الاثنين، سبتمبر 27، 2010

يوسا يكتب عن حرق القرآن

البهلوانات



ماريو بارجس يوسا

ترجمة\ أحمد عبد اللطيف





يعلن تيري جونز، وهو راعي بروتستانتي متعصب من جينسفيل بفلوريدا وتضم كنيسته بالكاد خمسين زائراً، أنه يستعد في الذكرى السنوية لاعتداء القاعدة الموافق 11 سبتمبر لإحراق نسخ من القرآن، وفي أيام قليلة يحصل الرجل على شهرة عالمية. لا أعتقد أن هناك رمزاً أبلغ من ذلك لحضارة الاستعراض، التي هي حضارة الزمن الذي نعيشه الآن.



كان الصمت أو التجاهل أو على أقصى تقدير كتابة سطرين في صفحة النكات أو الغرائب بالصحف، هو الأمر الطبيعي أمام هذا الاستفزاز وهذه الحماقة والبهلوانية التي يؤديها الراعي جونز، والمطبوعة بالتعصب والجنون أو شهوة الشهرة الملحة. لكن، في سياق العنف السياسي والأصولية الدينية لعالم اليوم، وصل الخبر سريعاً للصفحات الأولى، وصورة المنادي للحرق بوجهه المعتم وثوبه المشدود وأصابعه المجعدة أدارتْ الكرة الأرضية. مئات الآلاف من المسلمين الغاضبين خرجوا إلى الشارع في أفغانستان والهند وإندونيسيا وباكستان وغيرها، يهددون بالانتقام من الولايات المتحدة وحلفائها إن تم حرق كتاب دينهم المقدس. دقتْ الأجراس في وزرات الخارجية والهيئات السياسية والعسكرية والروحية العليا في الغرب. الفاتيكان، سكرتير الدفاع روبيرت جيتس، البيت الأبيض وحتى الجنرال ديفيد بيتروس، القائد القائم بدور رئيس الحلف الأطلنطي بأفغانستان، كلهم نصحوا الراعي جونز بالتخلي عن خطته شبيهة محاكم التفتيش. وفي النهاية تنازل، وفوراً عاد إلى الظلام الذي ما كان يجب أن يخرج منه. تنهد الكوكب براحة، وطاف على السطح شعور بأن العالم قد نجا من لعنة جديدة.



هل كان من الممكن أن يحدث ذلك؟ نعم بالطبع. فأحد ملامح التعصب المحددة هو عدم قدرة المتعصب على تملك خطة بالأولويات الرصينة والمنطقية؛ والتي فيها، الأولوية الأولى هي دائماً فكرة أو إله يمكن أو يجب أن يُضَحى بالآخرين من أجله. وبالتالي، محرقة كتب مقدسة في حديقة بجينسفيل أمام مئات من كاميرات التليفزيون والمصورين تبرر الحرب العالمية الثالثة بل واختفاء الحياة في وادي الدموع هذا. عندما طلب الجنرال بيتروس من الراعي جونز ألا يحرق القرآن لأنه لو فعل ذلك سيتعرض الجنود الأمريكان في أفغانستان لخطر كبير، كان يعرف جيداً جداً ما يقوله.



كيف أمكن أن نصل إلى هذا الوضع الذي فيه تستطيع مبادرة هوجاء من مسكين تعيس، بلا مصداقية من أي نوع، أن تضع العالم بأسره على الحافة، مبادرة بشكل ملموس كان من الممكن أن تطلق عنفاً إرهابياً في عدة قارات؟ يرى البعض أن المسئولية تقع على عاتق وسائل الإعلام، التي لو كانت قد تصرفت بشكل عاقل ما كانت وضعت الراعي جونز في مركز الحدث، ناشرة تهديده كأنه سيلقي قنبلة ذرية شديدة المفعول. حقيقة أن الجرائد والراديو والقنوات التليفزيونية تتصرف بلا أي مسئولية، لكن ليس ذلك هو سبب الكارثة الأول، لأنه في هذه الحالة، مثل حالات أخرى كثيرة نعاني منها يومياً، لا يمكن لوسائل الإعلام أن تتصرف بطريقة أخرى. إنهم مضطرون لفعل ما يفعلون لأن هذا هو ما ينتظره منهم – أو يطلبونه- القراء أو المستمعون أو المشاهدون في العالم أجمع: أخباراً تخرج عن المعتاد، تدمر الروتين اليومي، تدهش، تربك، تفضح، ترعب، وفوق كل شيئ تسلي وتلهي. أليس من المسلي أن يعلن واعظ من دعاة العنصرة من جينسفيل بفلوريدا، بمفرده، مثل أماديس دي جاولا في العصور الوسطى، الحرب الكاملة على مئات من الملايين المسلمين الموجودين اليوم في العالم؟



لا يمكن أن تكون المعلومة في أيامنا جادة، لأنهم لو اجتهدوا لتكون كذلك ستختفي، أو في أحسن الأحوال سيؤل مصيرها للقبر. والقاعدة العريضة من تلك الأقلية التي لا زالت تهتم بمعرفة ماذا يحدث يومياً في الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم، لا تريد أن تشعر بالملل وهي تقرأ أو تسمع أو تشهد تحليلات فطنة ولا اعتبارات معقدة، مليئة بالصبغات، وإنما تريد أن تتسلى، تقضي وقتاً هادئاً، يخلصهم من ضيق وإخفاقات وتوترات اليوم. وليس محض صدفة أن تجد جريدة مثل لي موند الفرنسية، وهي واحدة من أكثر الجرائد جدية واحتراماً في أوروبا، على أبواب الإفلاس عدة مرات في السنوات الأخيرة. وأنقذت نفسها حديثاً مرة أخرى، لكن من يدري إلى متي، إلا إذا خضعت لإفساح مساحة للخبر- التسلية، الخبر- النكتة، الخبر- التفاهة، الخبر- الفضيحة، الذي احتل بطريقة منهجية كل وسائل الإعلام الكبرى، سواء في العالم الأول أو الثالث، دون استثناءات. ولكي تمتلك وسائل الإعلام الآن الحق في الوجود والازدهار لا يجب أن تعطي أخباراً وإنما تقدم استعراضاً، معلوماتٍ تشبه، في لونها وفكاهتها وطابعها المثير وعلو نبرتها، الاستعراضات الواقعية، حيث يلتبس الحق بالباطل كما يحدث في العمل الخيالي.



إن التسلية كلما أتيحت الفرصة، رغم ما تحمله من تجاوز للمباديء الأساسية للتعايش، والأخلاق، والجمال، والذوق الحسن الصرف، هو الوصية الأولى في ثقافة عصرنا. والحرية، تلك المزية التي تتمتع بها الدول الغربية واليوم لحسن الحظ يتمتع بها عدد كبير من بقية دول العالم، تسمح بضمان التعايش والحق في النقد والتنافس وتبادل السلطة، لكنها في نفس الوقت تسمح أيضاً بتجاوزات تقوض أسس الشرعية، وتضغط حجمها حتى تصبح منكرة. وأسوأ شيئ أن هذا الشر لا بد منه، فمحاولة تقليل أو قمع الحرية سيكون له عواقب أوخم على المعلومات من هذه التفاهات.



هناك عواقب متعددة لتتويج ثقافة الاستعراض- وأعراض جانبية- أولها وأساسها البطولية التي حققها في زمننا البهلوانات. كانت هذه مهنة نبيلة جداً في الماضي: التسلية، الفارْس أو الكوميديا المتجولة، التحول لشخصية خيالية تشوه الحياة، الحقيقة، التجربة، ليُضحك الجمهور أو يجعلهم يحلمون، إنه فن قديم وصعب وجدير بالاحترام، تمخض عنه المسرح والأوبرا والتراجيديات وربما الرواية. لكن الأشياء تتغير بتكافؤ عندما يمارس مجتمع ما، وهو مسحور بالتمثيل والحاجة للتسلية كهدف أول، ضغط أن يقولب ويحول خطوة خطوة ساسته ومثقفيه وفنانيه وصحفييه ورعاته أو كهنته وحتى علماءه وعسكرييه إلى بهلوانات. وخلف استعراض مشابه، تنكشف أشياء كثيرة، مثل الحدود بين الحقيقة والكذب، القيم الأخلاقية، الأشكال الفنية، طبيعة الهيئات، والحياة السياسية بالطبع.



لذلك ليس من المدهش في عالم معروف عنه شهوة الاستعراض أن يعتبروا دامين هيرست، هذا السيد الذي حبس سمكة قرش في جرة زجاجية ممتلئة بالفورمالين، فناناً عظيماً ويبيع كل ما يصنعه من فن مزيف بأسعار أسطورية، أو أن تكون أكثر المجلات انتشاراً في العالم أجمع، والبرامج الأكثر شعبية، هي التي يعرون فيها أمام جمهور كبير أسرار المشاهير الحميمية، وليس تلك الأسرار بالطبع بطولات علمية أو اجتماعية، بل فضائحهم وانحرافاتهم الشوارعية، فيحصل هؤلاء على 15 دقيقة من الشعبية التي تنبأ بها أندي وارهل – أيقونة أخرى من أيقونات ثقافة الاستعراض- لكل سكان مجتمع عصرنا.



من المستحيل أن تتحقق بطولته بكمال، لكن لأن هناك أناساً كثيرين في العالم ووسائل الإعلام لن تعطي كثيراً وستمنح للجميع هذا الخلود المؤقت. لكنها نعم تتحقق، بمعني منفصل وحميم، فطموح ينمو يدفع عدداً أكبر، من مختلف المدارات، للتصرف بطريقة تسمح لهم بالهروب من الظلام والدخول في محيط الشهرة التي يتمتع بها البهلوانات الذين يُصفق لهم إن أجادوا فن التسلية ويتلقون البقشيش وينسون إلى الأبد. من الصعب حتى على الطيبين الهروب من ريموت من يدفع نحو أحضان مبدعي الدعاية- الاستعراض- حتى ولو كان ما يفعلونه جاداً ويبدو خارج متناول التفاهة. ألم نر حديثاً أحداً سطحياً قليلاً مثل العالم ستيفن هاوكينج يجعل دعاية كتابه القادم أنه يبرهن على أن خلق العالم يمكن أن يحدث دون حاجة إلى الله؟



هذا هو المناخ الذي يفسر ما حدث لتيري جونز، الراعي الداعي للعنصرة والذي نفض العالم ومن الممكن أن يجرنا لكارثة توراتية أخرى(ليس هناك تعبير آفضل) ربما يكون متعصباً أو مجنوناً أو مهرجاً صرفاً. لكنه في كل الأحوال يجب أن يبقى واضحاً أنه لم يفعل ذلك بمفرده. فكلنا شركاء له.



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...