أحمد عبد اللطيف 


كنت صغيراً جداً عندما أدركت أنني سأكون كاتباً. أدركت ذلك لأنني كنت أعبر عن كل شيء بالكتابة، وكنت أظن أنني سأظل كذلك طيلة حياتي. كنت أتحدث قليلاً جداً، وتحت ضغط أن يطلبوا مني ذلك. ولم يكن صمتي اختياراً، بل لمشكلة في النطق: كنت أتحدث بفم مغلق أو شبه مغلق، ولم يكن باستطاعتي أن أفتح فمي عند الكلام، ما كان يسبب ضياع مخارج الحروف. كان ذلك مثيراً للضحك، ضحك الآخرين.
في تلك السنوات، التي استمرت حتى الثامنة أو بعد ذلك بقليل، كنت أتحدث على استحياء، وكان كلامي ينحصر في حكاية أحلامي لأمي وبعض احتياجاتي الضرورية. أمي كانت تفهمني. أمي وحدها من كانت تفهمني. ومع الوقت انتبهت أن ما أعاني منه مرض أو عاهة، وحتى أتجنب ضحك الآخرين وسخريتهم، لجأت للانطواء على نفسي، وبدأت في كتابة أشياء، أشياء عن مشاعري الخاصة اتجاه الآخرين، واتجاه نفسي، ولا بد أنني كنت أرتكب أخطاءً كبيرة في النحو والإملاء.
ولمّا لاحظ أبي أنني تأخرت في النطق بشكل سليم على عكس زملائي في المدرسة وجيراني وإخوتي الأكبر مني، بدا هو الآخر مشغولاً، خاصةً أن حالتي كانت سيئة، وكنت مع الوقت أكثر انطواءً وتجنباً للجميع. كنت الطفل الذي لا يطلب شيئاً. وكنت الطفل الذي لا ينتظر شيئاً.
بعد بلوغي السابعة، بدأت رحلة اقتربت من عام عند دكتور تخاطب، وبعد كل جلسة كنت أسجل ما حدث في أجندة، نفس الأجندة التي استخدمتها بعد ذلك لكتابة أحلامي التي وصلت في خمسة أعوام إلى مئتي حلم. ورغم مجهودات الطبيب الكبرى، لم أستطع أن أصل إلى الدرجة الطبيعية في النطق. حينها أكد الطبيب لأبي أنني بذلك وصلت لأفضل حالاتي، وأن ما تبقى سيذوب مع الوقت. كانت مشكلة في مخارج الحروف، أو كما كان يقول الطبيب VOCALIZATION. في الجلسة الأخيرة قال الطبيب لأبي بابتسامة: «متفكرش يبقى مغني أو ممثل». لا أتذكر في ما فكرت حينها، لكن أحب أن أقول إنني فكرت أن أقول له إنني أريد أن أكون كاتباً.
كل هذا دفعني للقراءة بجنون، وبقدر ما كان يدفعني للقراءة كان يدفعني للكتابة، كانت الأوقات الطويلة التي أقضيها وحدي تملأها الكتب. هكذا في الثانية عشرة تقريباً قرأت كتاباً وجدته في غرفة أبي، كان رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» في الطبعة التي صدرت للناشئين عن هيئة الكتاب، وكانت أول رواية أقرأها بعد كتب الأطفال وروايات الجيب. فتركت في أثراً ما زلت حتى الآن أتذكره: كنت أقف أمام مرآة الدولاب لأتيقن أنني لست أحدب، وكنت أسأل أمي إن كان لي أكثر من شكل. وشعرت برعب شديد كنت أحوّله لكتابة. بعدها قرأت «آنا كارنينا» وكانت أخف منها تأثيراً. في تلك الفترة أيضاً عايشت تجربة المندل بعوالمه المخيفة، والتي نقلتها بعد أكثر من عشرين عاماً في رواية «عالم المندل». وخضت رحلة قراءة محفوظ الذي أعجبتني كتابته ولغته أكثر من بقية كُتّاب جيله.
في السادسة عشرة تقريباً كنت قد أنجزت ما يشبه الكتاب، كتاب لا يندرج تحت أي نوع، لذلك اخترت له عنوان «أحلام بلا تفسير»، وكان يضم الأحلام التي رأيتها في منامي في سنوات سابقة. لكنني لم أفكر في نشره أبداً في هذه السن، غير أنني استثمرته بعد ذلك في رواياتي التي ظهرت متأخرة بعض الشيء.
في سنوات الجامعة واصلت الكتابة بلا هدف (دائماً كنت بلا هدف)، وكنت أميل أكثر لكتابة القصة والقصيدة، وحينها تعرفت على ماركيز وبورخس وكورتاثر في لغتهم الأصلية، فكانت كتاباتهم طاقة نور. لكن بعد الجامعة قررت ألا أكتب، أن أهرب من نفسي وأن أنغمس في العالم، أن أشعر أن بإمكاني أن أعبّر عن أفكاري بالكلام (لا تزال مشكلة مخارج الحروف موجودة، أو هكذا أعتقد). عملت في وظائف عدة اعتمدت على الكلام أساسا، سرت في كل الطرق التي تبعدني عن الكتابة. فعلت ذلك بإخلاص شديد حتى لا أترك لنفسي الفرصة للخلوة بالكتابة. مع ذلك، في نهاية كل يوم، كنت أفتح صفحة الوورد لأجدني أكتب، دون أن يكون لي أي إرادة في ذلك. ودون أن أنتظر شيئاً. ثم استسلمت لمصيري.


[ روائي ولد عام 1978 صدرت له روايات: «صانع المفاتيح»، «عالم المندل»، «النحات»، «إلياس» فضلا عن عشرات الكتب المترجمة من الإسبانية
http://assafir.com/Article/376023