السبت، مارس 12، 2011

ما بين استعادة البصيرة والثورة البيضاء




      في رواية "البصيرة"، التي يمكن اعتبارها كجزء ثان من روايته "العمى" يرى ساراماجو أن الشعب قد استرد بصره، أو بصيرته، عندما توجه إلى صناديق الاقتراع ليدلي بأصوات بيضاء، في رسالة واضحة وذكية مضمونها أن أحزاب اليسار واليمين والوسط ما عادت مُشبِعة، وأن أتباعها كفروا بها، وبالتالي، لم يعد أي منها جديراً بالتصويت لأجله. هكذا صوّتوا تصويتاً أبيض ليصفعوا الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة على وجوههم القميئة، التي تحتل على الدوام وسائل الإعلام المرئية والمقروءة.

     ثمة شيء لا يمكن تجاهله يربط تصويت ساراماجو الأبيض بثورة الشباب البيضاء، خيوط ممتدة بدأت من رواية العمى، حيث أصيب الجميع بعمى أبيض اختفت على أثره كل الصور، وامتدت للبصيرة، حيث استحضروا كل ما غاب. هنا، في البصيرة، بدون أي اتفاق مسبق، بدون قائد أو مجموعة، يخرج السكان جميعاً، في وقت واحد تقريباً، ليدلوا بأصواتهم. يقفون في صفوف طويلة، يتحدثون في أشياء عابرة، ودون أن يتفقوا على شيء، يتوقفون عن اختيار كل المرشحين في الانتخابات. هنا تحدث الفوضى المحببة، يحرّك الحجر الملقي المياه الراكدة، فيعيد الساسة جمع شملهم لمواجهة "الشرذمة المنحلة". ولأنهم متعجرفون، ولأن أمراض السلطة أفسدت أجهزتهم الحسية، ولأن الشعب بالنسبة لهم لم يعد سوى مجموعة من الجهلاء، الرعاع، القطيع، واصلوا في عنادهم، ورددوا عبارات احتلت قواميسهم، تصف الشعب المقهور بأنه في حاجة إلى تربية. وبدلاً من البحث عن عيوبهم والاعتراف بأخطائهم، نراهم يؤدبون الشعب على طريقتهم، حيث القمع والتعذيب. يسلط ساراماجو الضوء على الاضطرابات الجارية في الكواليس، ارتجافات رئيس الجمهورية، توحش وزير الداخلية، الاستخفاف بوزير الثقافة. اجتماعات ومجادلات ومناقشات تهدف، بدلاً من الإصلاح والتخلي عن مناصبهم، القضاء على الشعب المتمرد. هنا تبدأ الملهاة، حيث القبض العشوائي على الأفراد، وظهور أجهزة كشف الكذب، والتعذيب، بل وتحريم استخدام كلمة "أبيض". ولأن الحكومة لا تجد زعيماً للتمرد، تقرر أن تخلق زعيماً، وتطلق الإشاعات حول أعداء الخارج الذين يبغون القضاء على هدوء بلدهم وحرمانهم من هذه النعمة العظيمة.

     ثورة 25 يناير، إذن، هي سير غير متعمد فوق خطوط شعب ساراماجو المتخيل، ورد فعل الديكتاتور وحكومته المتعسفة هو وجهة نظر ساراماجو الصائبة في الأنظمة الفاسدة. أي برهان بعد ذلك أقوى وأدل على أن الأدب روح التاريخ؟ وأن الأدب لا يجب أن يحكي وقائع بقدر ما يلتزم بحكي حقائق، وأن الحقائق يمكن الوصول إليها عبر الخيال والرمز.

    حدث أيضاً أن صورة الطغاة، الفاسدين من ذوي السلطة، ثابتة على مر العصور، وفي كل الأماكن، وأن سلوكياتهم وردود أفعالهم الأولى، بل والأخيرة، نسخ مكررة. هم نصف إله، كما يعتقدون، وبالتالي، يعتبرون الخروج عليهم خطيئة لا تغتفر. هكذا، قتلهم لثلاثمائة شاب لا يعني شيئاً، ومحاولات قتلهم للآلاف هي واجبهم المقدس. ما من جديد في أساليب العقاب، السلطة تدافع عن حصونها المزيفة بطلقات النار، وخطبهم تتزين بأعلام الوطن المرفرفة. ما بين الفوضى التي ستحل بعدي، وما قدمته للوطن، والمطالبة بتكاتف الشعب لتخطي الأزمة، تدور الأحاديث الموجهة للشعب، بينما الكواليس تضم حوارات أخرى تدور حول سؤال جوهري: من فعل هذا وكيف يمكن تفاديه. ما خالف التوقعات في ثورتنا البيضاء هو استمرارها للنهاية، ورفض أنصاف الحلول، بالإضافة لرقيها وحرصها على نقائها حتى في أحلك اللحظات. فضلاً عن أنها بلا رأس، لتكون بذلك أفضل دليل على سقوط كل الأحزاب والجماعات الدينية، وهو ما يفتح صفحة جديدة في تاريخ الشعوب، تبدأ سطورها الأولى بقوتهم وإرادتهم.

     وكما حدث في رواية ساراماجو، صارت وسائل الإعلام سلاحاً آخر مصوباً إلى الثوريين، بهدف تثبيط الهمم من ناحية، وكسب مترددين جدد إلى صف الفساد. الفرق هنا، أن وسائل الإعلام في "البصيرة" كانت تتحرك بناء على خيال روائي محترف، بينما في ثورتنا تحركت وفق عقلية عسكرية قديمة ومتحجرة، أضرت بالنظام حينما أرادت تدعيمه.

     وأخيراً، فالشعب الذي انتقده ساراماجو في "العمى" وأيده في "البصيرة" و"ثورة الأرض" بشر يشبهوننا تماماً، ذلك أن الأعمال الإنسانية، المبنية على رؤية متفحصة، يصلح أن تدور في كل العالم. رغم ذلك، تفوقت 25 يناير على كل خيال، وحققت في 18 يوماً نصراً أبيض، يشبه استعادة البصيرة.

                       نشر المقال بمجلة الثقافة الجديدة عدد مارس

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...