الاثنين، يوليو 16، 2012

أرجوك راقبني





     مر عام بعد المائة الأولى على تأسيس الرقابة على الإبداع، دون أن نحتفل بالمئوية كما ينبغي بجلال الحدث. انشغلنا في الثورة وتوابعها، ولم نوفِ الرقابة حقها. كيف فاتنا أن نحتفل بها برفع شعار "أرجوك.. راقبني"؟ وكيف لم نتعرف على الرقباء ونجري معهم حوارات صحفية لنعرف كيف بفطنتهم استطاعوا الحفاظ علينا من شرور شياطين الإبداع؟ إنها أخطاؤنا المتكررة، صفات الحارة التي آفتها النسيان.
     فات وسائل الإعلام المرئية والمقروءة أن تنبّه الشعب لميلاد الرقابة، وأن تعدّد مزاياها، أن تعرض الأفلام وتنشر الروايات الممنوعة لنعرف  كيف أنقذنا الرقيب من الوقوع في الخطايا وحجب عن عيوننا المناظر الجنسية البغيضة والكلام قليل الأدب والأفكار التي تهز الإيمان أو تدعو للتفكير الذي يجلب المآسي. الرقابة العظيمة، يمر عليها مائة عام وعام دون أن يشير لها مدحت شلبي في برنامجه الشهير عن كرة القدم، ودون أن يشيد بها توفيق عكاشة على قناته مرتفعة المشاهدة. لكن، يمكننا الآن، في الأيام الأولى من عامها الجديد، أن نتذكر معاً أهم ما قدمته للإنسانية، ليس فقط في مصر خلال أعوامها المائة، بل في العالم كله، وفي فترات تاريخية مختلفة وتحت سلطات متنوعة، إنها أحداث تملأ ملايين الصفحات البيضاء بالحبر الأسود. الرقابة العظيمة حرقت كتب ابن رشد المارقة، وأنقذت الأندلس حينها من الكفر والزندقة؛ منعت تدريس كتاب "أصل الأنواع" لداروين في الجامعات الأوروبية في القرن العشرين، لأنه يتعارض مع الكاثوليكية؛ حرمت نشر رواية "قابيل" لساراماجو في إيطاليا لأنها تقدّم رؤية جديدة للحكاية؛ سجلت قائمة طويلة من الكتب المحظورة في العصور الوسطى، لا لشيء سوى الحفاظ على استقرار المجتمع. غير أن هذه الرقابة كانت ضعيفة مقارنة برقابتنا، الفرعونية كحضارتنا القديمة، هكذا نجدها لا تكتفي بالحفاظ على المستقر فحسب، بل وتراعي مشاعر القراء. الرقابة المصرية حافظت، طوال تاريخها ودون ملل أو كلل، على الذات الإلهية وحرمة الجنس وقدسيته من الابتذال، وعلى صورة الرئيس والسلطة، وبنفس المنطق حافظت على صورة رجال الدين، وهذه من القيم المصرية التي ناضلت من أجلها. والأزهر بدوره أدلى دلوه، فأصدر بياناً بتكفير فرج فودة ترتب عليه اغتياله، وكفّروا أسامة أنور عكاشة وسعوا لتفرقته عن زوجته في أروقة المحاكم، فقط لأنه قال رأياً مخالفاً في عمرو بن العاص. وقصة نصر حامد أبو زيد معروفة، لا داعي لتكرارها، ومنع كتاب جمال البنا "مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث" ورواية "سقوط الإمام"لنوال السعداوي، و"وليمة لأعشاب البحر" ومن قبلها "ولاد حارتنا" خير مثال على حرص الرقيب على صون رهافة الحس المصري والمحافظة على "الأخلاق الإسلامية".
     الرقيب، إذن، أب ونحن أبناء، رئيس ونحن نفس الأبناء، أم مرضعة ونحن الرُضّع، فصفتنا كابن يحتاج البزازة لا تتغير أبداً مع اختلاف شكل الرقيب، الذي ارتدى من قبل الباريه والآن يطلق اللحية، ويجرنا وراءه كمعزة تجر فردها ليأكلا من حشائش الأرض. 
    الآن، في الأيام الأولى من العام الأول بعد المائة، ومع انتقال الرقابة من الدبابة إلى السيف، قررتُ كروائي متمرد يعترض على الأشكال التقليدية، أن أرفع شعار: "أرجوك.. راقبني" لأنني ببساطة سأقدم للرقيب المتحفظ كل ما يستحق مصادرته.  

أحمد عبد اللطيف (منشور بجريدة اخبار الأدب عدد 12 يوليو 2012)      

الأحد، يوليو 08، 2012

سارق الفانتازيا الذهنية




صانع المفاتيح
              سارق نار الفانتازيا الذهنية

د. أماني فؤاد

من رؤية فنية واضحة ومفتوحة بوسع الآفاق، تنطلق رواية "صانع المفاتيح" للمبدع أحمد عبد اللطيف، والحاصلة حديثاً على جائزة الدولة التشجيعية لعام 2012. مع هذا العمل، يمكن أن نحلّق فى عوالم مفارقة، حيوات أوجدتها "الفانتازيا الذهنية" المعنية بحلم الممكن لا الكائن، والقادرة على دمج العلائق بين الواقعى واللاواقعى، بين الحقيقة والحلم، عوالم تخلخل الحدود وتجعلها فى حالة من الاندماج المنسجم، ربما نشعر بالغرابة، لكن المؤكد أنه سيتملكنا الشغف، عالم من الدهشة يصنعه تقديم الأفكار المتمردة فى تقنيات شكلية مميزة.
 يعتد عبد اللطيف بمفهوم "الخلق الفنى"، الخلق الذى يلامس الواقع ليسرق ناره، كما تقول الأسطورة اليونانية، حيث يأخذ النور والوهج ثم يرتفع بهما إلى السماء. يبرع فى هدم المتحفي ليعيد صياغة عناصره وتركيبها على نسق آخر، مستعيناً بملكات خيال منطلقة، فتتخلق عوالم مغايرة، قادرة على خلق الصور، وهو ما تعنيه الفانتازيا فى اللاتينية، حيث يتجلى الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج، ولا يعنى هذا قطيعة مع الواقع بل طرح إبداعى يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره. هكذا نرى "صانع المفاتيح" رؤيةً وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة وسبق، لا اقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية خاصة فى ظل هذه الثقافة الكونية المتسارعة.
 انطلاقاً من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث الحكائى العربى الذى اعتمد على منطق الفانتازيا، ودراساته للغة الأسبانية وأدب أمريكا اللاتينية، وترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب، تشكلت لدى الكاتب رؤية فنية خاصة للإبداع، لا متأثراً أو مقلداً بل مبدعاً مبتكراً، مغموساً حتى النخاع فى العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعه المصري، خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار وتناسبها مع الواقع الثقافي الخاص.
 يحتفى الكاتب في "صانع المفاتيح" بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التصوف فى الجانب المعرفي، ويبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعده عن مركزية العقل البشري أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازله بتشكيلات فنية ومنطق معرفي آخر، يتتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤى وتقنيات تصنع عوالم من الجدل الثري، ويقع نص "صانع المفاتيح" فى محيط تعريف "الفانتازيا الذهنية"، أى القدرة على تجلية تقاطع الواقع بالخيال. كما  يرتكز على الثقافة الشعبية التى تحتفي بالأحلام وتفسيرها ونبوءات العرافات ويمتح من الموروثات الدينية والأسطورية والملحمية، وكلها آليات تشكل بامتياز "تيار الواقعية السحرية" فى الأدب. ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ فى "صانع المفاتيح" وعمله الأحدث"عالم المندل" القائم في الأساس على الحلم والمندل وقراءة الكف، رغم أن كلاً منهما له عالمه شديد الخصوصية.
يعتمد الروائى على فكرة فانتازية وليدة التجاوز، فصانع المفاتيح الذى سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التى شوهت قريته لاستشراء الفساد فيها، يصنع مفتاحاً يغلق به سمع الإنسان، ويتطور الأمر وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان، لم يرتض هو أن يصنعها، لكن صبيه وفّرها لأهالى القرية فأصبحت قرية أقرب إلى الموتى. يوظف من أجل تنمية هذه الفكرة الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الروائى، ويتكئ على الخيال الذى يقع علي الواقع، يسائله ويضعه تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة، تخلق صوراً جديدة للعالم، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير ما عهدها الإنسان. اللافت للنظر أن بمقدور الروائى صناعة عجينة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغالها بعناية فائقة، مازجاً بين عناصرها دون أن يشعر قارئه أن هناك انفصالاً ما بين الفكرة الفانتازية والعالم الواقعى الذى تتعاطى معه ويوفر لتشكيله النصى خبرات تكنيكية وآليات تكوين على نحو مميز. هذه البنية الفانتازية تحوي جانباً متخيلاً يأخذ خيطاً عجائبياً بجانب الخيوط والمحكيات الأخرى الواقعية أو الاجتماعية التاريخية، كما أنها ليست بنية تناصية. يضفرها المبدع مع محاور نصه، فلا يظهر الفصل بين فوق الطبيعى والطبيعى، بين الغرائبى الخارق وقوانين العقل فى بناء العوالم الحكائية والدلالية والمعرفية. فالواقعى والمتخيل، المادى والروحى، الألفة والغرابة، الطبيعى والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً على أوضاع مجتمعية مستعيناً ببنية الفانتازية الرمزية.
تتلخص محاور العمل الرئيسية في ضيق صانع المفاتيح بكل ما يسمع من انحرافات المجتمع، يصنع المفاتيح التى تغلق الحواس، يعتريه الشعور بالراحة نسبياً هو ومن استخدم المفاتيح من أهل القرية، يتأمل الخلق والوجود، ثم يبني مدرسة للأطفال في نظرة استشرافية للمستقبل، يثور الشباب على قرية لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، تهيمن القوى المسيطرة على الأمر ويسجن صانع المفاتيح. يتداخل هذا المحور المتخيل بالعمل مع محاور النص الأخرى وأحداثه وشخوصه التى تشبه أو توازي ما يمكن أن نراه بالواقع، وتعد هذه المحاور المضفورة مع الفانتازي تناسُل مولودات نصية وحكائية وتصورات وأحداث، وتوليف عناصر مع أخرى، ومن هنا يتجلى الدمج التام بين الفانتازي والواقعي فى النص وهو ما يحقق ما أطلق عليه "الفانتازيا الذهنية"، فالنص لا يعتمد على بنية منفصلة استهوت المبدع، لكنه يعتمد على مفهوم خاص للفن وزوايا جديدة لتناوله.
يطرح عبد اللطيف في "صانع المفاتيح" وكذلك في"عالم المندل" سؤالاً إشكالياً: هل الفانتازيا لعبة فنية، تجريب يمارسه الفنان ويتكئ فيه على الغرائبية لخلق عالم مدهش؟ أم أن الفانتازيا رؤية فنية وتقنيات شكلية لا تنفصل عن أزمات الإنسان والكشف لمناطق الغيبوبة التى وقعت فيها الحضارات البشرية تحت الأساطير والنصوص التي أخذت صفة التقديس؟ أتصور أنها رؤية فنية وإبداعية خلقت آفاقها المتسعة، وكان حضورها أكثر زخماً بعد انهيار الأنساق الفلسفية المتسقة، وتقوض التيارات الأدبية ذات الملامح. فى ظني أن عبد اللطيف يقدمها كنهج إبداعي يشير إلى أزمة القيم العميقة ومقولاتها التى صارت تحت طائلة التفكيك اتجاهاً يعوّل على الثقافات الخاصة بموروثاتها الفلكلورية وروحانياتها المميزة. الفانتازيا فى الرواية الجديدة لا تحكى العالم وإنما تناوشه، وتعريه، وتختزله، وتدمر التصورات الذاتية عن العلائق والأشياء والبشر، لتفتح عوالماً بديلة يتحاور فيها الخيال والعقل والواقع، إن صح أن هناك واقعاً، خارج ذواتنا وعقولنا ووجداننا، وهو ما تحقق بوضوح في "صانع المفاتيح".
تجلت الفانتازيا وتنوعت معالجاتها فى أدب أمريكا اللاتينية ودارت حول تكوين الديكتاتور وكشف ممارساته، عبرت عن الطغيان العسكرى، عرّت أوضاع سياسية واجتماعية طالت الشعوب قهراً بلا رحمة أو هوادة، ومن خلالها أوجد ماركيز وفوينتس ويوسا وساراماجو عوالماً تكشف هذا الواقع الرديء، وبعثت توقاً إلى إمكانات أخرى ومعطيات أكثر تحرراً. وفى "صانع المفاتيح" كان الفساد والانحدار الأخلاقى والقيمي محركين استدعيا فانتازيا النص، وفى "عالم المندل" كان القهر الاجتماعى وتحكم الخرافة والشعوذة فى مقدرات المجتمع والأفراد هما ما أوجدا هذا الحلم الحقيقي الذى عاشته الفتاة التي صارت ذكراً بيولوجياً، إنه السعى إلى المستحيل، الذي يناوشه دائماً الفنان الحقيقي.
***
يتملك عبد اللطيف هاجساً بفكرة التحوّل، ففي "صانع المفاتيح" تتحول القرية إلى مدينة، وتتحول الشخصيات من السمع إلى الصمم ومن البصر إلى العمى ومن الكلام إلى البكم، وفي "عالم المندل" تتحول الفتاة إلى ذكر، وتصير إناث المدينة رجالاً ويصبح الرجال إناثاً. يبرز الكاتب فكرة التمرد على المستقر، يتعامل معه على مستويين: فعل إبداعه الخاص ورؤيته للفن، فهو أولاً يعلو بمفهوم التحول المستند على قدرة الإنسان المبدع على الخلق أو الصنع، على تغيير الثابت وسلطة المستقر الراسخ ليخلق عالماً آخر من المحتمل أن يكون، كأنه فنان بروح متصوف، يعيد هندسة الكون ويلهو بحنكة فى عناصر تكوينه، ومن منطقة الخلق الفني وقدرته على التجريب يغوص بالواقع ويرتفع به ليعيد فنياً ترتيب وصياغة ما قد يبدو فيه عشوائياً. ثانياً، يخلق نماذجاً بشرية فى النصوص قادرة على فعل التحول والتمرد على ما هو كائن، نماذج من شأنها أن تفعل، تغير موازين القوى حتى ولو على مستوى التخيل أو الرمز. يقول عبد اللطيف فى مدونته: "كتابة الأدب – أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد، بل يتطلب خيالاً لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية، الطول والعرض والعمق، وهو ما يعنى ببساطة: الكائن، ليس بوصفه جسداً، بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً". تضافر هذا الوعى لديه مع المفهوم الخاص الذى آمن به للسرد، مفهوم لا يستند على كلاسيكية الحكاية ولا المحاكاة، بل خلق نماذجاً من شخوص منحوتة من الداخل غالباً، خاصة وأن بعضهم يتمتع ببعض مزايا وسمات الشخصية التراجيدية أو الملحمية. تتميز شخوصه فى "صانع المفاتيح" باحتوائها على المناطق الحائرة، القلقة، الشخوص ذات الأبعاد المتعددة، ذوات بشرية يحتدم فيها الصراع ويتناوب بين الغرائز والأطماع والقيم الإنسانية.
بين الواقع والملحمة، يقدم الكاتب شخصية صانع المفاتيح ويهبها بعض الملامح الأسطورية بداية من اسمه ومهنته وقدرته على الخلق دون مثال والتحكم فى الحواس البشرية، كما تتبدى طقوسه وثقافته شديدة الثراء، تتراوح بين عالم مادى أرضى، وعالم صوفى متعال من خلال مناجاته لله وقراءته لمؤلفات ابن عربى، وتأملاته فى الجبل، انفصاله عن العالم عن طريق غلق السمع، ثم رغبته فى بناء مدرسة لتعليم أطفال القرية والخروج بهم من الطبيعة الحيوانية. يهيئ الكاتب لشخصيته منذ أولى فقرات الرواية طقساً غرائبياً يدخله حثيثا في المفارق نسبيا، ذلك حين يحكى أنه يمشى نائماً، ويحلم بعوالم سريالية، وتتنبأ له إحدى العرافات بالغنى ثم الموت محبوساً. كما يرسم له طفولة مفارقة، فهو معجز لكنه إعجاز يخالف ما تواتر عن المعجزات وقت ولادة الأنبياء والصالحين يقول: "عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت، ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً، ولا جاء وقت الحصاد قبل أوانه، مع ذلك فرح أهل القرية فرحاً جماً". كأنه بذلك يرمى بسهامه مفككاً لمقولات النصوص والموروثات الدينية في سردية حديثة. ويصور سبق الطفل فى قدراته وملكاته فى النمو، وجمال خلقته، ثم يبرز به جانباً عاطفياً حين تعلق بقطة وعشقها، لكنها ماتت فيتحول لطفل متوحش، إلى أن يستقيم سلوكه مرة ثانية، ويعود إلى طبيعته السمحة حين يفهمه والده أن قطته بالجنة.
ملامح متعددة يوفرها الكاتب لبطله الرئيسي، تجعل منه ذاتاً أرضية وسماوية فى اللحظة ذاتها، كما يحمل المبدع الشخصية ظلالاً متعددة، وفى كل ظل هناك إحالات لعدد من الأنبياء أو بعض المتصوفة، وطريقة سلوكهم، وهو ما يمنح الشخصية الجانب الأسطورى وملامح المقدس، ليس على شاكلة السابق لكن أقرب إلي شخصية أرضية ذات صفاء، ويعد هذا التكوين النفسى والتاريخى للبطل متسقاً مع الحدث الفانتازى الذى أقدم عليه.
الشخصيات الأخرى تتضمن جانباً فنياً وفكرياً متجرداً نزقاً، ف "لاللي" يتبدى كلاعب ماهر يحرك العالم وكأنه يتحكم بعرائس الماريونت، يلهو بضعف البشر وشذوذهم، بجهلهم ومرضهم، بجانب ما يحتشد به من رغبة فى الاستحواذ والأطماع، ولا يعدم القارئ أن يجد لديه جانباً إنسانياً خيراً خاصة مع الدكتور فى بداية حياته. و"الدكتور"  يمارس نزع قرنيات أعين المرضى النفسيين، ويبيعها لمن يستطيع أن يدفع، كما يحاول أن يجد له منطقاً يبرر به أطماعه، فتستحوذ عليه أحلام معذبة ويعاني من وسواس التطهر المتكرر بعد كل عملية يجريها، ويرفض مضاجعة زوجة البواب لأنها، كما يقول الدكتور، المتعة الوحيدة للرجل المسكين. يستيقظ ضميره فيرى جانباً خيراً بداخله، طمسه فى السابق إحساس بالدونية والفقر والعوز، فيتزوج من جميلة لعلمه أن الجميع قد طاله التشوه بصوره المتعددة. هكذا نلاحظ اهتمام الكاتب برسم الشخصية: ثقافتها، ومعطيات بيئتها، وكهوفها النفسية، وما يستجد عليها من متغيرات، كما يضع يديه بمهارة على نقاط التوتر فى الشخصيات وزوايا التحول، وهو ما يميز شخصيات نصوصه فهى فاعلة وإن بدت مقهورة، شخصيات لا ترضخ للكائن، تتطلع للتغيير حتى وإن بدا فانتازياً فهو أول الغيث.
يطول التحوّل أيضاً المكان، فالقرية مكعب متعدد الأوجه، يبرز أحدها أحياناً ليجعلها قرية صغيرة حقيقية واقعية، ووجه آخر يبرز فيه بنيتها بين القرية والمدينة، وأتصور أنه من خلاله يشير إلى التحولات التى حدثت للمجتمع المصرى الزراعى المستقر، ووجه ثالث يشير إلى مكان ملحمى أسطورى، ووجه رابع دينى مقدس. وأرى أن تشكيل المكان على هذا النحو الملحمى الأسطورى والمقدس يتسق مع فانتازية النص ويمثل ركناً ركيناً فى الوصول بالفكرة محور العمل إلى طبيعتها الفنية الخاصة.
***
يحتدم في "صانع المفاتيح" صراع الكاتب فيما يختص ببعض الأساطير الدينية والرغبة فى تفكيكها، يخوض فيما يبدو مقدساً وهو معنياً بتفكيك المقولات، خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها. يقول عن "الدكتور": "وهو صغير، بدأ يعتقد أن الله لا ينظم الأرزاق، بل إنه يلقيها من سمائه، ومن يسبق يأخذ" ص55، ثم يكمل فقرته فى لباس ساخر، كما أنه يقرن صناعة المفاتيح والانتهاء منها بقصة الخلق التوراتية، وبدلاً من تمام الخلق فى ستة أيام ينهى يوسف المفاتيح فى ستة أشهر، ثم يصعد إلى الجبل للتأمل، وكأن الإله أراد أن يستريح بعد الخلق فى العهد القديم، وأتصور أن الروائى يشير إلى الجانب الفنى فى الموروث لا الفكرى. على مستوى آخر وفى كثير من تقنيات السرد، يتكئ على المقولات المقدسة، وعلى المذكور فى نصوص العهد القديم والجديد، والتناص مع كثير من نصوص القرآن، كما يصدر نصه بالآية القرآنية "صمٌّ بكمٌ عمىٌ" وهى ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص. إن تفكيك المقولات الدينية ودحضها فكرياً، ثم استخدام التقنيات الفنية والتشكيلية التى تتناص مع الموروث الدينى فى إنماء النص والتطور به لهو موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين المبدع ومعتقداته الفكرية، وبين ما يستقر بوجدانه وثقافته التى تراكمت وشكَّلت فى لا وعيه العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً فى تخلق نص حيوي لا يدعي يقين، لكنه يثير تساؤلات ويترك قارئه فى فضاءاتها.
 يبنى أحمد عبد اللطيف ويهدم، يبنى "صانع المفاتيح" الأسطورة البسيطة الأرضية، ويهدم أساطيراً أخرى كثيرة اكتوى بها البشر طويلاً، وتصبح اللغة أداته الطبيعية لإيجاد صيغ أسلوبية ناصعة تصيب الهدف بدقة، لغة تعرف مقاصدها وتذهب إلى عمقه دون مراوغة. تتبدى أساليب الروائى ناجزة حتى وإن تنوعت الأحداث والأفكار وجاءت واقعية أو متخيلة أو وقائع حلمية، وهو ما يكشف عن رؤية وثقافة ناضجة عند المبدع. وهو أيضا ما يأخذ بيد قارئه لكشف حالة الشخوص الفكرية.
وتظل منطقة الصدمة والتساؤل في كتابته، غرائبية الفن وأشكال طرحه، هاجس عبد اللطيف الذى أتصور أنه معني بتنوع نصوصه من حيث المحتوى وتقنيات أدائه، بل والتوحد بهما معاً وهو ما يمكن أن نراه فى روايتيه ومشاريعه الروائية القادمة.

 أخبار الأدب. 8\7\2012



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...