السبت، مارس 24، 2012

شرين أبو النجا تكتب عن عالم المندل


عالم المندل... بين فرويد ولاكان

د. شيرين أبو النجا

عقدت مؤخراً ندوة  بجمعية محبي الفنون الجميلة حول رواية صدرت حديثا للكاتب أحمد عبد اللطيف وعنوانها "عالم المندل" (العين، 2012). استمتعت بالمشاركة في الندوة مع الكاتب طارق إمام والناقد عمر شهريار. وكان مسار الندوة ثريا بشكل لافت ومحفزا على التفكير من ناحية اختلاف الرؤى النقدية للثلاث متحدثين اختلافا معرفيا غير منفصل عن رؤيتهم للعالم. لنطرح هذا الاختلاف الثري لابد من الإشارة إلى الرؤية التي عمل النص على توصيلها عبر تقنية الواقعية السحرية التي أتقنها الكاتب من خبرته في ترجمة الأدب االمكتوب باللغة الأسبانية، والتي أصبحت في الوقت ذاته تقنية يستخدمها الكثير من الكتاب الآن لقدرتها على صياغة الرؤية دون إهمال السياسي والاجتماعي ودون السقوط في فخ المباشرة الغوغائية.  في "عالم المندل" تستيقظ الفتاة البالغة من العمر ثلاثة وثلاثين عاما في اليوم السابق على زفافها لتدرك أن الحلم الذي شاهدته في قيلولتها منذرا بالشؤم، فقد رأت أنها أصبحت رجلا بالمعنى البيولوجي. في وسط سلسلة من الهواجس والمخاوف المتعلقة بالحلم تستعيد الفتاة حياتها التي حولتها إلى امرأة مهملة اجتماعيا، مشتتة نفسيا بين الأحلام واليقظة، مضطرة لقبول زوج لم تعرفه من قبل ولا تعرف لماذا اختارها. بالرغم من أن الفتاة بلا اسم إلا أنها معروفة كمفسرة أحلام المدينة، مما يجعلها تعيش على هامش حياة الآخرين، تفسر أحلامهم وتستعير حياتهم لتكون دائما طرفا ثالثا في كل قصة. بانتهاء السرد المتسلسل يحدث الانقطاع الروائي لتبقى لحظة الزفاف معلقة حتى النهاية. بوقوع هذا الانقطاع ندرك أن الراوية كانت تسرد وهى على الحدود بين عالمين: عالم الحلم وعالم اليقظة. باستحضار الرواية لخطابات أمها التي كانت تكتبها للجدة تتأسس سلالة أمومية كاملة تكتفي بذاتها وتغوص أكثر داخل منطقة اللاوعي محاولة التعرف عليها كما يحاول الطفل بلورة الصور في قاع فنجان المندل. يكتمل الاستغناء الأمومي بظهور العضو الذكري لكافة نساء المدينة اللواتي تظهر عليهن جميعا علامات البهجة والارتياح والثقة وذلك عكس كافة علامات الاضطراب والارتباك التي تملكت الفتاة وهى تسرد واقعها الاجتماعي في النصف الأول من الرواية. تبدأ رحلة الغوص في المكبوت والمهمش، وتتكثف الدلالات الرمزية التي تساعد القارئ على فك شفرة المكبوت حتى تتمكن الراوية في النهاية من الإفلات من إرث نفسي مؤلم كما ينفلت بخار المياه الساخنة من الشقوق الخشبية الضيقة، و"ابتسمت ابتسامة امرأة أمسكت أخيرا بزمام حياتها".

دارت المداخلات حول تفسير معنى تحول الفتاة إلى رجل في الحلم ثم في اليقظة. ارتكزت رؤية طارق إمام على سيادة "عقدة الكترا" لدى الفتاة، وهو المصطلح الذي صاغه فرويد ويعني ميل الفتاة نحو الأب، وهى عكس عقدة "أوديب" التي تدفع الصبي تجاه الأم. ارتكز تحليل طارق إمام على فكرة توق الفتاة لوالدها وتصالحها التام معه بالرغم من أنه بدا شخصية غائمة في السرد والذي كانت الأم تراه قليلا. وبالتالي فإن ظهور العضو الذكري لهو دلالة على محاولة الفتاة التماهي مع شخصية الأب. جاءت رؤية عمر شهريار مكملة لرؤية إمام، فقد أضاف الفكرة الرئيسية الفرويدية التي تسمى "حسد القضيب"، وهى العقدة التي تتملك النساء تجاه الرجال فتحاول المرأة على مدار حياتها اللحاق بالرجل. ثم عبر عمر شهريار عن تحفظه النقدي تجاه المفارقة التي أنجزها عبد اللطيف، فقال أن محاولة الغوص في نفس وعقل المرأة تحسب له لكنها أتت محاولة مشوبة بصبغة ذكورية. اعتمدت مداخلتي على توظيف منهج جاك لاكان الفرنسي الذي خرج من عباءته منظرات النسوية الفرنسية إثر أحداث 68، وبالتالي فقد رأيت أن استلاب العضو الذكوري ومواجهة العالم من الجانب الآخر لهو بمثابة خوض في مناطق اللاوعي المكبوتة والمظلمة منذ الطفولة. وهو ما يتفق أيضا مع منهج كارل جوستاف يونج.

جاءت كل مداخلة مكتملة في ذاتها،  وبالرغم من إن طارق إمام قد أكد أن النص يفتح على عدة تأويلات وبالتالي فإن ما يقدمه ليس إلا أفكار وتساؤلات من أجل فتح النقاش فقد كان من الواضح ارتكاز تفسيره للنص على أساس العلاقة الملتبسة بين الفتاة والأب وبالمثل أكد شهريار على محاولة التماهي مع الأب، فجاءت الرؤيتان معتمدتان على التحليل الفرويدي وهو ما لفت نظري. فمجرد مسألة "حسد القضيب" التي أتى بها فرويد تضع المرأة دائما في مرتبة تالية للرجل باعتبار أنها تسعى لاكتمال نقصانها مما يسم الفرويدية بشكل عام بصبغة تحليل ذكوري، وهو ما جعل منهج يونج ولاكان يتحولان إلى مناهج تحليل نسوية، فعلى سبيل المثال اعتمد كتاب "نساء يركضن مع الذئاب"  لكلاريسا بنكولا والذي ترجمه مصطفى محمود على منهج يونج بشكل كامل، وتعتمد فكرة الكتاب على محاولة اكتشاف المناطق البرية المظلمة في اللاوعي الأنثوي. إلا أن قراءة القصص الواردة في الكتاب مثلا بمنهج فرويد سيؤدي مباشرة إلى النتيجة العكسية، فبدلا من محاولة فهم المظلم والبري في اللاوعي الأنثوي قد يخلص القارئ إلى أن هذه القصص تعبر عن مناطق الضعف والقهر. ما حدث في الندوة هو أن كلا من طارق إمام وعمر شهريار انتقيا المنهج الفرويدي لقراءة النص، وهو ما يتفق ويتسق مع طبيعة رؤيتهما للعالم كرجلين بالرغم من إيمانهما التام على المستوى الشخصي  بإنسانية المرأة وعدم تدنيها عن الرجل بأي شكل.
ما فكرت فيه حينها هو أنه هناك فارق بين المستوى الشخصي اليومي المباشر وبين مستوى رؤية العالم بالمعنى الأنطولوجي، وهو الفارق الذي يدفع بفرويد مباشرة ليتمركز في قلب قراءة كل من إمام وشهريار للنص، وهو أيضا الفارق الذي يدفع بلاكان في قراءتي للنص. كل منا قرأ النص عبر رؤيته للعالم، فقرأ طارق إمام وعمر شهريار أن الفتاة تحاول التماهي مع الأب لتصالح العالم وقرأت أنا أن الفتاة غاصت في لاوعيها المظلم لتمسك بزمام حياتها. قرأ إمام وشهريار أن عالم المندل المتوارث يشد الفتاة للخلف وقرأت أنا عالم المندل بوصفه يؤسس لسلالة أمومية. كان المدهش في الندوة أنها أوضحت بشكل واقعي معنى القراءة من وجهة نظر الرجل والقراءة من وجهة نظر امرأة، وكانت من المرات القليلة التي تحول فيها النقد إلى نص ممتع بقدر النص الإبداعي.     

الجمعة، مارس 02، 2012

اللحظات الابدية في مديح الظل


اللحظات الأبدية في مديح الظل


أحمد عبد اللطيف

       ما من ديوان عبّر عن بورخس "الأعمى" مثل ديوان قصائده تطرح فكرة "اللحظة"، ليست اللحظة العابرة التي تليها لحظات أخرى منفصلة عنها، بل "اللحظة البورخسية" التي يتمثل فيها العالم منذ بدء الخليقة إلى الآن. هكذا يمثّل ديوان "مديح الظل" الصادر عام 1969 متوافقاً مع بلوغ كاتبه سن السبعين، قمة نضج التجربة الشعرية عند شاعر المتاهات والمرايا، حيث اللحظة تتسم بصفة الدائرية، اللاتناهي، الأبدية التي تحمل الموت والحياة، والضوء والظلام، و ال "ما كان" و"ما سيكون". "في يوم من أيام الإنسان تحيا أيام الزمن\ منذ اليوم الأول غير المدرك\ من زمن كتب فيه إله رهيب\ الأيام والآجال\ إلى اليوم الآخر الذي يعود فيه\ الزمن الأرضي دائب الحركة إلى منبعه...\ بين الفجر والليل يجري تاريخ الكون". يطرح بورخس، بتكرار في قصائد متعددة، سؤالاً حول استمرارية اللحظة في ذاكرتنا فقط، عن زمنها المحدد، عن إمكانية عدها أو تلقيها باعتبارها زمناً بلا زمن. هل صار الزمن بلغزه السؤال الأكبر عند الشاعر الأرجنتيني عندما تشابه لديه الليل والنهار؟ عندما توقفت أمامه لحظات بعينها فصارت في حكم المتكررة؟ يُشكّل الديوان، عبر قصائد متفرقة، مفهوماً للحظة البورخسية، حيث يتوقف الزمن عند "لحظة البدء" ليصير لحظة واحدة يدور فيها البشر. هي إذن ليست اللحظة المتفق عليها، بل الأكثر عمقاً، حيث تُمثل نقطة في الأبدية، أو ربما، الأبدية في نقطة، حيث اللحظة صورة تشبه كياناً يجمع كل شيء ولا شيء، كياناً يموت ليحيا ويحيا ليموت. وهكذا "قرن من الزمن لا يعادل\ إلا لحظة"، ولأنها ممتدة، أبدية، يتحول فيها الإنسان من حي لميت والعكس، وتحوي "على صفحتها المائية\ صوراً قليلة خالدة". ولأن العالم يدور في لحظة ف:" اليوم هو الأمس. أنت هم الآخرون\ محياهم هو التراب. أنت هم الموتى". لا يمكن، إذن، أن نفصل "سعادة الأشياء القديمة الحميمة" عن لحظتها، فالشاعر الأعمى يدور حولها، هي الذكرى التي تأتيه بعيدة عن ترتيبها الزمني فيراها خاطفة ومتباطئة في آن واحد، ويعي كرجل ضرير "أنه لن يتمكن من حل شفرة \ ما بين يديه من مجلدات" و"لا أيام في ناظريّ".
     تأتي اللحظة متفرقة عبر قصائد الديوان، وتأتي، في المقابل، سلسلة من اللحظات في قصيدة "بوينوس آيرس"، مدينته التي تركت فيه علاماتها، والتي يشرع في وصفها من الذاكرة. مدينة أخرى غير ما صارت عليه. "ميدان مايو الذي عاد إليه\ الرجال المتعبون سعداء....\ متاهة الأنوار المطردة من الطائرة...\ حائط الإعدام في لاريكوليتا...\ باب يحمل رقماً قضيت خلفه ساكناً، في الظلمة\ عشرة أيام وعشر ليال"، كل ذلك ليس إلا "لحظة في الذاكرة". والذاكرة عند بورخس لا تنفصل عن النسيان "لأن النسيان من أشكال الذاكرة\ قبوها الغائم\ وجه العملة الآخر، السري".
    في القصيدة التي يحمل العنوان اسمها، يراجع بورخس لحظات حياته، يقارن أوجهها المختلفة، هكذا يبدأ باللحظة المتقدمة:"قد تكون الشيخوخة(كما يسميها الآخرون\ زمنَ سعادتنا\ فالحيوان بداخلنا قد مات أو شبه مات\ وتبقّى الإنسان والروح"، ليمسح بذاكرة عجوز الأمكنة والوجوه، المنازل القديمة المتهالكة. ومن مكانه كرجل أعمى يسجّل:"أصدقائي بلا وجوه\ والنساء كما كن منذ أعوام كثيرة\ ونواصي الشوارع قد تكون أخرى\ ولا حروف بصفحات الكتب". لكن العمى بالنسبة له ليس ظلمة، بل أشكال مبهمة، لذلك فلا شيء "يثير جزعي" لأنه يراه "عذوبة وعودة". ولأنه يعلم أنه يحيا في جزء اللحظة المظلم، حيث المتاهة، وأن هناك جزءاً آخر، يقول:"قريباً سأعرف من أنا".
      لا يحتفي الديوان (الذي صدر مؤخراً عن المركز القومي للترجمة بتوقيع محمد أبو العطا) باللحظة الأبدية فقط، فتيمات الحلم والرؤية والمتاهة والمرآة تطل أيضاً برأسها، لكن مفردة"السعادة" تتكرر بشكل ملفت:"الجليد والصبح والأسوار الحمراء\ قد تكون أشكالاً للسعادة"، لكنها ليست السعادة المتحققة، بل السعادات المفقودة، التي يدرك مؤخراً جداً أنها فاتته:"ارتكبت أكبر إثم اقترفه إنسان\لم أكن سعيداً". الديوان إذن في مجمله يعبّر عن منظور بورخس للعالم، منظور شاعر أعمي يرى اللحظات والذكريات كظلال متنقلة في دائرة زمنية مغلقة، بلا أمل في إضافة لحظات أخرى. 

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...