الخميس، ديسمبر 26، 2013

عن الضحية والمغتصب في ثقافة الهزيمة \ مقال



أحمد عبد اللطيف

(1)

     في الفيلم الإسباني "الجلد الذي أعيش فيه" للمخرج الشهير ألمودوفار وبطولة أنطونيو بانديراس، تتعرض ابنة البطل المصابة بمرض نفسي للاغتصاب أثناء حفلة على يد أحد الشباب، فيقوم البطل، وهو عالم طبيب متخصص في أمراض الجلد والتجميل وله أبحاث هامة في تخصصه، باختطاف المُغتصِب وإجراء عمليات مرهقة له لتحويله تماماً إلى أنثى، إلى أنثى جميلة، أنثى لا يمكن ردها إلى ذكورتها الماضية. حتى هنا، رغم القسوة الشديدة في الانتقام والتي نقلها المخرج في مشاهد هادئة كنصل سكين يشق قلباً، يمكن تلقي العمل باعتباره واقعياً: فتاة مهانة وأب مكلوم ومُغتصب يقوم بدور الضحية. غير أن تطور الأحداث يضع الفيلم في منطقة العبث، العبث البدائي، عبث النسيان، عبث الانصهار والذوبان في الآخر.

(2)
     ما من جديد في صورة المغتصب الذي فقد إنسانيته وتغلبت أنانيته على التفكير لحظة واحدة في الضحية، ولا في صورة الضحية الضعيفة التي عجزت عن الدفاع عن كرامتها فازداد مرضها النفسي تعقيداً وراحت للموت بقدم لا تريد أن تطأ الحياة مرة أخرى، ولا في الانتقام من جانب الأب حتى ولو بدا انتقاماً مفرطاً تركز في الأساس حول سقي الآخر من نفس الكأس ودفع نفس الثمن كبديل للموت الذي اعتقد الأب أنه راحة لا يشعر بعدها الإنسان بفداحة ما اقترف. الجديد أن يقع الأب\ الضحية في هوى المرأة الجديدة التي صنعها بيده وأن يصل للأورجازم عبر ثقب ساعد في شقه، ثقب كان يشغل مكانه من قبل عضو نافر اخترق بلا رحمة مخبأ فتاة كان يكفيها ما أصابها من مرض جمّد حياتها، فتاة كانت ابنة لنفس هذا الرجل الذي يذوب عشقاً في المغتصب.

    (3)

     بهذه العلاقة المعقدة يطرح الفيلم، الذي يمكن أن نخرجه من حدود جنسيته ليشمل بإنسانيته كل الثقافات والمجتمعات، سؤالاً أكثر تعقيداً عن علاقة الضحية والمغتصب، والضحية في هذه الحالة ليس فقط الفتاة التي انزوت بعيداً ورحلت في صمت، بل بالأساس الأب المكلوم، المغلول، المهزوم أمام ابنته قبل أن يُهزم أمام العالم. الضحية صار عاشقاً للمغتصب، يشتري له الملابس الجديدة، يعد له فناجين القهوة، يضاجعه بوله يكفي بشكل قاطع لمشاهدة التسامح مجسداً. الضحية يدلل المغتصب بما يليق بامرأة جميلة ومخلصة، تستحق نجوم السماء بلا أدنى شك. فتفتح هذه العلاقة المثيرة للجدل سؤالاً أكثر رحابة لفهم البنية السيكولوجية للكائن الإنساني، بنية أكثر تشوهاً مما يُعتقد، وربما أكثر هشاشة وسذاجة، بنية تتسق تماماً مع صورة الحاكم والمحكوم، الفرد في مواجهة الديكتاتور، التابع في خطواته خلف المتبوع، كلها صور مختلفة في ظاهرها غير أنها في العمق لها نفس الخطوط والدوائر والمربعات، نفس الخضوع ودرجة التماهي وقوة الانكسار، بل ونفس القدرة على شغل نفس المكان بآخر عند غيابه، لتسير المعركة في طريقها الخاطيء: معركة خلق مقدس جديد بدلاً من التشافي من أفكار التقديس.

(4)


    وبمد الخيط على استقامته، يتطور حدث "الجلد الذي أعيش فيه" ليسقط قناع المغتصب المحتقن  لفقد ذكورته، وليتبين أن كل الهدايا التي تلقاها لم تكن مرضية، وليتحرك كأنه الضحية التي يجب أن تنتقم من مغتصبها. إنها سخرية تبادل الأدوار، نسيان الخطايا المقترفة ونسبها لآخر، ذوبان الخطيئة مع المغفرة في نفس كأس المياه، حد الوصول لاستحالة الفصل بينهما، فيصير من حق كل منهما أن يختار طبيعته الكيمائية. ولأن الضحية اختار أن يكون الراعي، العاشق، المتسامي، اختار المغتصب في المقابل أن يكون الضحية التي فقدت حقها في الحياة والآن يجب الدفاع عن هذا الحق. فيكتمل الحدث بقيام المغتصب الأصلي بقتل الضحية الأصلية، يقتله من جديد، يقتل الأبَ الذي اغتُصبت ابنته، الأب الذي ماتت ابنته، الأب الذي نسى، في غمرة أحداث الحياة، أن من يعيش معه تحت سقف بيته وداخل غرفة نومه ليس بضحية، بل المغتصب الذي أفقده بهجة الحياة.      

تكوير العملات الورقية لا يفقدها قيمته\ مقال


ا
أحمد عبد اللطيف


     تقول الحكاية الإسبانية إن مدرسة دخلت الفصل وأخرجت 20 يورو من جيبها وسألت التلاميذ: من منكم يريد هذه العملة؟ فرفع الجميع يده بحماس وأجابوا بصراخ: أنا. كورت المدرسة العملة تماماً ورفعتها لأعلى بإصبعين وسألت من جديد، فأجابها الجميع بحماس: أنا. فأخذت العملة الورقية ورمتها على الأرض وشاطتها بقدمها حتى إحدى الزوايا، وسألت نفس السؤال، فجاءتها الإجابة: أنا. انحنت وأخذت العملة وألقت بها في سلة الزبالة، وسألت بتكرار، فجاءها الجواب: أنا. فأخرجت العملة من السلة وداست عليها بقدمها حتى بدت متسخة تماماً، وسألت بتحد: من منكم يريد العملة بعد كل ما حدث لها. فأجابها التلاميذ: أنا. حينها ابتسمت وأخبرتهم أن هذا هو درس اليوم: رغم كل ما حدث للعملة الورقية إلا أنها لم تفقد قيمتها، وعليكم بالتالي أن يعرف كل منكم قيمة نفسه مهما أصابه من مرض او ضرر، مهما هاجمه الآخرون واتهموه بما ليس فيه.
الحكاية، رغم أنها تبدو للتنمية الذاتية للمراهقين، إلا أنها في حقيقة الأمر تصلح لكل الأعمار والظروف، خاصةً  الآن في مصر، حيث تواجه الاتهامات في صمتك كما تواجهها في حديثك، وأصبح اتبّاع صوت الأغلبية فرض عين على كل المختلفين معهم. كم مرة في اليوم ترى من يكوّرك ويشوطك لأنك تعترض على فض اعتصام الإخوان بالقوة؟ كم مرة يضعونك في صندوق الزبالة لأنك تدافع عن البرادعي وتنتظر سماع شهادته عن كواليس الاستقالة؟ كم مرة يدوسونك بأقدامهم لأنك تقول إن الحلول الأمنية لن تأتي إلا بالخراب، وأن وظيفة الحكومة أن تقدم حلولاً سياسية حتى لا تعطي للإخوان فرصة العودة للعب دور الضحية المحبوب لديهم. سيلومونك بالطبع لاعتراضك على وجود عمرو موسى في لجنة تعديل الدستور، مثلما يلومونك على المادة الإعلامية المقززة التي يقدمها يوسف الحسيني وخيري رمضان، وربما يكون اللوم أكبر لو وجهت كلماتك لمرتضى منصور وأعلنت أن كلامه مثير للغثيان. في كل الأحوال سيكون هجومك لخط سير الدولة سبباً لتكويرك واتهامك بالخيانة، كما يكون تخوفك من عودة الدولة الأمنية بصلابة سبباً لخروجك من الصف الوطني. حتى عندما تصمت عند محاولة اغتيال وزير الداخلية سيأتيك الهجوم، ستقف للتأمل: هل هو انتقام الإخوان أم لعبة أمنية جديدة، وفي الوقت الذي تحتار فيه لفك ملابسات الحادث، سيأتيك من يؤكد لك ببرهان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنها الجماعة الإرهابية التي تريد الخراب لمصر. يا سيدي، لست مختلفاً معك في أنها جماعة تريد الخراب لمصر، لكن لماذا تريد أن تنزع عني الحق في الشك والتأمل وانتظار نتائج النيابة، ثم في حالة افتراض أن جماعة الإخوان أو جماعة أخرى تابعة لها قامت بالفعل، ألا يعيدنا ذلك لما اختلفت معي فيه من قبل: أن الحل الأمني ستكون نتيجته تفجيرات، وأن الحلول السياسية يجب أن تكون فعالة، حتى ولو رفض قادة الإخوان فدور الدولة أن تجرهم لأرضها خاصةً أن لها ظهير شعبي ويمكن مراجعة فيديوهات 30 يونيو وجمعة التفويض. ثم لماذا لا تتذكر معي ما حدث في إسبانيا على يد منظمة إيتا الانفصالية، سنوات طويلة من الإرهاب والتفجيرات والقتل والدم، والدولة تواصل حلولها الأمنية لإسقاط مزيد من الضحايا المدنيين بجانب الجماعة الإرهابية، ثم في النهاية يدرك رئيس الوزراء خوسيه ثباتيرو أن الأزمة يجب أن تنتهي على مائدة مفاوضات، وانتهت على مائدة مفاوضات بالفعل. نفس الحكاية، وأشد منها، حدثت في كولومبيا على يد جماعة الفارك الثورية، التي انتهت كجماعة إرهابية في آخر المطاف واستولت على مناطق وأغلقتها وفرضت سيطرتها عليها، وبعد أكثر من نصف قرن في حروب مع الدولة، أدركت الحكومة أنه لا سبيل لوقف بحور الدم إلا بالجلوس على مائدة مفاوضات، وهذا ما حدث. وما كان يجب أن يحدث بعد ثورة 30 يونيو، وما يجب أن يحدث الآن قبل أن تزداد الازمة ونصل، في غمضة عين، إلى 20 سنة في حروب ومعارك. أقول "أدركت الحكومة" لأن الحكومة من عليها أن تدرك، لأنها السلطة، ولأنها من يجب أن يحافظ على أرواح مواطنيها، ولأن دورها أن تعيد الأمن للشارع. وإن لم تتقدم الحكومة في هذا الاتجاه، فلا يلومني أحد إن قلت إن الدولة تستمريء "لعبة الذريعة" لتمد قانون الطواريء وحظر التجوال، ولابد أنه يحلو لها أن تظل للأبد دولة أمنية تطارد من يخالفها، وتناهض الحريات، وتكورّ من يعلو صوته، وتدوس على من يطالب بحق المواطن في حياة إنسانية كريمة، ثم تضعه بكل بساطة في سلة الزبالة، رغم أن ذلك لن ينقص شيئاً من قيمته.     

"كتاب النحات" البحث عن جزر جديدة



لؤي حمزة عباس


تقترح رواية  (كتاب النحات) لأحمد عبد اللطيف العودة لسؤال الوجود، لفكرة أولى طالما وقف أمامها الإنسان، وعياً وتأملاً، وعاود مواجهتها، لا في سبيل إيجاد جواب شاف لها فذلك أبداً لن يكون، بل لاختبار قدرته على استعادة السؤال بما يحتويه من قلق وهو يحمل انشغالاً عميقاً في معاينة فكرة الخلق، طريقاً من طرق المعرفة التي لا تُحد، الطريق الذي سارت فيه من قبل إبداعات إنسانية عدّة مقترحة محاولاتها في اليوتوبيا، فكرة وتمثلاً، وهي مواجهة تقترحها في كلِّ مرّة خصوبةُ المسعى وجسامةُ السير فيه. تواصل (كتاب النحات) قلقاً شغل الفكر الإنساني طويلاً ليُستعاد في زمن مبكّر من أزمنة الكتابة الروائية العربية مع فرح انطوان وفرنسيس فتح الله مراش، مع تباين الأهداف والغايات، وقد مثّل الوجود بالنسبة لهما فكرة ومواجهة وسؤالاً، حتى زمن قريب من أزمنة الكتابة كما في أعمال مثل (أبناء حارتنا) لمحفوظ و(المسرات والأوجاع) للتكرلي، حيث تعيش الفكرة تحولاتها وهي تسعى لتدوين وجه عصري من وجوه السؤال.
إنها وجهة روائية لتجديد السؤال والانتقال به إلى منطقة تُغنيها الذاكرة وقد عاشت قلقها في مواجهة حَيرة الوجود، وهي، في الآن نفسه، مساءلة لحقل أحمد عبد اللطيف الروائي والانتقال به من قلق الفرديّة الذي شكّل التقاطاً شذريّاً تتسع معه الرواية وتمتد عبر انشغالها بشخصية محدّدة كما في روايتي (صانع المفاتيح) و (عالم المندل)، وقد اختير لهما أن تتحرّكا على مساحة من نفس الانسان وشواغله، لتعدّ الشخصيّة المركزية فيهما مادة الرواية وحقل اختبارها، إلى سؤال التجربة الإنسانية في مظهرها الجمعي وهي تولد وتنمو حاملة في دواخلها أسباب فنائها، من هنا لم تكن تجربة مجتمع (كتاب النحات) قد تحققت لمرّة واحدة، إنها حلقة من سلسلة سبقتها تجارب مماثلة ولحقتها أخرى، التجارب التي تجمعها رحلة النحات وهو يعبر بزورقه الأنهار باحثاً عن جزر جديدة، حاملاً معه ما يكفي من الطين لنحت كائنات هي عُدّة تجربة تنهض على أنقاض أخرى قديمة يكون فيها شاهداً وشريكاً وهو يدخل اختبار الوجود في كل مرّة من باب مختلف تفتحه هواجس الانسان ورغباته، لتبدو شخصيات الرواية بذلك تمثيلاً للهواجس وتجسيداً للرغبات في قوام يخلع عن الشخصيات أسماءها ويمنحها صفات بديلة ابتداء من النحات نفسه مروراً بعروسة النهر، والأم، وزوج الأم (المخرج المسرحي)، ورجل البرميل، ورجل القضيب، وبائعة بطاقات اليانصيب، فضلاً عن شخصيات ثانوية تبتكرها الرواية من طين العزلة، إنها جميعاً تحيا قلقها الخاص ليظل سؤال الخلق حيّاً، فاعلاً ومؤثراً، يرنُّ في فضاء الرواية وهي تنتقل بنحاتها لإنتاج تمثيل جديد ليوتوبيا قديمة لن تكون غير صدى منكسر عن فكرة خلق أول فيه من القسوة وعسر السؤال ما يقوده، كأنما بإرادة حتمية، لانقلاب المخلوق وانجذابه الأعمى لإرادة الخديعة والزوال.
طبقة بعد طبقة تتابع الرواية تحولات مجتمعها، وترصد انقلاب وقائعها مستندة إلى تقنية المخطوط التي توجهها عتبتان: نبويّة وفلسفية، تتواجه في العتبة الأولى فكرتا النوم والانتباه، وبينهما يقف الموتُ فعلَ إثارةٍ وتحفيز، " الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا"، ويتجلّى في الثانية موقف الرواية على لسان سقراط ضد (فكرة) الجمهور عن الآلهة، حيث تبدو الرواية تمثيلاً واسعاً تؤسسه العتبتان بمرجعيتيهما ومحموليهما في نسيج لغوي متباين، يستعين الراوي على كتابته بأحبار مختلفة، ظاناً في ديباجة مخطوطه "بأن في ذلك فرادة ولفتاً واجتهدت قدر استطاعتي ليكون تعدّد أصوات الرواة إلماماً بجوانب الحكاية ويكون إيقاع لغتهم من بطيء لمتعجل ومن سرد أحداث لمتأمل فيها ومن تجريد لتجسيد"، لتقارب الديباجة بيان التأليف في مدوّنات السرد العربي القديم وتكشف بعضاً من خصائصه، من تعدد الأصوات إلى تحوّل الإيقاع اللغوي، ومن مواجهة الحدث، سرداً وتأملاً، إلى خصيصتي التجريد والتجسيد اللذين يؤمّنان للعمل الروائي تبايناً لا يقف عند مهمات الشكل اللغوي بل يجتهد في سبيل التعبير عن قلق الشخصيات وهي تحيا خوف التجربة الأولى وتتذوق مراراتها، وهي تمضي منقادة باتجاه أقدارها. النحات، وحده، مَنْ يتطلّع لكتابة قدره، كل منحوتة كلمة، وكل تجربة جملة في عالم يبدو الإنسان فيه كاتباً ومكتوباً في آن، "أنزل إلى النهر وأسبح. أصير سمكة تخترق الماء بمرونة، وأعتليها بظهر مسترخ... ليس حسنا أن نخلق كائناً منفرداً وأن نكتب له العزلة كمصير حتمي، حتى لو كنا على يقين أننا، سواء أردنا ذلك أم حاربناه، سنموت وحيدين"، لكن حكاية النحات تُستعاد مرّة أخرى من أجل استمرار العالم وتواصل التجربة الانسانية التي لا تستمر بغير حكاية تأخذنا أبداً لحياة التماثيل، "فربما ينتهي العالم لو انتهت الحكايات".  



الأربعاء، أغسطس 07، 2013

لنا عبد الرحمن تكتب عن رواية "كتاب النحات"

الروائي وشخوصه في رحلة البحث عن الوجود
لنا عبد الرحمن
السبت ٢٠ يوليو ٢٠١٣
في موازاة الأسطورة اليونانية التي تحكي عن الملك والنحات البارع بغماليون وتمثال غالاتيا المرأة الباهرة الجمال، يبني أحمد عبد اللطيف في روايته الجديدة «كتاب النحّات» ( دار آفاق -القاهرة) عالمه الروائي -وحكايات النحات مع تماثيله- بحيث ينتقل بطل الرواية النحات الشاب إلى جزيرة مجهولة في قارب صغير وحيدًا مع أشيائه البسيطة وصلصاله، وبعض الرسوم التي يحلم أن تصير منحوتات في يوم ما. لكنّ هذه ليست الأسطورة الوحيدة التي نجد لها صدى في رواية «كتاب النحات»، بل إن العمل الروائي ككل حافل بالدلالات والرموز.
حالة النحّات المتوحّد مع فنه في جزيرة خالية من البشر تستدعي روبنسون كروزو، مع الفارق في أسباب الوحدة، والأسئلة أيضًا. فالهواجس التي تشغل ذهن النحات هي أسئلة الوجود من جانب الفن. بيد أنّ الجزيرة في «كتاب النحات» لديها أكثر من وجه وحكاية، ففي البداية تبدو فيها شوارع واسعة خالية إلا من مقاصل وسلالم وبالوعات، وهذه الأشياء يكون لها دلالات رمزية في الفصل المعنون «حكايات مرافقة للتماثيل». وفي موضع آخر، تبدو الجزيرة عالمًا محوطًا بالماء من كل الجهات، وحول الماء صحراء لانهائية، وفي هذه الصورة يعود بنا الكاتب إلى المقولة الأولى، وهي أنّ العالم خُلق من ماء، خصوصاً، وأنّ هذه الدلالة تحضر في بداية «اليوم الثالث».
يتشكل المعمار الداخلي للرواية من فكرة إعادة الخلق، لدينا نحّات في جزيرة معزولة، أي أرض شاسعة يبني عليها عالمه عبر تماثيل يصنعها من الطين الممزوج بماء النهر، ويتركها في الجزيرة تحت أشعة الشمس حتى تجفّ وتدبّ فيها الحياة، وتصير كائنات شبه بشرية تمارس حياتها، تحبّ وتكره وتسيطر، ثم تعود إلى دورتها البديهية الأولى في الصراع من أجل البقاء.
يصنع المثال منحوتاته من فكرته عن أشخاص اختار لهم الحياة مجدداً، لأنهم كانوا تعساء في حياتهم السابقة، ولا يغيب عن واقع هذا الاختيار دلالة كلّ تمثال على حدة، ومدى ارتباطه بالميثولوجيا ، مع توظيف كلّ منحوتة لتكون مرتبطة بحكاية غيبية كبرى، كأن تجسّد المنحوتات في حياة النحات كلاًّ من: الأم، الأب، زوج الأم، رجل البرميل، وبائعة اليانصيب، وعروسة النهر، مع وضوح دلالات وجود الأم والأب وزوج الأم كونها ترمي لفكرة يقينية الانتماء للأم، في مقابل التشكيك بالنظام الأبوي، يتساءل النحات: «وأنا ابن من في الحقيقة؟» (ص 150(.


الوجود والعدم
هكذا تتشكل لعبة الوجود والعدم في هذه الرواية، فالنحّات غير الموجود بالنسبة إلى تماثيله ليصير هو العدم بالنسبة إليها، في حين أنها كانت هي العدم قبل أن يصنعها، مجرد حكايات لأرواح رحلت. من المهمّ عند قراءة رواية «كتاب النحات» التوقف عند دلالة الشكل الروائي الذي اختاره الكاتب، فقد قسّم روايته إلى أربعة «أسفار»، وفي داخل كل سِفر أيام «ستة» تحمل دلالتها أيضًا في فعل الخلق، واقتصر «السفر الأول» على عناوين فرعية ترتبط بالحكايات المذكورة في النص، فيما بقية الأسفار تضمنت التقسيم وفق الأيام فقط.
يأتي فعل الكتابة كفعل موازٍ إلى جانب «النحت»، الذي يحضر في عنوان الرواية «كتاب النحات»، فالكتابة تحضر هنا كتدوين لعملية الخلق، فالتدوين موجود عبر كتابة النحات لحكايات تماثيله في «السفر الأول»، ثم اكتشافه سرقة التماثيل لتلك الحكايات: «أي يد ملعونة سرقت تاريخ تماثيلي؟ هل سيتحتم علي من جديد أن أدون التاريخ؟» (ص104).
لكنّ فعل الكتابة لا يختصّ بالنحات، لأنّ «عروسة النهر» المنحوتة البديعة التي اصطفاها لنفسه وأحبها بعدما دبت الحياة فيها تمارس فعل الكتابة أيضًا. النحات يكتب لها الرسائل كي تعود إليه بعدما هجرته، وعبر أوراقها تحكي بطريقة شهرزاد: «بلغني أيها النحات الطيب»، وفي مقتطفات حكايتها نجد إيجازًا للتاريخ البشري في السيادة التي انتقلت من الكلّ إلى الفرد، مع سيطرة الكاهن على العقول والأجساد.
هكذا يبدو أنّ الحكايات التي تحكيها عروسة النهر، على صغر مساحة السرد في أوراقها، تُكثّف الوجود البشري على سطح الأرض. وتحضر العلاقة بين النحات وعروسة النهر لتجسّد أكثر العلاقات تعقيدًا ودراماتيكية، ليس بين الرجل والمرأة فقط ، بل بين الإنسان والرمز. هي المنحوتة المتمردة التي تهجر النحات وتقول له في أسلوب بشري عذب: «أريد أن أفعل ما يخصني، وما ينبع من داخلي وينتمي إلي، لنتفق على أن لديك ما تفعله كنحات، وأن لدي ما أحياه في غيابك» (ص 157).
في السفر الثالث يرحل النحات عن الجزيرة، ويحضر صوت الراوي العليم من جديد بعد أن ظلّ حضوره مقتصرًا على الصفحة الأولى، يحكي عن غياب النحات وجهله بكثير من الحكايات: «هكذا رحل النحات عن الجزيرة قبل أن يرفع النقاب عن أسرار لم يطلع عليها، وبالتالي لم تضمها أسفاره» (ص 211). هنا يبدو الراوي العليم الكلّي القدرة في النص، ممسكاً خيوط اللعبة السردية، يتابع حكايات النحات وأبطاله. وبرغم ذلك لا يتدخل الراوي العليم في حياة النحات واختياراته، بل يزعم أنه ينقل الحكاية كما وصلت إليه تمامًا.
لكنّ الراوي العليم يشترك مع النحات ومع عروسة النهر بفعل الكتابة، هو يدوّن الحكاية كما وصلته من أوراق كثيرة، وفي داخل الحكاية الأولى حكايات أخرى لأبطال يدوّنون ماضيهم ومستقبلهم، فالنحات يعيد حكايته منذ البدء في «السفر الرابع»، يعيد نحت تمثال أمه بعدما هجر الجزيرة الأولى وترك مخلوقاته فيها وانتقل إلى جزيرة أخرى، وشرع يعمل على تماثيل جديدة.
يختتم أحمد عبد اللطيف روايته ببراعة توازي براعة السرد في البداية، فيحضر صوت الراوي العليم مشككًا في كلّ الحكايات والأساطير، كاشفًا عن ضعفه أيضًا حين يقول: «لسنا على يقين تام من أنها كل الأوراق التي كتبت، ولا كل الأحداث التي جرت، غير أن ما نأمله في نهاية المطاف أن يشكر سعينا، ويُرفع ذكرنا، وأن يضاف هذا الجهد إلى ميزان حسناتنا» (ص 231). وهو عبر تلميحه بهذا الشكّ، كأنّه يحيل القارئ إلى أسطورة أخرى غائبة أو محجوبة بفعل نحّات آخر، أو راوٍ آخر.


د. أماني فؤاد تكتب عن رواية "كتاب النحات"


الإله .. في"كتاب النحات"

ينشغل "أحمد عبد اللطيف" في روايته "كتاب النحات" التي صدرت حديثا عن "دار آفاق"، بفكرة الخلق والخالق. يروي مشاغبا للموروث الثقافي بتنويعاته عن علاقة الخالق بمخلوقاته، وينطلق فنيا علي النحو الفنتازي المغاير لما استقر، والمشتبك معه في بؤر عميقة في الوقت ذاته استنادا على لا يقينية وانفتاح ما يتصوره الإنسان عن أساطير الخلق، وانفتاح أسئلة البشر الثائرة حول الإنسان: تاريخ وجوده وكيفيته، صراعاته مع الطبيعة من حوله، منظومة القيم التي تحكم وجوده، وتجعله يعاني الوحدة والاغتراب، أو تستحوذ عليه شهوة السلطة والتحكم بمصائر الآخرين واستغلالهم، أو مكابدة الحب والفقد وما يحيط به من صراعات، فيشكل إلها خالقا ــ بمنطق الفن ــ مغايرا لمفهوم البشر عن الربوبية مطلقة القدرة والتحكم.
إله يخلق الكائنات ولا يعرف كيف ستتحرك بهم طبائعهم ونوازعهم، من منهم سيدعي ما يشبه النبوة، ويفرض سلطة مزيفة فوقية علي الآخرين مثل شخصية "الرجل ذو القضيب المنتصب دائما"، من منهم سيتبني قضايا المستضعفين، من سيدخل في شرنقة ذاته يأسا من العالم وشروره .
     يبتعد الكاتب عن تبني أيديولوجية دينية أو سياسية مباشرة تستحوذ علي سردية النص الروائي، بل يفتحه علي الرحابة الإنسانية بأسئلتها الوجودية الكبري.
يطور عبد اللطيف مشروعه الروائي المميز، بتنمية أبعاد شخوصة وقدراتهم، مشروعه الذي بدأه بروايته "صانع المفاتيح" التي فازت بجائزة الدولة التشجيعية، وثناه برواية "عالم المندل"، وأوجد لبطليه فيهما قدرات خاصة مفارقة للواقع، تخضع لمفهوم يري الفن خلقا جديدا لا يركن لمجرد المحاكاة.
    في "كتاب النحات" تنفتح قدرات البطل، فيتجسد إلها إنسانيا ينحت مجموعة من التماثيل، مسترجعا من ذاكرته مشاهده معهم، بعد أن ترك الحياة الأولي، ينحتهم بمقاييس خاصة ليست علي شاكلته، ويعترف بكونه نحاتا لا يقدر علي الكمال، يعيد إليهم الحياة بعد أن فارقوها، أو فارق هو الحياة الدنيا، لا تهب السردية يقينا ما لقارئها، بل تقدم له عوالم تتعدد تأويلاتها، فالمكان في العمل برزخي لا يمكن أن يحدده القارئ،  جزيرة نائية يجري بها نهر، كانت بها حياة ثم اندثرت، كما لا يتعين الزمان، أيام الخلق الجديد متي تقع؟ أو الحياة السابقة التي عاشها النحات ومن كانوا يحيطون به، فهذا الخالق الجديد لا تراه مخلوقاته، فقط يستشعرون وجوده من عملية النحت التي يراها الرجل البرميل، دون أن يري الخالق فيكاد أن يجن.
النحات خالق يري أن: "المقدس وهم، كلمة مبتذلة، اخترعها راعي من أجل قطيع يتبعونه"، تشكيلي يقول عن ذاته:"لا أريد أن أشكل المصائر بقدر ما أريد أن أري كيف يتكون العالم علي مهل"، إله يري المقاصل والمذابح عنف بلا طائل، معدة سلفا للمختلفين، إله ينشد الحب ويخلّق عروسة نهره ليحارب بها الفناء، وتحكي له عن مخلوقاته.
يعود عبد اللطيف إلي أشباح المبدع المتعددة ويؤلف معزوفته الخاصة التي تتحرك بمخيلة ثقافته، يسترجع خنوم الإله الفرعوني القديم الذي اعتقد المصريون أنه يصنع البشر من الصلصال والماء، وظف أسطورة باجمليون، صنع تناصات مع النصوص الدينية السماوية والأرضية؛ ليخلق تنويعته لمفهوم خالق بشري معاصر يلتذ بالمعرفة غير اليقينية التي تتكشف له مع البشر دون إدعاء معرفة الغيب فهو أقرب إلى مخلوقاته وحيرتهم .

     يتكشف مع القراءة خيط عميق بالنص لا يعرف فيه المتلقي من هذا النحات تحديدا؟  ففي فقرات شعرت أن هذا البطل تتوزع قدراته وحيرته علي الرجل ذو القضيب المنتصب، ورجل البرميل، والفنان المسرحي، وجميع شخوص العمل الذين يقدم من خلالهم الروائي قدرة الفن علي التوسع بمفاهيم هذا العالم الذي يضيق الخناق علي نفوسنا.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...