الأربعاء، ديسمبر 08، 2010

حكاية رجل عجوز: شخصيات بلا ماض في عوالم ضبابية





      أهدتني جارتي،‮ ‬وأنا في سن العاشرة،‮ ‬كابوساً‮ ‬ظل يلازمني إلي الآن،‮ ‬كان رواية‮ "‬دكتور جيكل ومستر هايد‮". ‬قالت إنها لم تستطع حفظ اسم المؤلف مطلقاً‮ ‬ولأن اسمي البطلين لم يروقا لها،‮ ‬أسمتهما‮ "‬دكتور س ومستر ص‮". ‬رواية رعب مسلية،‮ ‬قالتْ‮ ‬بأسى‮. ‬وقبل أن أحكي لها في اليوم التالي ما فعلته بي،‮ ‬كانت عربة نقل تضم أثاثات بيتهم وأمتعتهم تستعد للرحيل بهم إلى مدينة أخرى‮. ‬رحلتْ‮ ‬هي،‮ ‬لكن الكابوس بقى كتعويذة مثلثة مكتوبة بخطوط حمراء‮. ‬في يوم واحد قرأت الرواية،‮ ‬وظللتُ‮ ‬بعدها مهجوساً‮ ‬تماماً‮ ‬بفكرة الشخصيتين،‮ ‬حتي أنني كنتُ‮ ‬أقف أمام مرآة الدولاب عدداً‮ ‬لا متناهٍ‮ ‬من المرات في اليوم لأتأكد في كل مرة أنني نفس الشخص‮. ‬مع الوقت،‮ ‬ورويداً‮ ‬رويداً،‮ ‬هجرني الهاجس،‮ ‬ليس تماماً،‮ ‬وبقتْ‮ ‬الصورة محفورة في ذاكرتي‮.‬

                                         ***

‮ ‬‮  ‬لم تستطع كل الشخصيات الروائية أو القصصية التي جاءت بعد ذلك أن تُنسيني‮  ‬جيكل وهايد،‮ ‬رغم أن بعضها تملّكني بشكل مذهل سواء أثناء القراءة أو بعد الانتهاء‮. ‬أتذكر الآن شخصيات تركتْ‮ ‬أثراً‮ ‬لكن في مرتبة أقل،‮ ‬ليس لأنهم أبطال أو‮ ‬غير أبطال،‮ ‬منهم‮ "‬المصور‮" ‬في‮ "‬الحب في زمن الكوليرا‮" ‬و"ريميديوس الجميلة‮" ‬في‮ "‬مئة عام من العزلة‮" ‬و"زوجة الطبيب‮" ‬في‮ "‬العمي"و"البصيرة‮". ‬أعتقد أن سر إعجابي بهم يرتبط أكثر بمثاليتهم،‮ ‬بتجسدهم الملائكي الموصوم بالجمال الشكلي أو الروحي،‮ ‬لذلك لم يرقوا أبداً‮ ‬لمرتبة جيكل رغم تأثيرهم القوي‮. ‬

‮  ‬كثيرة هي الشخصيات التي مرت بي ورُسمت جيداً‮ ‬وخدمت النص تماماً،‮ ‬لكنني لم أتوقف أمامها،‮ ‬ربما بسبب أنها شخصيات مخلوقة سلفاً‮ ‬وليس للراوي فضل سوى في إعادة خلقها،‮ ‬ووضعها في إطار ليسلط عليها الضوء بكثافة،‮ ‬فنرى فيها حينئذ طابع الحسن والنمش والندبات‮. ‬هذا جيد بالطبع،‮ ‬وأدب رفيع جدير بالقراءة،‮ ‬لكن كتابة الأدب-أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد،‮ ‬ويتطلب خيالاً‮ ‬لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية،‮ ‬الطول والعرض والعمق،‮ ‬وهو ما يعني ببساطة الكائن،‮ ‬ليس بوصفه جسداً،‮ ‬بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً،‮ ‬تسع كل المتناقضات‮.  ‬ففي"دكتور جيكل ومستر هايد‮" ‬قدّم لي ستيفنسون شخصية ثنائية،‮ ‬رجلاً‮ ‬مصاباً‮ ‬بالشيزوفرينيا،‮ ‬نعم لم يخلقه من العدم،‮ ‬لكنه أعاد تشكيله بحرفية جعلتني أعتقد به،‮ ‬وأخافه،‮ ‬وأتعاطف معه‮.‬

‮     ‬وكتابة الأدب-أدب أيضاً‮ ‬تتطلب أن يلعب الراوي،‮ ‬قصاصاًَ‮ ‬كان أم روائياً،‮ ‬دور الخالق،‮ ‬وعدم الاكتفاء بإعادة الخلق‮. ‬وهذا ما يفعله طارق إمام في أدبه‮.‬
‮                            
                                             ***
‮   ‬في مجموعته القصصية الجديدة،‮"‬حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها‮"‬،‮ ‬لا يتوقف إبداع إمام عند انتصار الحكاية،‮ ‬التي هي أساس التراث العربي الذي ألهم الأدب العالمي،‮ ‬ولا عند انتصار المجاز،‮ ‬الذي هو المرادف الحقيقي لكلمة أدب،‮ ‬ولا عند اللغة،‮ ‬الرصينة والشعرية التي تتناسب تماماً‮ ‬مع عوالم سيريالية،‮ ‬بل امتد إبداعه لشخصيات عجنها بيديه،‮ ‬ونفخ فيها من روحه القلقة،‮ ‬المهجوسة،‮ ‬المشغولة بالميتافيزيقي،‮ ‬المليئة بالشكوك أكثر من اليقين،‮ ‬شخصيات لم تأتِ‮ ‬لتقدم أجوبة لأسئلته،‮ ‬بل تطرحها فقط بطرق متوارية،‮ ‬عبر التأمل حيناً،‮ ‬والأحداث المتراكمة أحياناً‮ ‬أخرى.‬

‮  ‬فالرجل العجوز الذي يتحسس جيب جلبابه بحثاً‮ ‬عن علبة سجائر تركها آخر مرة قبل سنوات،‮ ‬منذ نام آخر مرة،‮ ‬يتجول في المدن التي يحلم بها،‮ ‬ويموت في كل المدن التي عاش فيها،‮ ‬ويدفن‮. ‬تضطر زوجته لإطعامه وهو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه،‮ ‬وتضاجعه وهو نائم حتي تشبع رغبته التي لم يبح بها،‮ ‬وتنجب منه ثمانية أبناء،‮ ‬ولد خمسة منهم وماتوا دون أن يراهم،‮ ‬لأنه كان نائماً‮. ‬هنا،‮ ‬في هذه‮ القصة تحديداً،‮ ‬يلعب إمام لعبة خطيرة،‮ ‬فالشخصية الشبحية التي خلقها لم تكن لتُصدَق لولا أنه أعطاها أبعاداً‮ ‬إنسانية‮: ‬إنه يصنع شخصية أسطورية ويؤنسنها،‮ ‬رجل يقضي حياته نائماً،‮ ‬إلا أن زوجته تعتني به فتأكله وتضاجعه‮. ‬ولمزيد من منطَقَة الأسطورة،‮ ‬واللعب بالحكاية،‮ ‬يتكيء على التراث الشعبي في ميلاد البطل‮ " ‬فتخبره أمه‮ "‬أنه مات بالفعل ذات يوم بعد مولده مباشرة‮...‬أغلقوا عينيه الجاحظتين ولفوه جيداً‮ "‬،‮ ‬ويومها يقول لها الحكيم إن‮" ‬الأطفال وحدهم يستطيعون ملاعبة الموت وخداعه‮ .. ‬ولكن عقابهم أنهم حين يشيخون يخاصمهم الموت‮...". ‬الرجل العجوز،‮ ‬بعد وفاة زوجته،‮ ‬يفكر أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته،‮ ‬حينها،‮ ‬وحينها فقط،‮ ‬يحلم بمدينته‮. ‬هنا تكتمل الحكاية،‮ ‬التي لا تقف عند المنطق القصصي في السرد بقدر المنطق الروائي،‮ ‬حيث يعتبر كل براجراف تقريباً‮ ‬بداية فصل يتناول فيه جزءً‮ ‬من حياة العجوز الطويلة‮. ‬دون أن يهتم بالمظهر الفسيولوجي،‮ ‬وهو ما قوّي فكرة الشخصية الضبابية،‮ ‬وأعطى بعداً‮ ‬أسطورياً‮ ‬آخر لها‮. ‬

‮  ‬وصبي الخطاط في"الحياة المكتوبة مرتين‮" ‬يطرح فكرة الحياة المكتوبة سلفاً،‮ ‬حيث يجد نفسه مضطراً‮ ‬لكتابة حياته،‮ ‬التي تتطابق في النهاية مع الكتاب الأصلي،‮ ‬المُعد لكل إنسان طبقاً‮ ‬للمنظور الديني‮. ‬هنا تغلب فكرة الحكاية،‮ ‬في عودة جديدة للتراث العربي،‮ ‬ويشيع جو من الواقعية السحرية مع ظهور العرافة خاصة منذ الجملة الأولي‮" ‬تنبأت لي عرافة‮...". ‬الصبي أيضاً‮ ‬شخصية‮ "‬إمامية‮" ‬ببصمته وهمه الوجودي،‮ ‬استغلها ووضع لها مهنة تناسبها تماماً‮ ‬لتعبر عن فكرته،‮ ‬أو ربما شكه‮.‬

‮   ‬إذن،‮ ‬فالشخصية‮ "‬الإمامية‮" ‬شخصية مميزة،‮ ‬منفردة،‮ ‬تكونتْ‮ ‬من صلصال نادر،‮ ‬لا لتزاحم البشر العاديين في عاديتهم،‮ ‬ولكن لتراهم من بعيد،‮ ‬وربما من أبعد نقطة‮. ‬شخصيات لن تجدها حتماً‮ ‬علي أرض الواقع،‮ ‬رغم أنها تمثله‮.‬

‮  ‬وفي البحث عن شخصيات مخلوقة بصلصال المؤلف،‮ ‬نجد صانع الصور‮: "‬عينه اليمني المفتوحة حدقة عمياء‮...‬والعين اليسري المغلقة دائماً‮ ‬كي لا يهتز المشهد ربما ترى أفضل‮". ‬ورغم اختلاف شخصية المصور عن الرجل العجوز والصبي الخطاط،‮ ‬إلا أن العامل المشترك بينهم جميعاً‮ ‬أنهم بلا ماض أو لا يعرفون ماضيهم‮. ‬فالعجوز‮: "‬عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت‮ ‬وماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً‮"‬؛ والصبي‮: "...‬وجِدتُ‮ ‬في خان مع رجل عجوز قال إن أهلي ائتمنوه عليّ‮ ‬قبل رحيلهم ولم يزد أبداً‮ ‬حرفاً‮ ‬علي هذه العبارة الغامضة التي صارت تاريخي الوحيد"؛ أما المصور‮ : "‬لا يذكر من أيامه سوي لحظة ولادته‮". ‬

‮  ‬هم في ذلك يتشابهون مع‮ "‬سالم‮" ‬القاتل المتسلسل في‮ "‬هدوء القتلة‮" ‬الذي كُتبت عنه رواية كاملة لم يقترب فيها الراوي من ذكرياته،‮ ‬إلا فيما يخص الناسك صاحب المخطوط المقدس،‮ ‬الذي هو حتماً‮ ‬جد القاتل؛ ومع‮ "‬ملك‮" ‬في‮ "‬الأرملة‮" ‬التي لا نعرف عن ماضيها سوي قصة حب عابرة وحكاية زواجها‮. .‬إذن،‮ ‬بالإضافة للضبابية التي تحيط شخصيات إمام،‮ ‬يمكن أن نضيف مزية أخرى: ‬أنها شخصيات بلا ذاكرة،‮ ‬وإن تركتْ‮ ‬الحياة على ملامحهم علامة،‮ ‬أو حفرتْ‮ ‬في عقولهم ذكرى،‮ ‬فليس ذلك إلا انعكاساً‮ ‬للحاضر،‮ ‬كأنها حلقة لا يمكن أن تُفقَد لتكتمل سلسلة شبحيتها وغرائبيتها‮.‬

من ناحية أخرى،‮ ‬هي شخصيات لها علاقة بالتوثيق‮. ‬فالصبي يخط مخطوط حياته،‮ ‬والقاتل المتسلسل شاعر،‮ ‬والأرملة تكتب خطابات‮ ‬غرامية،‮ ‬والمصوّر يسجل اللحظة بصورة أبدية‮. ‬حتي عندما يكتب إمام عن عجوز خربت ذاكرته،‮ ‬يبرر أنه لم يكتب لأن ذكرياته ستُحرف،‮ ‬وستختلف عن الواقع‮. ‬

‮  ‬هي أيضاً‮ ‬شخصيات مغتربة،‮ ‬تُقيم في مكان لا تنتمي له في الحقيقة،‮ ‬ف"سالم‮" ‬في‮ "‬هدوء القتلة‮" ‬يرى أن‮ : "‬النازحون من أمثالي ليس لهم هنا مقابر‮...‬سيعودون بجثماني إلى بلدتي‮: ‬مقبرتي الأصلية‮...‬في مدينتي الشمالية سأطل من مقبرتي على القاهرة القديمة"؛ و"ملك‮" ‬في‮ "‬الأرملة‮" ‬تعيش‮ ‬غريبة في مدينة زوجها الراحل و‮: "‬لم تعد تعرف شيئاً‮ ‬عن المدينة إلا من خلال هؤلاء البنات‮". ‬وفي قصة"الحياة المكتوبة مرتين‮" ‬لا يعرف الصبي الخطاط من أي بلدة هو،‮ ‬وبالتالي‮:" ‬كان‮ ‬غموض قصة حياتي قد منحني الفرصة في حرية الكذب بخصوص نشأتي حين أتحدث للبنات الجميلات‮". ‬و"الرجل العجوز‮" ‬يقضي حياته متجولاً‮ ‬في مدن لا يعرفها،‮ ‬أثناء نومه،‮ ‬وبالتالي لا ينتسب إليها‮.‬
‮                               
                                      ***

‮ ‬هناك عنصر آخر يجمع شخصيات طارق إمام‮: ‬الازدواجية‮. ‬ف"ملك‮" ‬مدرسة لغة عربية وتكتب خطابات‮ ‬غرامية،‮ ‬و"سالم‮" ‬معاون تعداد ويكتب الشعر،‮ ‬و"صبي الخطاط‮" ‬يعمل خطاطاً‮ ‬ويكلف بنسخ كتاب،‮ ‬أما الرجل العجوز فيعمل،‮ ‬نائماً،‮ ‬في كل المهن‮.‬

‮ ‬وفسيولوجياً،‮ ‬لا يهتم إمام برسم شخصياته،‮ ‬فلا نعرف هل كان الصبي نحيفاً‮ ‬أم سميناً،‮ ‬طويلاًُ‮ ‬أم قصيراً،‮ ‬وكذلك الرجل العجوز والقاتل والمصور،‮ ‬وإن كنا نعرف أن الأرملة نحيفة،‮ ‬لا لأنه وصفها بذلك،‮ ‬بل لأنه سرده في أحد المشاهد،‮ ‬عندما جلست على أريكة رخامية‮" ‬وبقي جزء من مؤخرتها خارج حافتها حتى خافت أن تقع فانزاحت سنتيمترات للداخل‮". ‬إنه يترك للقاريء حرية اختيار شكل البطل بما يتناسب مع ثقافته،‮ ‬في حين يهتم هو بالرسم النفسي والعقلي والروحي،‮ ‬عاكساً‮ ‬بذلك خيالات شخصيته وهواجسها‮. ‬وإن كان يتدخل أحياناً‮ ‬بوصف يعمق الصورة النفسية‮.‬

ويبرز هاجس العمي عند إمام في قصتين،‮ ‬أولهما‮ "‬صانع الصور‮"‬،‮ ‬وثانيهما‮ "‬عينا رجل أعمي‮"‬،‮ ‬وينعكس عشقه للشعر في قصة عن بورخس وأخرى عن كفافيس‮. ‬كل ذلك يحيلني إلى فكرة ربما أكون مخطئاً‮ ‬في تصورها‮: ‬أن كل شخصيات إمام صور مختلفة له هو نفسه‮. ‬هو الساكن في مدينة لا ينتمي إليها،‮ ‬يتجول في شوارعها ليلاً،‮ ‬يصور بعدسة ذاكرته موتى يتصورون أنهم أحياء،‮ ‬ويعلم في قرارة نفسه أن الصباح لعنة من يستيقظون مبكراً‮. ‬هو من يكتب لأن الكتابة تضمن الخلود،‮ ‬وتطارده الهواجس واللعنات التي كلما قتلها نمت وتضاعفت،‮ ‬فكتب عنها حكاية جديدة‮. ‬حتى عندما يتبني الصوت الأنثوي،‮ ‬يعكس جانباً‮ ‬خافتاً‮ ‬فيه،‮ ‬جانب الإيمان بالحب حد كتابة خطابات‮ ‬غرامية‮. ‬هو أيضاً‮ ‬الصحفي الذي يكتب القصة والرواية‮.    ‬




نُشر بجريدة أخبار الأدب

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...