010

قصة\ لعنة الشبه


جلستُ على السرير أنتظر حدوث ما أعرفه مسبقاً، بذراعين يحيطان ساقيّ وعينين جاحظتين تراقبان دقات الساعة. في السابعة صباحاً، بالضبط، فتحتْ أمي الباب دون أن تبدي دهشتها من يقظتي مبكراً ولا من جلستي. فقط أخبرتني أن الإفطار جاهز ويجب أن أنهض وأوقظ أخي التوءم. نظرتُ إليها بشفقة لم تفهمها أبداً، وقبل أن تخرج، سألتها بسذاجة إن كانت الساعة الآن السابعة صباحاً في كل العالم، فنظرتْ لي من فوق كتفها ولم ترد. حتماً قالت إنني أهلوّس كعادتها. فكّرتُ حينها أن أضع بجانب ساعة الحائط هذه ساعات أخرى تخبرني بالوقت في العالم كله عندما تكون في بيتي السابعة صباحاً. أنا أحتاج ذلك باستمرار خاصة في يوم الأحد الأول من كل شهر. لا لكي أحقد على هؤلاء النائمين بعمق في بلدان بعيدة، ولا هو فضول أحمق، بل لأسجّل في أجندتي الكبيرة كم كانت الساعة في كل بلد عندما رحل عن العالم من انتظرتُ رحيله منذ أيام مضتْ.
وضعتُ قدميّ على الأرضية ونظرتُ نحو الباب الموارب، كانت أمي تهمهم بكلمات تصل لي غامضة. فكّرتُ في سؤال جدتي الملّح في الأيام الثلاثة الأخيرة، كيف أبدو لك؟ جميلة يا جدتي. لا لا، لا أسأل عن هذا، أسأل هل أشبه أمك؟ لا يا جدتي. هل أشبه جارنا المسن؟ لا يا جدتي. هل أشبه زوجته؟ لا يا جدتي، أنتِ لا تشبهين أحداً. جدتي تصمت قليلاً لتعود وتخبرني أنني أشبهها، وأمي كذلك، وكذلك الجيران والناس في الشارع والمدينة والتليفزيون، وأنها كادت تُجَن لأن الكون كله يشبهها. حينها اقتربتُ من مائدة السفرة. نظرتُ في التقويم. وعلمتُ ما أعلمه دوماً قبل الآخرين.
خرجتُ ووقفتُ عند الباب. نظرتُ نحو غرفة جدتي فلم أجدها جالسة بجانب بابها كعادتها. حتى الأمس كانت تستيقظ مع شقشقة الفجر الأولى، تصل إلى الحمّام مجهدة، وتعود لتجلس بجانب باب غرفتها، مستندة بظهرها إلى الحائط الذي يفصلها عن أمي. لا أدري ماذا كانت تفعل أو كيف تقضي وقتها هذا حتى نستيقظ نحن ونُجلسها معنا على المائدة لتفطر. علمتُ حينها يقيناً ما كنت أعرفه منذ ثلاثة أيام. جدتي ماتت، وهي الآن بروح منفصلة عن الجسد، روح كانت تحاول الخروج بينما كانت هي تحاول اليقظة عند الفجر.
دمعتْ عيناي، دون أن تُذهل أمي. تقدّمتُ نحو الحمّام، فأوقفتني بجفاء. أخوك في الحمّام، قالتْ. نظرتُ إليها بشفقة، وجلستُ على أقرب كرسي بالسفرة. ساعد جدتك، قالت أيضاً. فأومأتُ لها برأسي موافقاً، ونهضتُ متكاسلاً، متوجهاً لركن جدتي، وانحنيتُ، وتصنعتُ أنني أساعدها على النهوض، وعُدتُ لنفس الكرسي لأجلس، فصاحتْ في، أخوك قاعد! فانتفضتُ قبل أن أجلس، وسحبتُ كرسياً آخر، فأشارتْ لي بيدها أن أذهب للحمّام قبل أن يستيقظ أبي.
جلستُ في الحمّام وتذكّرتُ أخى التوءم، الذي لم يكن يشبهني أبداً في شيء. كنا نلعب معاً، نتقافز معاً، يصارع كل منا الآخر، نتوه في شوارع المدينة الكبيرة ونعود للبيت دون أن ندري كيف قادتنا أقدامنا الصغيرة. كتفاً إلى كتف، خطونا نحو العالم، عانقناه، لعناه، امتزجتْ حكاياتنا حتى صرنا لا ندري من صاحبها. ويوم الأحد الأول من الشهر الماضي، دخلتْ أمي في السابعة صباحاً لتيقظنا، فوجدتني جالساً بجانبه أقرأ خطابه الأخير الذي أوصاني أن أحمله لحبيبته الصغيرة. كتب فيه بخط منمق يتفق مع نظامه:” لم أعد أحتمل أن أرى وجهي في كل الوجوه. لم أعد أحتمل أن أرى وجهي كلما رأيتك، وأقبّلني كلما قبلتك، وأعانق نفسي كلما عانقتك. لم أعد أحتمل أن أرى نفسي في وجه أخي، في وجه أمي، في وجه جدتي. لم أعد أحتمل كل هذه النسخ التي تشبهني حد التطابق.لذا، سامحيني، فضّلتُ الموت على الجنون”.
عدتُ إلى الصالة واقتربتُ من السفرة بينما أمي تلاحقني بالنظرات. وقبل أن أجلس نهرتني، فتّح عينك! نظرتُ لها بذهول، أخويا قاعد هنا برضو؟سألتُ مستنكراً. لأ، أبوك ال قاعد، وللا مش شايفو؟ أومأت لها أنها محقة، وجلستُ في كرسي آخر. كان طبقا أبي وأخي ممتلئين بالسندوتشات دون أن يلمسهما أحد، وأمام كرسي جدتي كوب لبن ممتليء لمنتصفه. همهمتْ أمي أنه لم يعد أحد يتناول إفطاره في هذا البيت. لم أعرها انتباهاً وأكلتُ بشراهة، وعندما نهضتْ لتغسل أسنانها كنت قد انتهيتُ أنا من أكل طبق أخي. عندما عادتْ لتحمل الأطباق، ظلتْ تُثني على أخي وأدبه الذي لا مثيل له، حد أنه يخجل من الأكل أمام أحد، وظلت تردد تلك العبارات حتى اختفتْ في المطبخ.
قبل أن أخرج من البيت أمرتني أمي أن أحمل جدتي لسريرها. نظرتُ إلى ركنها الخالي وهاجمني الحزن. دخلتُ غرفتها فوجدتها ممددة في براءة. وكما تعودتُ، هاتفتُ الحانوتي ليأتي. أثناء الغُسل فقدتْ أمي وعيها ولم تفق إلا عقب عودتي للبيت مجدداً بعد الدفن.
جلستُ على كرسي السفرة منهكاً. نظرتُ أمامي فوجدتني أتجول بالشقة، أدخل الحمّام، أتجه للمطبخ، أعد العشاء. أجلس أمامي وأقول لنفسي بنبرة جافة: ساعد جدتك. أنهض من مكاني، أتجه لركن جدتي، أتصنع أنني أساعدها، وأجلسها على كرسيها. ناديت أبوك وأخوك؟ يأتيني السؤال من أمامي، بنبرة صوتي لكنها جافة. أنادي بصوت عال: بابا! بوجي! العشا. أرص الأطباق على السفرة، وأنا أنظر لنفسي، بذهول. أنهض من مكاني مسرعاً. أشعل التليفزيون. يظهر أمامي مذيع هو أنا. أقلب القناة، أجدني ممثلاً. أهرول إلى النافذة، بينما يناديني صوتي الجالس على السفرة دون أن أعيره انتباهاً. ومن النافذة رأيتني أملأ الشارع ذهاباً وإياباً.

نُشرت بجريدة البديل يوم 13 نوفمبر 2010
http://elbadil.net/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B7%D9%8A%D9%81-%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D9%87/

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...