الاثنين، يونيو 30، 2008

أعمي ومبصر

أعمي ومبصر.. هكذا يجب أن يكون الكاتب أحمد عبد اللطيف
" بداية من سن معينة تركب الاوتوبيس ، تسمع كلمة ما ، مثل : بطانية ، وفي الحال تعرض ذاكرتك صفا من البطاطين التي مرت بحياتك . قد تتذكٌر البطاطين الاولي التي كنت تستخدمها في جلب الدفء اكثر منها في تزيين السرير ، احدي هذه البطاطين كانت ذات ملمس شبيه ببطانية اخر فندق نزلت فيه وكانت ذات ملمس خشن ، كما لو كانت من القطيفة الخشنة و الغليظة . ربما تقاوم الوسواس الذي يدفعك لتلعق بلسانك سطحها لتستعيد طعم الارق الطفولي ، والخوف . كما قد تسمع كلمة ¢ ساعة ¢ وحينها ستتذكر بلا شك تلك الساعة ذات الرقاص التي تدق كل ربع ساعة في بيت جديك . وربما تكون جالسا في ركن ما من مطعم ، وينطق احد بجانبك كلمة ¢ ممر ¢ حينئذ ، وبدون حاجة لتغمض عينيك ، تظهر امامك ممرات حياتك . هذا الممر الذي كانت تنزلق فيه دقات الساعة ذات الرقاص، بينما أنت داخل غرفتك تغطي راسك ببطانية حتي لا تسمع تك تاك الرقاص الذي يدق كل ربع ساعة . وقد يكون هذا الممر هو الممر الذي فيه بداية من ساعة بعينها وقت الظهيرة يبدأ التكدس الكثيف للاشباح . وقد يكون ايضا هذا الممر الذي دائما ما تتوه بداخله وربما لا تخرج منه ابدا . وان فكرت في هذا الكوب الذي تقربه الان لفمك ، قد تتذكر كوبا من الالومينيا ، له حافة باردة تشبه شفتي الجثة ، تلك الحافة التي تصدر كهرباء . بداية من سن معينة ، تصير الكلمات مثل لوحة المفاتيح بالكمبيوتر ، تنطقها بطرف لسانك ، او تضغط عليها باناملك ، سواء بسواء ، فيظهر علي الشاشة دليل البطاطين و الساعات و الممرات و الاكواب ، التي هي اجزاء منثورة من سيرتك الذاتية . وعندما تختلط كل هذه الادلة تحت شفرة الزهايمر المنظمة ، تكون جاهزا" .
هذا هو آخر ¢ مقال أقصوصة ¢ كتبه مياس ، وبهذا الاسلوب ايضا كتب روايته الجديدة ¢ دنيا ¢ التي فازت بجائزة بلانيتا العام 2007 ، والتي صنفت علي انها رواية ذاتية ، تناول فيها كاتب ¢لاورا وخوليو ¢ جزءا هاما من سيرته الذاتية في طفولته وصباه . وبهذه الجائزة يكون مياس قد حاز علي ثلاث جوائز ادبية : الأولي جائزة سيسامو في الرواية القصيرة عن عمل ¢ العقل هو الظل ¢ ، والثانية جائزة ناضال في الرواية عن عمل ¢ كانت هذه هي العزلة ¢ .
اختار مياس ليتقدم لهذه الجائزة اسما مستعارا له ¢ تيريسياس ¢ واسما مستعارا للرواية ¢ بلا تبصر ¢ وشرح اختيار العنوان المستعار للرواية قائلا ¢ مبصر واعمي ، هكذا يكون الكاتب ، لكي يري يجب ان يكتب بلا تبصر ¢ واعترف مياس ، في قصر المؤتمرات بكتالونيا ، ان جانبا ثريا من سيرته الذاتية نسج الخيط الروائي للعمل ، حيث قدم طفولة وصبي البطل الذي ترك دنيته المليئة باشيائه لينتقل مع عائلته، وهو في السادسة ، ليقيم في مدريد ، " إن ابحرنا في حياة كل كاتب سنجد شيئا مكسورا ، ونحن نكتب لنصلح هذا الشيء ، وانا اعلم ان حياتي قبل السادسة وبعدها مختلفة ، فلم تكن طفولتي سعيدة ". تبدأ " دنيا" بالقاء الضوء علي هذا الصبي الذي ولد في بالينثيا وانتقل لمدريد مع عائلته ، فانكسر شيء ما بداخله سنة 1952 . ¢ الطفولة ارض غير منظورة ان لم يحدث بها شرخ ، كما حدث معي ، تركنا بالينثيا ، المدينة المضيئة المطلة علي البحر الذي كنا نتنزه حوله ، لنطأ ارضا صارت هي العدم ، في رحلة فظيعة في قطار بكراس خشبية بصحبة البرد و الجوع . لكن بفضل هذا العدم المدريدي شعرت ان بالينثيا الارض الاسطورية ، استعارة للاشياء الاخري التي كسرت بداخلي والتي فتحت لي طريقا لاكون كاتبا ¢ .هناك عاش طفولة تعيسة ، حيث تغيرت ظروفهم الاقتصادية للاسوأ ، مما اثر في طباع والديه . كان الابن الرابع في عنقود طويل من الاولاد يصل عددهم لتسعة . ¢ كل هذا شيد امامي جيشا عدوا ، وكان يجب ان ادافع عن نفسي ، فدافع الطفل عن نفسه بالخيال ، افضل وسيلة للهروب من الواقع . ¢ ومن هنا جاءت نظرته الخاصة للدنيا والتي ميزت اسلوبه الادبي و الحياتي . ¢ ذات يوم اقترحوا علي ان اكون ظلا لنفسي . فنفذت ما اقترحوه . لم يكن من الصعب ان اسير ورائي ، فانا دائما أتأمل حياتي علي أنها خيال . لا اعرف كيف ولا لماذا انتهي بي المطاف داخل فندق . جالسا علي السرير سألت نفسي : ما اهم لحظة في حياتي . حينها بزغت في ذهني عبارة : كان ابي صاحب ورشة للاجهزة الطبية . فتذكرت في هذه اللحظة الطفولة و الورشة ¢ . بهذه العبارة بدأ مياس روايته .منذ فترة بدأ مياس يكتب نصوصا تروي سيرته الذاتية . ولكن ما الذي انكسر في مياس البالغ؟ . ¢ منذ سنوات اصلح من نفسي ، اشعر انني مخلوق من مواد منثورة ، كما الموتوسيكل المفكك الذي تباع قطع غياره . وانا سعيد بالنتيجة ، لأنه تشييد شخصي ، واغلب الناس يفعلون ذلك . ¢ ويعترف مياس ¢ اشعر ، وهذه الرواية توضح ذلك ، انني كنت ممزقا ، تنقصني قطع ، في حاجة لاجهزة نفسيه تعينني ، فساعدت الكتب الكثيرة و التفكير ان تعمل اجهزتي النفسية كغسالة المانية .¢ المراهقة و الذكريات المتلاحقة ومرور الزمن ، عناصر لا غني عنها في العمل المياسي ، وهو ما نلاحظه بشدة في اخر مقال اقصوصة ، وكذلك في روايته الجديدة ، كما نلاحظ بالتساوي التفاصيل الدقيقة والرسم الواضح لشخصيات رواياته ، كما في" لاورا وخوليو" و"كانت هذه هي العزلة "، والربط بين الخيال والواقع واذابة الخيوط بينهما في كل اعماله . ولا شك ان الذكري تعد عطفة في موضوع الهوية والقرين التي حددت اهم نجاحاته الادبية ، التي بدأت سنة 72 بعد ان ترك دراسة الفلسفة و الاداب وقدم روايته الاولي ¢ العقل هو الظل ¢ والتي نالت جائزة ادبية وثناء نقديا ولم تحقق مبيعات عالية ( لاورا وخوليو حققت 61 الف نسخة في الشهر الاول ) . وجاءت رواياته بالتوالي ¢ رؤية الغريق ¢ ¢ الحديقة الخالية ¢ . وجاء تقدم مياس مع ¢ حرف ميت ¢ ، لكن شهرته الواسعة ولدت مع ¢ كانت هذه هي العزلة ¢ التي نالت جائزة رفيعة ومبيعات عالية وثناء ادبيا وترجمت للعربية، حيث بدأ بها مياس التفتيش في ضمائر شخصياته وانحرف في خط روائي جديد . بعدها ترك عمله بشركة الطيران الاسبانية ( ايبريا ) وتفرغ للكتابة الادبية و الصحفية فظهرت ¢ الترتيب الابجدي ¢ ¢ لا تنظر تحت السرير ¢ ¢ امرأتان في براجا ¢ والتي نالت جائزة الربيع 2004 ، ثم لاورا وخوليو 2006 والتي حققت نجاحا توقعه العامة و النقاد من مياس وترجمت ل15 لغة منها العربية وظهرت في شرق وغرب بقطاع الثقافة بالاخبار.
مقال منشور بأخبار الأدب.

الجمعة، يونيو 27، 2008

الظلال و سطوتها

جريدة الأهرام عن الظلال وسطوتها
بقلم إبراهيم أصلان نبقي مع رواية‏(‏ لاورا وخوليو‏)‏ للأسباني خوان مياس‏, والتي ترجمها للعربية أحمد عبد اللطيف ، ‏ حيث نري خوليو وهو يجلس علي حافة سرير ابنة شقيقته الطفلة‏,‏ يعاونها علي النوم‏,‏ وهي تقول‏:‏‏
-‏ إذا أردت أن أنام‏,‏ احك لي حدوتة‏.
‏‏-‏ أنا لا أعرف حكاية الحواديت‏.
‏‏-‏ فقط قل كان يا ما كان وستري كيف تأتي الحدوتة‏.
-‏ كان يا ما كان‏. قالها وصمت‏.
‏‏‏-‏ كان في بلد . أضافت الصغيرة
وفي تلك اللحظة مشي أحدهم في الخارج وعبر ظله علي الحائط‏,‏ وحينئذ قال خوليو‏:
‏‏-‏ كان في بلد عدد ظلاله أقل من عدد أشخاصه‏.
‏‏-‏ لماذا؟
‏-‏ لأن نصف الناس كانوا يولدون بلا ظل‏.
‏‏-‏ وكيف كانوا وهم بلا ظل؟‏
-‏ كانوا طائشين‏
-‏ وما معني طائشين؟‏
-‏ يفكرون قليلا في الأشياء
‏-‏ أية أشياء؟‏
-‏ كل الأشياء‏,‏ تغلق الأبواب علي أصابعهم‏..‏ يلسعون ألسنتهم بالشوربة عندما يأكلون ، يتركون الحنفيات مفتوحة ، ويفكون رباط الحذاء‏.
‏‏-‏ وهل يتبولون في السرير؟‏
-‏ نعم‏
-‏ وماذا حدث؟‏
-‏ قررت حكومة هذا البلد تقسيم الظلال الموجودة إلي أنصاف ظلال وإعادة توزيعها علي المواطنين بالقرعة‏,‏ ليمتلك كل مواطن نصف ظل‏.
‏‏-‏ وماذا حدث بعد ذلك؟‏
-‏ حسنا‏,‏ سار الناس في الشوارع بنصف الظل الذي منحته لهم الحكومة ، لكن ذات يوم كان هناك شخصان يتجولان في حديقة ويسير خلف كل منهما نصف ظله‏,‏ وعندما دفعهما شيء للتوقف‏,‏ انتبها أن نصف ظل كل منهما التقي نصفه الآخر الأصلي بالمصادفة‏,‏ فالتحما‏,‏ ولم يعد ممكنا فصلهما أبدا‏,‏ وقد حدث توافق بين صاحبي نصفي الظلين‏,‏ وكانا رجلا وامرأة وتزوجا‏ . ‏منذ ذلك الحين بدأت كل أنصاف الظلال الموجودة في البلدة رحلة البحث عن نصفها الآخر وهي تسحب وراءها الأشخاص أنفسهم‏,‏ وهكذا صارت الظلال تسيطر علي العالم كله‏,‏ وعندما كان يلتقي نصف ظل مع نصفه الآخر كان أصحاب الظل يلتقيان أيضا دون ان تكون لديهم أية فرصة للاختيار‏,‏ لقد وقعوا جميعا تحت سلطة الظل‏,‏ كان هناك زواج بعقد وزواج بفسخ ليس استجابة لرغبة الجسد وإنما استجابة لرغبة الظل‏..‏ أصبح الأفراد جزءا فقط من الظل‏,‏ كانت ظلال الساسة هي التي تحكم البلد‏,‏ بينما ظلال المدرسين تشرح الدروس في المدارس لظلال التلاميذ‏,‏ وكانت ظلال رجال الشرطة تطارد ظلال المجرمين التي حكمت عليهم ظلال القضاة بالسجن‏,‏ وكانت ظلال الأطباء تعالج ظلال المرضي‏,‏ وفي الأسواق كانت تباع ظلال اللحم وظلال السمك وظلال الخبز إلي ظلال الزبائن‏,‏ وبما أن الظلال تعشق الظلام‏,‏ رويدا رويدا حرموا في هذا البلد كل مظاهر النور بداية من المصابيح ومرورا بالشمع‏,‏ ثم حرموا بعد ذلك ضوء الشمس‏,‏ وتحول المكان إلي ظل ضخم‏.
‏ هكذا قال ‏. ‏وفي هذه الأثناء كانت الطفلة قد أغمضت عينيها ‏. ‏لقد نامت.

الأحد، يونيو 22، 2008

عن مذكرات ساراماجو


جريدة القدس
فضوها سيرة

عزت القمحاوي
22 يوليو 2008
من أمتع ما كتب حول الرواية الأكثر فتنة ـ بعد دون كيشوت ـ أعني الجميلات النائمات، دراسة لماريو فارجاس يوسا يعيد فيها الرواية إلي أصل توراتي، هو حكاية أبيشج الشونمية التي اضطجعت في حضن الملك داوود (ليدفأ سيدنا المك) بعد أن فشلت كل الأغطية في دفع برودة الاحتضار.وقد انتحر ياسوناري كاوباتا من دون أن يكشف عن المثير الذي ألهمه روايته الجميلة، لتبقي قراءة يوسا مجرد فرضية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. وصوابها يكمن في شواهد أخري تؤكد أن العين الغريبة علي ثقافة ما تستطيع التقاط ما لا تلاحظه عين الذات، وفيما استخرجه الكتاب الغربيون من كنوز ألف ليلة والتصوف الشرقي عبرة لمن يعتبر.وهذه الفرضية؛ فرضية العين الغريبة التي تري أوضح، تجعلنا نتشكك في فرضية أخري متفشية بين النقاد العرب تعلق افتقارنا إلي فن السيرة الذاتية، علي عدم شيوع ثقافة الاعتراف التي تطبع المجتمع المسيحي الغربي. ويأتي الرد علي هذه الفرضية من بوذي ياباني آخر هو يوكيو ميشيما الذي كتب واحدة من أفضل السير الذاتية (اعترافات قناع) التي يمكن ردها بسهولة إلي تقليد الاعتراف الكنسي، والإحساس بالذنب أكثر مما نستطيع أن نرد أية سيرة ذاتية غربية، من اعترافات القديس أوغسطين إلي اعترافات جان جاك روسو وحتي جان جينيه، وجينيه بالذات يتناول ذات الموضوع الذي يتناوله الياباني ميشيما، لكن ميشيما هو من يكتب بإحساس المذنب لا المسيحي جينيه. ويذكرنا جان جينيه بمحمد شكري الكاتب العربي الذي يمكن أن نحسبه علي تقاليد الاعتراف كأي من كتاب أوروبا المسيحية.وكل هذه الشواهد: من رواية كاواباتا إلي اعترافات محمد شكري تؤكد إمكانية تأثر الغريب بتقاليد الثقافة الأخري، أو لنعترف بأن الرغبة في البوح، ولع يوحد البشرية.وفي الحالتين علينا أن نبحث عن سبب آخر لتعثر فن السيرة عربياً.ولنتفق أولاً علي أن إلصاق صفة (الاعتراف) كمحدد وحيد لفن السيرة ينقل هذا الفن من فنون الأدب إلي فنون الصحافة، مثلما نقلت فضائل البوح والكشف والتعرية الرواية العربية من مقام الفن إلي مقام نشرة الأخبار.في بعض السير كـ اعترافات قناع وفي بعض الروايات السيرية كـ البحث عن الزمن المفقود قد لا نعثر علي حدث أو فعل يتم الاعتراف به، فكثير من الأعمال الحلوة تنبع حلاوتها في تمحورها حول ما لم يحدث، وليس ماحدث. لكن غياب الفعل لا يعني غياب التفكير فيه، وسكون الجسد يعوضه صخب الروح، التي تغلي بأسئلة الكتابة والوجود. ربما هنا يكمن السر. وفي الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الكاتب يكمن الفرق بين عديد من السير الذاتية العربية غير الممتعة، وبين السير الممتعة في آداب الشرق والغرب. سيرة الكاتب تسبر اعماق أحلامه ومخاوفه، وسيرة المواطن تقدم أوراقاً ثبوتية: ولدت سنة...، وتخرجت في...، وتتلمذت علي!والمشكلة أيضاً ليست مشكلة حرية؛ فسيرة أدباء من أمثال كزنتزاكيس أو ماركيز، أو ساراماجو (التي انتهيت من قراءتها حالاً وكانت في الحقيقة دافعي إلي هذه التأملات) ليس فيها ما يحتاج إلي الحرية، أو ما يمكن أن يتحرج كاتب من ذكره في أكثر المجتمعات العربية تزمتاً. لا تصادم مع الدين ولا اجتراح بطولات ضد الإله، ولا تنفج بفحولة حقيقية أو مدعاة مع النساء.ليس لدي أي منهم سوي عذوبة الحكي، حول طفولة وشباب عاديين، وتحت هذه العادية الخادعة نلمح عذابات الكائن وتشوفه إلي الكتابة. نيكوس كزنتزاكيس جعل من سيرته الطريق إلي غريكو صعوداً نحو الجد، أو نحو الإطلالة الكريتية إطلالة المجد يعني، وهي القيمة الحقيقية التي يراها لوقائع حياته. ماركيز أخذها من أقصر الطرق، ليقرر في العنوان أنه ما عاش حياته إلا ليرويها، بينما يعنون ساراماجو سيرته بعنوان شديد التواضع الذكريات الصغيرة 1 ويقول فيها إنه فكر في البداية بتسميتها بـ كتاب الوساوس فما يحكيه هو وساوسه وتخوفاته من وقائع بسيطة مثل الخوف من زوج الجارة لأنه تعرض لها بكلمة، أو انتظار انتقام أب لفتاة لم يفعل سوي أن نظر إليها من الشرفة، أو التكوم تحت اللحاف منصتاً لخطوات مجذوم علي أرضية المطبخ الخشبية، وقد من الشاشة في الفيلم الذي شاهده في في ذات الليلة وتتبعه من صالة السينما إلي بيت خالته، حيث جاء ليقضي شطراً من عطلته الصيفية عندها!يتذكر ساراماجو، عندما أرسلته أمه لشراء ملح من محل البقالة القريب، وفتح القرطاس وتذوق حبات الملح. واقعة شديدة التفاهة ولا تستحق أن تروي، إلا أنها كانت طريقه لاكتشاف أكثر المرطبات بدائية: مزيج من الملح والخل والسكر. وقد استخدم هذه التركيبة بعد ذلك في كتابه الإنجيل لقتل العطش الأخير للمسيح.هذه القصة وغيرها مما تضمنته سيرة ساراماجو توضح الفرق بين سيرة المواطن وسيرة الفنان؛ الأول يراكم الوقائع والأخبار التي لا يدري القاريء لها نفعاً، مهما كانت أهميتها لصاحبها، والثاني يحكي عن أكثر الوقائع ابتذالاً، لكنها تصبح ذات شأن في علاقتها بفنه وتأثيرها عليه. الفن وحده هو ما يعطي هذا المواطن البرتغالي أو ذاك اليوناني أو الكولومبي مشروعية التعري أمامنا، وهو ما يعطي ذكرياته مشروعية أن تروي.

1 خوسيه ساراماجو، الذكريات الصغيرة، ترجمة أحمد عبداللطيف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز.

الأربعاء، يونيو 18، 2008

شيء خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية

حكي جارثيا ماركيز ، نوبل 1982، ذات مرة في احدي لقاءاته ، واحدة من أجمل قصصه القصيرة ، و عنوانها " شيء خطير جدا سيحدث في هذه القرية " تقول هذه القصة ـ الحدوتة ـ الحكمة : استيقظت سيدة ذات صباح بوجه عبوس ، جلست لتتناول افطارها مع ابنها و بنتها ، فسألها أحدهما عن سبب حزنها ، فقالت إنها رأت في المنام حلما يزعجها ، و أضافت ، شيء خطير جدا سيحدث في هذه القرية ! . ابتسم ابناها ، و قالا لأمهما " لا تصدقي في هذه الأشياء" . في المدرسة كان الولد مشغولا بما قالته أمه ، و بعد انتهاء اليوم الدراسي خرج ليلعب البلياردو مع أحد زملائه ، و كانت هذه عادتهما اليومية ، فهزمة زميله علي غير العادة عدة مرات . و في النهاية سأله عن سر انشغاله ، فأخبره الولد أن أمه رأت في المنام أن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية . عاد زميل ابن السيدة للبيت ، و أثناء تناول الغداء مع أسرته قال ساخرا إن أم فلان زميله في المدرسة تقول إن شيئا خطيرا جدا سيحدث في قريتنا ، فوبخته أمه و قالت له إنه لا يصح أن يسخر من سيدة كبيرة ، فرأيهن دوما ما يصيب . في اليوم التالي ذهبت هذه السيدة( أم زميل ابن السيدة صاحبة الرؤية ) للسوق لشراء حاجات يومها ، و عندما كانت أمام الجزار طلبت منه كيلو لحم ، ثم تراجعت و قالت " وللا أقول لك خليهم اتنين كيلو " ، و أضافت : أصلهم بيقولوا إن في شيء خطير جدا هيحصل في هذه القرية " ، نظر لها الجزار بقلق ، لكن السيدة لم تفسر له شيئا . ذهبت السيدة و ظل الجزار شاردا ، جاءت سيدة أخري و طلبت كيلو لحم ، " أنصحك تاخدي اتنين كيلو احسن دول بيقولوا ان في شيء خطير جدا هيحصل في قريتنا " ، نظرت له المرأة و قالت " مادام في شيء خطير هيحصل ، اديني خمسة كيلو " . في غضون عدة أيام سمعت السيدة التي رأت الرؤية ضجيجا و جلبة في الشارع ، فخرجت للشرفة مع ابنيها ، فوجدت عددا هائلا من العربات النقل تحمل اثاثا ، و في طريق خروجها من القرية ، حينها نظرت المرأة لابنيها وقالت " ألم أقل لكما أن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية " .

السبت، يونيو 14، 2008

مقتطف من مذكرات ساراماجو

من حين لآخر ، كانت السيدات تذهبن ايام الآحاد عصرا الي بايكسا للفرجة علي الفترينات . وفي أعم الاحوال كن يذهبن سيرا علي الاقدام ، وذات مرة ركبن الترام ، وكان أسوأ ما يمكن ان يحدث لي في هذه السن ، حيث أنني سريعا ما يصيبني الدوار بسبب رائحته من الداخل ، فالجو شديد السخونة ، شبه النتن ، قلب معدتي ، وفي دقائق قليلة جعلني أتقيأ . ففي الترام علي وجه الخصوص اصير مخلوقا ضعيفا . مع مرور الوقت تضاءل هذا التعصب الشمي ( لا اعرف اسما آخر لأطلقه علي هذه الحالة ) لكن الحق أنني ، خلال سنوات ، كان يكفي أن أدخل الترام حتي اشعر بدوخة . أيا كان السبب ، سواء أشفقن علي حالي ، او لأنهن كن يريدن التمشية ، في هذا الاحد هبطنا سيرا من شارع فرناو لوبيس ، أنا وأمي وكونسيبسيون ، وأعتقد ايميديا أيضا ، مرورا بشارع فونتيس بيريرا ثم بشارع لا ليبردادي ، واخيرا صعدنا لشارع التشيادو ، حيث هناك كانت تعرض كنوز علي بابا القيمة . لا أتذكر الفترينات ، ولا أنا هنا من اجل الحديث عنها ، فهناك مسائل أكثر جدية تشغلني في هذه اللحظة . بجانب أحد أبواب مخازن جرنديللا كان هناك رجل يبيع البالونات ، وربما لأنني طلبت منه ( وهو الامرالذي ارتاب فيه كثيرا ، لأن من ينتظر أن يعطوه ، يتجرأ ويطلب ) او ربما لأن أمي أرادت ، وهو شيء غير مألوف ، أن تجعلني إجتماعيا ، صارت واحدة من هذه البالونات في يدي . لا أتذكر أكانت خضراء ام حمراء ، صفراء ام زرقاء ، او كانت بيضاء بكل بساطة . فما حدث بعد ذلك مسح من ذاكرتي اللون المفترض أن يظل ملتصقا بعيني للابد ، حيث أنها كانت اول بالونة أمتلكها في عمري كله البالغ ستة او سبعة اعوام . كنا في طريقنا الي الروسيو ، عائدين الي البيت ، كنت فخورا كما لو كنت اسوق العالم بأسره وأربطه بخيط وأطيره في الهواء ، فسمعت فجأة شخصا يضحك من ورائي . نظرت و رأيت . كانت البالونة قد انفشت ، وكنت اجرها علي الارض دون أن أنتبه ، وقد أصبحت شيئا قذرا ، منكمشا ، لا شكل له ، وكان الرجلان القادمان ورائي يشيران إلي بسبابتهما ، أما أنا فقد كنت في هذه المرة نموذجا للأراجوز البشري . لم أستطع حتي البكاء . أطلقت الخيط ، أمسكت بذراع امي كما لو كانت طوق النجاة وواصلت سيري . هذا الشيء القذر ، المنكمش ، عديم الشكل ، كان في الحقيقة الحياة الدنيا .

الخميس، يونيو 12، 2008

مذكرات ايزابيل الليندي

07/10/2007 أخبار الأدب
شرق وغرب
فصول من مذكرات ايزابيل الليندي: " حصاد الأيام "
ترجمة : أحمد عبد اللطيف
" حصاد الأيام " عنوان اختارته إيزابيل الليندي لمذكراتها التي صدرت منذ أيام. والمذكرات هي استكمال لكتابها " رسائل إلي باولا " ، وفيها تروي لابنتها التي رحلت ما حدث لها ولعائلتها من محن في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، منذ وفاتها، وتعترف الليندي ان هذه المذكرات تعد كتابة علاجية ، لأنها سمحت لنفسها بتأمل الأحداث بدقة في السنوات الأخيرة، لكنها ليس تعويذة، فهو كتاب يمجد المغامرة في الحياة.
هنا ترجمة لثلاثة فصول من المذكرات.
كل حياة، حلقة في مسلسل
قضيت عام 1993 شبه محبوسة متفرغة للكتابة، بين الدموع و الذكريات يا باولا، لكنني لم أستطع أن أتجنب جولة طويلة بعدة مدن أمريكية من اجل كتابي خطة لانهائية ، وهي رواية مستوحاة من حياة ويلي، انتهيت من نشرها باللغة الانجليزية لكنني كنت قد كتبتها قبل ذلك بسنتين والآن أصبحت موجودة بعدة لغات اوروبية. لقد سرقت عنوانها من والد ويلي، الذي يدين بدين رحال يسميه خطة لانهائية . وأرسل ويلي، زوجي، هذه الرواية كهدية لأصدقائه، وأظن انه هو من اشتري الطبعة الأولي كاملة. وكان فخورا جدا لدرجة أجبرتني ان أذكره أنها ليست سيرته الذاتية، وإنما خيال. حياتي رواية ، أجابني. كل حياة يمكن أن تروي كرواية، فكل منا بطل اسطورته الخاصة. في هذه اللحظة، عند كتابة هذه الصفحات، تراودني الشكوك. هل تتابعت الأحداث كما يحدث عندما أتذكرها وأرويها ؟. بالرغم من مراسلتي الاساسية مع امي، التي نحتفظ فيها يوما وراء يوم بالصدق سواء في حكاية الاحداث التافهة او الهامة، الا ان هذه الصفحات تعبر عن مشاعري. أخبرني ويلي أن الرواية كانت خريطة لمسيرة حياته وأضاف أنه من المؤسف ان الممثل باول نيومان أكبر في السن من دور البطل لو جعلوا من الرواية فيلما. ألم تلحظي أن باول نيومان يشبهني ، جعلني أري بتواضعه المألوف. لم أنتبه لهذا من قبل، فأنا لم أعرف ويلي شابا، عندما كانا توءمين. تم نشر الرواية باللغة الانجليزية في لحظة سيئة بالنسبة لي، فلم أكن أرغب في رؤية احد وكانت فكرة جولة الدعاية تخنقني. كنت مريضة بالأحزان، مهمومة بما كان من الممكن ان افعله ولم افعله لإنقاذك. كيف لم أنتبه لاهمال الأطباء في مستشفي مدريد تلك ؟ لماذا لم أخرجك من هناك وآتي بك إلي كاليفورنيا في الحال ؟ لماذا، لماذا... سجنت نفسي في المكان الذي قضيت فيه الأيام الأخيرة، لكن حتي هذا المكان المقدس لم يهبني الطمأنينة. لقد مرت سنوات طويلة كنت فيها صديقتي الرقيقة و الدائمة. حينها كنت اشعر بغيابك كألم صلب، كضربة في الصدر تجعلني أقع علي ركبتي. كنت أيضا مهمومة بنيكو، لأننا قد عرفنا في التو أن أخاك أيضا مصاب بهذا المرض الكبدي. باولا لم تمت بالمرض، بل ماتت بالإهمال الطبي ، ألح اخوك، ليطمئنني، لكنه كان قلقا، ليس علي نفسه وإنما علي ابنيه والثالث القادم في الطريق. قد يصاب الأولاد بهذا المرض الوراثي المشئوم، سنعرف ذلك عندما يصلون لسن يمكن فيها إخضاعهم للفحص. بعد موتك بثلاثة شهور، أخبرتنا ثيليا أننا في انتظار مولود جديد، وهو ما كنت أرتاب فيه، بسبب السواد الكامن تحت عينيها ولانني ايضا قد رأيت ذلك في المنام، كما رأيت اليخاندرو وأندريا قبل أن يتحركا في بطن امهما. انجاب ثلاثة اطفال في خمس سنوات كان قلة حيطة. كان نيكو وثيليا يفتقران للعمل الثابت وكانت تأشيرات الطلبة التي يحملانها علي وشك الانتهاء، مع ذلك احتفلنا بالخبر. لا تحملا هما، فكل مولود يأتي بخبزه في يده ، كان هذا تعليق أمي عندما جاءها الخبر. وهذا ما حدث. في نفس هذا الاسبوع بدأنا اجراءات تأشيرات الإقامة لنيكو وعائلته، فأنا قد حصلت علي المواطنة في الولايات المتحدة بعد خمس سنوات من الانتظار، وكان بإمكاني أن آويهم.عرفت علي ويلي سنة 1987، قبل أن تتعرفي انت علي ارنيستو بثلاثة شهور. أحد قد قال لك حينها إنني قد تركت أباك من اجله، لكن أؤكد لك أن هذا لم يحدث. لقد عشت أنا وأبوك معا 29 عاما، فقد عرفته وأنا في سن الخامسة عشرة وهو علي وشك العشرين. وعندما قررنا الطلاق، لم اكن حتي لأشك أنني سأجد ويلي بعد ذلك بثلاثة شهور.لقد جمعنا الأدب : قرأ لي ويلي روايتي الثانية وشعر بالحماس ليتعرف عليٌ عندما كنت اعبر شمال كاليفورنيا كالطائرة الورق. خاب أمله، فلم اكن انا نوع المرأة التي يفضلها، لكنه داري ذلك جيدا واليوم يؤكد أنه شعر إتجاهي برباط روحي سريع. أنا لا اعرف ماذا يعني ذلك. من جانبي، كان لابد ان أتصرف بسرعة، لأنني كنت أقفز من مدينة لأخري في سفر مجنون. هاتفتك لأطلب منك النصيحة وقلت لي وأنت تقهقهين، لماذا أسألك، إن كنت قدإتخذت قرارا بالسعي وراء المغامرة. فحكيت القصة لنيكو الذي صاح مرعوبا : في سنك هذا يا أمي . كان عمري خمسة واربعين عاما، وهو ما بدا له عتبة القبر. فأعطاني هذا الحل : لا يجب ان أضيع الوقت،، وان أدخل في الصميم. لكن عجلتي كنستها حيطة ويلي المبررة. ولن أكرر هنا ما تعرفينه وما قد رويته مرات عديدة : طبقا لويلي، لديٌ خمسون رواية عن كيف بدأ حبنا وكلها صحيحة. ولكي أختصر، أذكٌرك أنه بعد أيام قليلة تركت حياتي السابقة ونزلت بلا دعوة في بيت هذا الرجل الذي أولعت كنت تدرسين في فيرجينيا وهو كان لديه 21 عاما، شاب لا يحتاج رضعة أمه.وعندما استرد ويلي نفسه من المفاجأة الشديدة عندما رأني علي باب بيته بحقيبة السفر، بدأنا حياتنا معا وبحماس، بالرغم من الاختلافات الثقافية التي تفرقنا ومشاكل الأولاد التي لا أنا ولا هو نعرف قيادتهم. كان يبدو لي إن حياة ويلي وعائلته تشبهان الكوميديا السخيفة التي لا تترك تأثيرا. كم مرة هاتفتك لأطلب منك النصيحة ؟. أعتقد كل يوم. ودائما كان ردك لا يتغير: ماهو أكرم حل ترينه في مثل هذا الموقف يا أمي ؟ . تزوجنا أنا وويلي بعد ذلك بثمانية شهور. لم تكن المبادرة من جانبه، بل من جانبي. وعندما ادركت أن عاطفة اللحظة الأولي ستتحول لحب وأنني من الممكن أن أبقي في كاليفورنيا، قررت ان احضر أولادي إلي هنا. كان يجب ان اكون مواطنة امريكية ان كنت ارغب الاجتماع بك وباخيك،، وبالتالي لم اجد امامي مخرج سوي ان اتنازل عن كبريائي واقترح علي ويلي فكرة الزواج. لم يكن رد فعله غبطة منفجرة، كما تجرأت انا وانتظرت، وإنما كان رهبة، لأنه قد مر بتجارب حب فاشلة أطفأت عواطف قلبه الملتهبة، لكنه في النهاية طوق يدي. حسنا، لم يكن الأمر صعبا حقيقة : أعطيته فرصة حتي الساعة الحادية عشرة من اليوم التالي ليقرر وبدأت أرتب حقيبتي. وقبل أن تنتهي المدة بربع ساعة، قبل ويلي يدي، مع أنه لم يفهم أبدا اصراري الملح في الحياة بجانبك وبجانب نيكو، لأن الشباب في الولايات المتحدة يهجرون البيت الأبوي عندما ينهون المدرسة ويعودون فقط للزيارة في الكريسماس أو يوم العرفان بالجميل. ويصدم الأمريكان العادة التشيلية للتعايش في عشيرة للأبد.لا تجبرني علي الاختيار بينك وبين أولادي ! حذرته في تلك المرة. لن يخطر ذلك في بالي. لكن، أأنت متأكدة انك تريدين أن يعيش الأولاد بالقرب منك ؟. سألني. من حق الأم دائما أن تدعو أولادها.زوٌجنا رجل حصل علي ترخيصه بالبريد، مقابل دفع 25 دولارا، لأن ويلي، مع انه محام، لم يستطع توفير أي قاض صديق يقوم بهذه المهمة، وهو ما أثار فيٌ التشاؤم. ويوم الزفاف كان اكثر الايام حرارة في تاريخ ولاية مارين. وطقس الزفاف اقيم في مطعم ايطالي ليس به تكييف، وبالتالي فقد ساحت التورتة كلية، وأغمي عليها الآنسة التي كانت تعزف علي الجنك، اما المدعوون الذين تصببوا عرقا، فقد خلعوا ملابسهم. فصار الرجال بلا قميص ولا حذاء، وصارت النساء بلا جوارب ولا ملابس داخلية. لم اكن اعرف احدا سوي اخيك وأمي وناشري الأمريكي، وجاءوا جميعا من بعيد ليكونوا بصحبتي. دائما راودني الشك ان هذا الزفاف ليس شرعيا كلية، واتمني ان يأتي اليوم الذي يحمسنا لنتزوج كما ينبغي. لا أريد أن تأخذي انطباعا انني تزوجت فقط من اجل المصلحة، فما شعرت نحو ويلي بشبق بطولي يفقد النساء عادة صوابهن، كما حدث لك مع ارنيستو، لكن في السن الذي وصل له كلانا لم نكن في حاجة للزواج، إلا بسبب موضوع التأشيرة. في ظروف أخري كنا سنعيش في رفقة، كما كان ويلي يفضل بلا شك، لكنني لم ارغب أن آذي عائلتي بسبب من كان خطيبي الشبيه بباول نيومان. لقد خرجت معك ومع نيكو من تشيلي خلال الديكتاتورية العسكرية لعقد السبعينات، ومعكما لجأت إلي فنزويلا حتي نهاية الثمانينات، ومعكما فكرت أن أهاجر للولايات المتحدة في التسعينات. ولم يساورني الشك في أنك وأخاك ستكونان معي في كاليفورنيا افضل من ان تتشردا في العالم،، لكنني لم أحسب التأخير الشرعي. مرت خمس سنوات، كانت بالنسبة لي خمسة قرون، وخلالها تزوج كل منكما، تزوج نيكو من ثيليا في فنزويلا وانت من ارنيستو في اسبانيا. لهذا لم اجد مانعا حقيقيا من زواجي. وبعد فترة تمكنت من ان انشيء لنيكو وعائلته غرفتين في بيتنا، ولو لم يأتك الموت مبكرا، لكنت ستعيشين بجانبي. سافرت في رحلة عابرة بالولايات المتحدة في اتجاهات عدة كدعاية لروايتي وإلقاء محاضرات كنت قد أجلتها من العام الماضي، عندما لم أستطع أن أتحرك من جانبك. أتشعرين بوجودي يا ابنتي ؟. سألت نفسي هذا السؤال مرات عديدة. ماذا كنت ترين في منامك في الليل الطويل لسنة 92 ؟. كنت تحلمين، أنا متأكدة، لأن عينيك كانتا تتحركان تحت جفونك وأحيانا كنت تستيقظين خائفة. فالدخول في غيبوبة يشبه التقيد داخل ضباب كابوس كثيف. طبقا للأطباء، انت لا تنتبهين لشيء، لكن اجد من الصعوبة تصديق ذلك. في سفري كنت احمل معي حقيبة بها أقراص منومة، للألم الوهمي، و لتجفيف دموعي وللخوف من العزلة. لم يستطع ويلي ان يصحبني لظروف عمله، فمكتبه لا يغلق حتي ايام الاحاد، ودائما اجد معجزات في صالته الامامية ومئات من القضايا علي مكتبه. في تلك الايام كان مشغولا بمأساة مهاجر مكسيكي مات عند سقوطه من الدور الخامس بمبني تحت الانشاء في سان فرانسيسكو. كان يدعي خوبيتو باتشيكو في التاسعة والعشرين من عمره. لم يكن له اي وجود شرعي. وتخلت عنه شركة المقاولات، لان الرجل كان بلا اوراق.لم يكن لمساعد المقاول تأمين ولم يتعرف علي باتشيكو. كان قد جذبه في شاحنة قبل الحادث بأيام، بصحبة عشرين من المهاجرين غير الشرعيين مثله، وساقه حتي مكان العمل. خوبيتو باتشيكو كان فلاحا ولم يصعد أبدا فوق سقالة، لكن ظهره كان قويا ويرغب في العمل. لم يعلمه احد أنه يجب ان يلبس درع الأمان. سأحاكم نصف العالم لو لزم الأمر ن لكن قبل ذلك اسعي للحصول علي تعويض لعائلته الفقيرة ، سمعت ويلي يقول ذلك آلاف المرات. وكما نري ليست قضية سهلة. كانت معه صورة شبه فاسدة الالوان لعائلة باتشيكو في مكتبه : أبوه، أمه، جدته، ثلاثة أطفال صغار ورضيع بين يديه، يرتدون ملابس الذهاب للكنيسة، يصطفون في عز الشمس في ميدان مترب بالمكسيك. الوحيد الذي كان ينتعل حذاء هو باتشيكو، رجل هندي داكن بابتسامة شامخة وبيده قبعة فقيرة من القش. في هذه الجولة ارتديت الاسود من قدمي لرأسي، بحجة أن الاسود لون أنيق، حيث لم أرغب ان اقبل حتي امام نفسي أنني أسير بلبس الحداد. تبدين مثل ارمل تشيلية ن قال لي ويلي ، واهداني شالا أحمر كرجال المطافيء.لا أتذكر إلي اي مدن ذهبت، ولا من عرفت، ولا ماذا فعلت، ولا يهم، سوي انني قابلت ارنيستو في نيويورك. تحركت مشاعر زوجك كثيرا عندما اخبرته انني أكتب مذكرات عنك. بكينا سويا وحصاد أحزاننا أطلق عاصفة من البرد. لكن البرد يأتي في الشتاء ، قال لي نيكو عندما حكيت له ما حدث بالتليفون. قضيت عدة اسابيع بعيدة عن اهلي كالمنومة مغناطيسيا. بالليل كنت أنام في أسرٌة لا أعرفها، فاقدة الحس بسبب المنوم، وفي الصباح كنت انفض الكوابيس بفنجان قهوة داكنة.كنت اتحدث مع اهلي بكاليفورنيا وارسل خطابات لامي بالفاكس، أقول لهم إن الزمن ينتهي لأنهم يختمون بحبر رقيق علي الضوء. حدثت أشياء كثيرة حينذاك نسيتها، وأنا علي يقين أن ذلك افضل. كنت اعد الساعات لأعود لبيتي وأختبيء من العالم، كنت اريد أن أنام مع ويلي، العب مع احفادي، وأسلي نفسي صانعة عقود في ورشة صديقتي طبرا. علمت ان ثيليا تفقد وزنها بسبب الحمل، بدلا من أن تزيد وزنا، وانا حفيدي اليخاندرو يذهب للحضانة بحقيبته علي ظهره، وأن اندريا تحتاج لإجراء عملية في عينيها. كانت حفيدتي رقيقة، لها زغب مدهب في رأسها وكانت حولاء، تشرد عينها اليسري وحدها. كانت هادئة وصموتة، تبدو دائما كأنها تخطط لشيء، تمص اصبعها وهي ملفوفة بقماط من القطن، وكانت تسمي اصبعها توتو ولم تطلق سراحه أبدا. أنت لم تحبي الأطفال، باولا. وذات مرة عندما جئت في زيارة ووجب عليك تغيير حفاظة اليخاندرو، اعترفتي لي أنك عندما كنت تغيرين له، فقدت الرغبة في الأمومة. لم تعرفي اندريا لكن في الليلة التي تركتي فيها عالمنا كانت هي نائمة، بجانب أخيها، في طرف السرير. معجزات يومية صغيرة في السادس من ديسمبر كانت ذكري وفاتك الأولي. كنت اريد ان اتذكرك جميلة، بسيطة، سعيدة، ترتدين فستان العروسة أو تتخطين البرك تحت مطر طليطلة، بشمسية سوداء : لكن عندما حل الليل، وفي كوابيس، كانت تهاجمني صور تراجيدية : سريرك وأنت في المستشفي، صوت جهاز التنفس، كرسيك المتحرك، المنديل الذي كنا نغطي به فتحة الخزع الرغامي، يداك المتشنجتان. أحيانا كثيرة دعوت الله ان أموت انا بدلا منك، وعندما كان هذا البديل مستحيلا، دعوت الله أن اموت مصابة بمرض، لكن الموت صعب، كما تعرفين وكما تقول جدتي التي كان ينقصها القليل لتتم مائة عام من الحياة. بعد عام من وفاتك كنت مازلت حية، بفضل عطف عائلتي والإبر السحرية والأعشاب الصينية للحكيم الياباني ميكي شيما، الذي كان بجانبي وجانبك في الشهور التي ودعتي فيها العالم رويدا رويدا. لا اعلم ما اثر هذه الوسائل عليٌ، لكن وجوده المطمئن ورسالته الروحية أعاناني أسبوعا وراء آخر في تلك الفترة. لا تقولي إنك ترغبين الموت، لأنك بذلك تقتليني بالحسرة ، لامتني امي ذات مرة عندما لمحت لها بذلك في خطاب. أمي لم تكن السبب الوحيد لأستمر في الحياة، كان هناك ويلي ونيكو وثيليا وهؤلاء الأحفاد الثلاثة الذين اعتادوا ان يوقظوني بأياديهم المتسخة وقبلاتهم سائلة اللعاب، ثلاثتهم بحفاظته ذات رائحة العرق والرضاعة. في نفس السرير ليلا، كنا نشاهد سويا، متعانقين، أفلام الديناصورات المرعبة التي كانت تلتهم الممثلين. اليخاندرو، ذو الرابعة، كان يأخذني من يدي ويقول لي ألا أخاف، فتلك الافلام اكذوبة، فالحيوانات الخرافية ستتقيأ الأشخاص كاملين لأنهم لم يمضغوهم. في صباح يوم الذكري السنوية ذهبت مع اليخاندرو إلي الغابة، التي نسميها الآن جميعا غابة باولا . ياللعجب، يا ابنتي، لأنها حديقة حكومية. كانت السماء تمطر، كان الجو بردا، دخلنا في الطين، وكانت رائحة الجو صنوبر، وبين ثغرات الأشجار كان يطل ضوء الشتاء الحزين. كان حفيدي يجري امامي بقدمين تتحدف في الجوانب ويحرك ذراعيه كالبط. اقتربنا من المجري الصغير، المضطرب في الشتاء، حيث نثرنا رمادك. عرفته بالضبط.كان باولا مريضة بالأمي قال : بالنسبة له كل الماضي أمس.نعم، إنها ماتت. من قتلها ؟ الأمر ليس كما في الأفلام، اليخاندرو، أحيانا تمرض الناس وتموت، هذا كل شيء. أين يذهب الموتي ؟ لا أعرف بالتحديد. إنها ذهبت من هناك. قال مشيرا للمجري الصغير.ذهب رمادها في الماء، لكن روحها مازالت تعيش في هذه الغابة. ألا يبدو لك جميلا ؟لا، من الأفضل ان تعيش معنا قرر. قضينا وقتا طويلا نتذكرك في هذا المعبد الأخضر، حيث استطعنا ان نشعر بك، ملموسة وحاضرة، كما النسيم البارد والمطر. وقت الظهيرة اجتمعت العائلة حتي ارنيستو الذي جاء من نيو جيرسي وبعض الاصدقاء في بيتنا. جلسنا في الصالة واحتفلنا بعطاياك التي وهبتيها لنا في حياتك ومازلت تهبينها : ميلاد الأحفاد سابرينا ونيكولي ودول المهات، فو وجريث، إلي القبيلة، بالإضافة لسالي. شمعة بيضاء متواضعة، بفتحة في المنتصف، كانت تنتصف المذبح الذي ملأناه بصورك وذكرياتك. في العام الماضي، قبل موتك بثلاثة ايام، التقيت ب أخوات الفوضي الدائمة في بيت احداهن، وكالعادة كنا نقضي أيام الثلاثاء حول ست شمعات جديدة. كان غيابك يضاعف ألمي. أشعر بنار تأكل قلبي ، قلت لهن. كنا نمسك بايادينا، نغمض اعيننا، وكانت صديقاتي يوجهن لي حنانهن وتضرعاتهن، ليساعدنني علي تحمل ألم الأيام. كنت اطلب امارة، امارة علي انك لم تختف في العدم الي الابد، امارة علي ان روحك موجودة في مكان ما. وفجاة سمعت صوت جان : انظر لشمعتك، ايزابيل . كانت شمعتي تلتهب في المركز. نار في البطن ، اضافت جان. سننتظر. أكل اللهب الشمعة وشكل حفرة في منتصفها، لم تختف. وكما اشتعلت بلا تفسير، انطفأ اللهب بعدها بلحظات. وظلت الشمعة محفورة، لكنها منتصبة، وبدا لي أن هذه هي الامارة التي طلبتها، غمزة عين تعطيها لي من المكان الاخر : حرق موتك لن يقضي علي. بعدها راجع نيكو الشمعة ولم يستطع ان يجد سببا لهذا اللهب في المنتصف : ربما كان بها عيب، كان بها فتيلة اخري نتج عنها قفز شرارة. لماذا تريدين تفسيرا يا امي ؟ إن ما يهم في هذه الحالة هو الفرصة. لقد تلقيت الامارة التي طلبتها، وهذا يكفي ، قال نيكو، ليتركني مسرورة، اظن ذلك، لأنه مع شكوكه الصحية، لا اعتقد انه يؤمن بالمعجزات. شرحت لي فو أننا كنا نشعل بخورا لأن الدخان يرتفع مثل أرواحنا، وضوء الشموع يمثل الحكمة، الوضوح، الحياة : أما الزهور فتمثل الجمال والاستمرار، لأنهاتموت وتترك بذورا لزهور اخري. كما تبقي بذورنا في أحفادنا. كل منا شارك الأخريات بمشاعر أو ذكري قالت ثيليا، اخر من تحدثت : باولا، تذكري ان لك ثلاثة أبناء أخ ويجب ان تعتني بهن، انظري فقد يصيبهم المرض الكبدي. وتذكري اشعال شمعة حتي تتمتع سابرينا بحياة طويلة وسعيدة. وتذكري أن ارنيستو يحتاج شخصا أخر، وبالتالي تحمسي وابحثي له عن عروسة . امبراطورية الرعب يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر دق الهاتف صباحا مبكرا. كانت أمي، تهاتفني من تشيلي، يغلفها الرعب من الخبر الذي مازلنا نجهله، لأن فرق التوقيت بين كاليفورنيا حيث أعيش والشاطيء الاخر للبلد ثلاث ساعات مبكرا، وكنت قد نهضت من السرير. عند سماع صوتها، فكٌرت أنها تحدثني عن الذكري السنوية للثورية العسكرية التشيلية، وهي أيضا اعتداء ارهابي ضد الديمقراطية، نتذكره كل عام كألم : الثلاثاء، 11 سبتمبر 1973. أشعلنا التليفزيون ورأينا مرة وآلاف المرات نفس صور الطائرات تفجر برجي مركز التجارة العالمي، وهو ما ذكرني بقصف العسكريين ضد قصر لا مونيدا التشيلي، حيث مات في نفس اليوم الرئيس سلفادور الليندي. هرولنا صوب البنك لنسحب اموالا فورية لنتزود بالماء والغذاء و البنزين. ألغوا رحلات الطيران، وبقي آلاف من المسافرين محجوزين، امتلأت الفنادق وتحتم عليهم أن يضعوا أسرٌة في الممرات. في أيام البرجين كان يجب ان ارحل في جولة بكتبي باوربا، لكن فرض علي ان ألغي سفري. كانت الشبكات التليفونية مشغولة لدرجة أن لوري لم يستطع الإتصال بأبويه خلال يومين ولا أنا استطعت الاتصال بأهلي في تشيلي. انتقل لوري ونيكو الي بيتنا مع الأطفال، الذين كانوا معهم هذا الإسبوع ولم يذهبوا للمدرسة لأن الدراسة قد توقفت. معا كنا نشعر أكثر بالأمن. خلال أيام، لم يستطع أحد العودة إلي عمله في مانهاتن. كان يطفو في السماء سحابة من التراب وكان يهرب من المواسير المكسورة غازات سامة. وعندما كان يسود التشويش، جاءتنا اخبار عن جاسون. حكي لنا أن الأحوال في نيويورك بدأت تتحسن رويدا رويدا. سار ليلا ناحية منطقة الكارثة بمجرفة وخوذة ليساعد فرق الإنقاذ، الذين كانوا قد انهكوا. مر بجانب عشرات من المتطوعين العائدين من ساعات عملهم الطويلة وجاءوا للأطلال بخرق بيضاء ملفوفة علي رقابهم، تكريما للضحايا المحتجزين داخل البرجين، والذين أشاروا بالمناديل من النوافذ وداعا وداعا. كان يلاحظ من بعد الدخان الخارج من الأطلال. وسكان نيويورك يشعرون بالضربة القوية. تصرخ صفارات الانذار، وتهرول عربات الاسعاف فارغة، فلم يبق احد علي قيد الحياة، بينما عشرات من الكاميرات التليفزيونية تصطف بالقرب من المنطقة المنكوبة بأيد القاصفين. سبق هذه الهجمة هجمة اخري، لكن لم يتحدث احد بجدية في ترك المدينة : فنيويورك لم تفقد طابعها الطموح القوي والمدعي الرؤية. عندما وصل لمكان الكارثة، قابل جاسون متطوعين كثيرين مثله : فكان لكل ضحية مختفي بين الانقاض عدة اشخاص مستعدين للبحث عنه. وكلما مرت سيارة نقل تحمل عمال، كانت الحشود تلقي عليهم التحية بصرخات حماسية. متطوعون اخرون جاءوا بماء وطعام. وفي مكان البرجين الشامخين، صارت حفرة سوداء منبعث منها دخان. هذا يشبه الكابوس ، قال جاسون. وسريعا ما بدأ قصف افغانستان. كانت الصواريخ تمطر علي الجبال التي يختبيء فيها حفنة من الارهابيين الذين لا يريد احد مواجهتهم وجها لوجه، فامتلأ العالم ضجيجا. في اثناء ذلك، دخل الشتاء وبدأ الموت من البرد يصيب الأطفال والنساء في حقول اللاجئين، وهي اضرار جانبية. في هذا الوقت أصيب الناس في الولايات المتحدة بالبارانويا، أصبحوا يفتحون البريد بالقفازات والأقنعة فربما كان هناك فيروس الجدري او الجمرة الخبيثة، او اسلحة دمار شامل. ولأن العدوي قد اصابتني من الآخرين، خرجت للحصول علي سايبر، وهو مضاد حيوي شديد الفعالية يستطيع ان ينقذ أحفادي في حالة الحرب البيولوجية، لكن نيكو قال لي إن اعطينا هذا القرص للأطفال من الاعراض الاولي للبرد، فلن يكون فعالا لو جاء مرضا حقيقيا. كان مثل قتل الذباب بطلقة مدفع. إهدئي يا أمي، لا يمكن ان نتوخي الوقاية في كل شيء ، قال لي. حينها تذكرتك، باولا، تذكرت الثورة العسكرية بتشيلي وتذكرت لحظات عجز اخري في حياتي. ليس لي سيطرة علي الأحداث الأساسية، تلك التي تحددها سنة الحياة، لذلك فمن الأفضل ان استرخي. إن التاريخ الجماعي جعلني انسي الدرس القاسي خلال عدة اسابيع، لكن تعلق نيكو أعادني إلي الواقع.

ابراهيم أصلان

العجوز والصرافة الشابة الإثنين 21 مايو الاهرام المصرية إبراهيم أصلان
الكاتب‏(‏ خوان خوسيه مياس‏)‏ أحد أبرز الكتاب الأسبان المعاصرين‏.‏ له مجموعة من الروايات والقصص القصيرة التي ابتدع لها شكلا يراوح بين القصة والمقالة‏,‏ وهو عندما بدأت الحرب الاسرائيلية علي لبنان كتب مقالا يختزل الحرب كلها في شخصية مانيكان كانت ترتدي فستان عرسها عندما قطعت إحدي القنابل رأسها وفصلتها عن جسمها‏,‏ وراح يقول إن هذه المانيكان التي كانت تهرب‏,‏ قبل المعركة من شارع إلي آخر‏:‏ لم تعد بحاجة إلي وجه لكي يعبر عن مدي الرعب الذي ينتابه‏,‏ فبالرغم من أنه وجه بلا عينين إلا أننا نستطيع أن نري الخوف في حدقتين‏,‏ وبالرغم من أنه بلا فم‏,‏ فإنه يحمل إنذارا مرسوما فوق شفتين‏,‏ واليدان المقطوعتان تطيران أمامه مثل عصفورين مذعورين من الصراخ الخارج من حنجرة ذبيحة‏..‏ هذا الكاتب‏,‏ صدرت له مؤخرا واحدة من أحدث رواياته بعنوان‏(‏ لاورا وخوليو‏)‏ نقلها إلي العربية أحمد عبداللطيف‏,‏ وصدرت عن قطاع الثقافة بمؤسسة أخبار اليوم‏,‏ وهي رواية شديدة الغني والتكثيف وتقوم بشكل أساسي‏,‏ ربما‏,‏ علي الثالوث الشائع‏:‏ الزوج والزوجة والصديق وهي تفعل ذلك علي نحو غير مطروق‏,‏ والزوج‏(‏ خوليو‏)‏ يعمل مهندسا للديكور وعلي هذا فهو مكلف بإعداد ديكور فيلم يتم إعداده داخل نص الرواية‏,‏ هذا الفيلم‏,‏ وليس الرواية‏,‏ وهو ما أريد أن أحدثك عنه الآن‏.‏ الفيلم يتناول علاقة تنشأ بين صرافة شابة تعمل في سوبر ماركت وبين سيدة عجوز لها جسد كالعصفور‏.‏ إنها تشتري كل يوم رغيف خبز وعلبتي زبادي‏,‏ وساعة الدفع كانت تختار أن تقف في الصف الذي يؤدي لهذه الصرافة الشابة‏.‏ وسرعان ما نشأت بينهما حالة من الود والصداقة الصامتة‏,‏ وذات يوم‏,‏ وبعد أن وضعت العجوز ما اشترته في حقيبتها‏,‏ سلمت للشابة مظروفا ما إن فتحته حتي وجدت به مفاتيح بيت العجوز‏,‏ كما وجدت ورقة كتبت فيها تقول‏,‏ فضلا عن عنوان بيتها القريب‏:‏ إذا لم آت ذات يوم لشراء احتياجاتي فالسبب سيكون وفاتي‏,‏ وفي هذا اليوم أدخلي بيتي‏,‏ خذي كل ما يعجبك كذكري‏,‏ وبعد ذلك بلغي الشرطة ليدفنوني كما ينبغي‏,‏ قبل أن يتعفن جسدي‏.‏ ومرت الأيام والعجوز تظهر في موعدها‏.‏ لقد توطدت علاقتهما‏.‏ وبينما الصرافة الشابة تضع المشتريات علي جهاز كشف السعر‏,‏ كانا يتحدثان عن الحياة والصحة والزمن‏.‏ وكانت العجوز تشتري كل يوم أقل من سابقه‏,‏ كأن صحتها تسوء مثلا أو احتياجاتها تقل‏,‏ من دون أن تشيرا أبدا إلي الاتفاق الذي تم بينهما‏.‏ أخيرا‏,‏ اختفت العجوز‏.‏ وأنهت الصرافة الشابة ورديتها الأولي والثانية وأغلق السوبر ماركت أبوابه والعجوز مازالت مختفية‏.‏ حينئذ توجهت إلي منزلها القريب‏,‏ ودقت الجرس عدة مرت من دون جدوي‏,‏ حينئذ فتحت الباب بالمفتاح الذي تحمله‏,‏ ودخلت‏.‏كانت العجوز ميتة فوق كنبة الصالون‏.‏ وكان التليفزيون مشتعلا‏.‏ بعد لحظات الحيرة الأولي تجولت في الشقة وقلبت الأدراج حتي عثرت داخل أحد الدواليب علي حافظة كبيرة من الجلد ممتلئة بالمال‏,‏ لقد كان المبلغ أكبر مما تستطيع أن تتخيل‏.‏ وعندما حملت الحافظة تحت إبطها وهمت بالخروج خيل إليها أن العجوز تتنفس‏,‏ وعندما لمست كتفها برعب‏,‏ عادت العجوز لسكونها‏,‏ حينئذ خرجت بالمال‏,‏ لكنها لم تبلغ الشرطة‏.‏ سيبلغها أحد الجيران عندما تفوح الرائحة في السلم‏.‏ هكذا فكرت‏.‏ لقد انتصر الجشع والحاجة علي ما هو إنساني‏,‏ حتي لو لم تكن العجوز قد ماتت فهي علي وشك ملاقاة أجلها‏,‏ بالإضافة إلي ذلك هي في حال من السكينة ولا تعاني‏.‏ خلال الأيام التالية كانت اشترت شقة هائلة‏,‏ بينما راحت تعاني من صراع بين تأنيب ضميرها ومتعتها بالمال‏.‏ أسبوع وراء آخر‏.‏ فجأة رأت العجوز تدفع عربتها في السوبر ماركت‏,‏ تشتري ما اعتادت شراءه من أكل يشبه أكل العصافير‏.‏ وهي‏,‏ بعدما فعلت‏,‏ اتجهت إلي صف آخر‏,‏ غير الصف الذي يؤدي بها الي الصرافة الشابة‏.‏

الثلاثاء، يونيو 10، 2008

خوان مياس

الروائي الإسباني الشهير خوان مياس يكتب :
الطبخة الأمريكية في العراق فاسدة!
ترجمة: أحمد عبداللطيف
-->لو اطلع أهل العراق علي تعليقات الغرب حول هزيمة بوش في الإنتخابات الأمريكية الأخيرة ، لشعروا بقشعريرة تسري باجسادهم العاجزة . فرؤساء التحرير المعتدلون ، في هذه البقعة من الارض ، يؤكدون بنواياهم الحسنة ان إنتصار الديمقراطيين يشكل نقدا للأخطاء التي إرتكبت في العراق. أكرر الأخطاء التي ارتكبت في العراق. وان التشكيل الجديد سيفرض بالطبع تغيير هذه السياسة . هذه السياسة التي رضي بها الديمقراطيون من قبل ، تستفز الأن أخلاقياتهم ! فالوطنية أثناء الغزو كانت تعني التصفيق لبوش .أكد رؤساء التحرير ان الأمريكيين بانتخابهم هذا عبروا عن مدي حنقهم . نعم حنقهم من الاخطاء المرتكبة في هذه الأرض البعيدة!تلك الأخطاء أو الزلل التي تترجم بقتل عشرات الالاف من المدنيين من النساء والاطفال والمشاه العابرين . تترجم بعشرات الالاف من المشوهين الذين فقدوا سيقانهم أو أيديهم أو اعينهم أو أذرعهم أو أذانهم. بهذا العدد الذي لا حصر له من النازحين من اراضيهم ، و بالأقتصاد الذي تدمر كلية ، و بالبلد الذي صار رمادا ، وبالمتاحف التي نهبت ، والمساجد التي اقتحمت ، والمكتبات التي قصفت ، والمراكز التي أنشئت للتعذيب ، والسجون السرية ، و الإختطافات التي احلت ... و لتتبيل الطبخة تحول العراق إلي مسرح مفضل لكل المنظمات الإرهابية من كل انحاء العالم . و تقولون إنها أخطاء ؟! وبمناسبة الأخطاء الفنية ، نتذكر اغتيال الجيش الاسرائيلي منذ عدة اسابيع لسبعة عشر مدنيا فلسطينيا ، جميعهم من الاطفال الصغار و النساء. وسمعت احد ضحايا الخطأ يقول : قام ابن عمي بجمع أجزاء جسد ابني في كيس بلاستيك .تخيلت حينئذ الكيس البلاستيك الشفاف الذي يستعمله الاوربيون ليضعوا فيه الكولونيا و مزيلات العرق كاجراء امني قبل ان يصعدواالطائرات ! . داخل الكيس البلاستيك الفلسطيني كانت توجد اشياء اخري ، اسنان ،اجزاء من جمجمة ، وربما جزء من الكبد ،وجزء اخر من الامعاء ...كل هذا كان خطأ فنيا ! ، كما قالت الحكومة الاسرائيلية معتذرة .لقد اكد اثنار يوم غزو العراق ان فوائد هذا الغزو ستعم المنطقة باسرها، وانه سيقضي علي الصراع الفلسطيني الاسرائيلي . لكن الحقيقة ان الغزو لم يقض علي شيء ، فايدي الاغتيال تطول الفلسطينيين مع سبق الاصرارو الترصد .هذا الاصرار الذي يمتد علي وجه الخصوص للنساء ثم للناس اجمعين .وبينما يحدث هذا في غزة ، نجد اثنار يتنزه في العالم متعاجبا بشعره ، ويبصق من فمه كلمات بلهاء ، حماقات .لقد تحول شعر اثنار من الشعر الممشط علي الطريقة الرجعية ، الي الشعر الاشعث الليبرالي الجديد . و كلما مرر اصابعه الخمسه بشعره ، كلما تفجر جسد خمسة مدنيين عراقيين ( او فلسطينيين )الي اجزاء صغيرة . وكلها أخطاء !.إن نتائج الانتخابات الامريكية ، طبقا للمحللين ، ستغير وجهة النظر في القضية العراقية .فالحديث يدور حول العراق كما لو كان طبخة لم تخرج شهية .لكنهم حتي الان لم يتفقوا علي سبب فساد الطبخة ، هل ينقصها ملح ام فلفل اسود ؟ فبوش يري انها ناقصة سوي ! فربما قصف اقل مما يجب ، و ربما عذب بيد مرتبكة ،و ربما كانت السجون السرية قليلة ، وكذلك حوادث الاختطاف و الشك بالابر و البانيوهات الممتلئة بالبول و التي كان يضع فيها رءوس كل هؤلاء الكفرة ، طبقا لفهمهم .اي عنصرية اشنع من هذا الذي يعتقد ان موت الفرد الاسود ارحم من موت الفرد الابيض ؟!فلو ارتكب المحللون السياسيون التقدميون و رؤساء التحرير اللامعونو المؤرخون الحاذقون هذا النوع من العنصرية ، فنحن لا نريد تعريض موقف هؤلاء الاشخاص المظلومين للخطر بدون ان نبدي رأيا سديدا .عادة ما يتطرق الي اذاننا كلمات مثل خطأ فني ، مشكلة ، زلة... فكل ابن ادم خطاء ، نخطيء عندما نغزو ، عندما نغتال ، عندما نعذب ونخطف وننتهك الاعراض.نخطيء ، نعم ، لأننا بشر . لكن الخطأ هنا فادح ،القضاء علي حياة الضعفاء ، و ترك من لا يساوون قرشين ! إذن ، فأنا من هنا اقول للمحللين المعتدلين ، ولرؤساء التحرير الارقاء ، وللمؤرخين الموضوعيين ، عليكم اللعنة ! فلا يمكن ابدا أن ننعت القتل بالخطأ الفني ، أيها الرجال . إلي هؤلاء الذين يتساءلون عن كيفية إنسحاب الجنود الأمريكان من العراق في هذا الوضع ، اقول لكم الإجابة الوحيدة ببساطة :انسحبوا واحدا وراء الاخر ، وبايادي مرفوعة ... أتفقنا !!!!!!!!!!
أخبار الأدب

كارلوس ثافون

5/31/2006 شرق وغرب تركيبة سحرية من ماركيز وإيكو وبورخيس لتصبح أكثر الكتب انتشارا في إسبانيا: ظل الريح ...مقبرة الكتب المنسية
أحمد عبد اللطيف
-->لم يكن احد يتوقع أن يحقق كارلوس رويث ثافون ( برشلونة 1962 ) نجاحا في عالم الرواية يفوق نجاحه في كتابة أدب الأطفال ، لكن حدثت المفاجأة ، وصار ثافون في غمضة عين واحدا من أكثر الكجتاب مبيعا في العالم ، بل و تفوق في ذلك علي روائيين ظلوا دائما في الصدارة أمثال ساراماجو و ماركيز و يوسا ، وأعلنت صفحات النقد في الصحف العالمية ميلاد كاتب استثنائي بدأ في سحب السجادة من تحت أقدام راسخة لكتاب كبار ، لكن هذا لا يعني خطف الاضواء منهم ، بل منافستهم عليها ، ووضع بصمته الروائية بجانبهم ، كما يعني نجاح أدب الشباب في اسبانيا . تحقق هذا النجاح بفضل روايته الشهيرة ظل الريح التي ترجمت لأربعين لغة وباعت 8 ملايين نسخة حتي الآن ، وستلحق بها روايته الجديدة لعبة الملاك . ظل الريح ظاهرة أدبية عالمية ، يطرق فيها الكاتب عالما غريبا لم يطرق من قبل . تبدأ الرواية عند فجر سنة 1945 ، عندما اصطحب الأب ابنه البطل ، إلي مكان غامض ومختبيء في منطقة العاصمة القديمة ، هذا المكان هو مقبرة الكتب المنسية ، وهناك يجد الطفل كتابا ملعونا يغير فيما بعد قبلة حياته ويدخله في متاهة من المؤامرات و الأسرار المدفونة في روح المدينة الغامضة . عالم الرواية يشبه عوالم ألف ليلة و ليلة ، لغز أدبي يدور في برشلونة النصف الأول من القرن الماضي ، من اوله إلي نهاية الحرب الأهلية الاسبانية . وتعتمد الرواية بشكل كبير علي تقنية القصة اللغز ، و الرواية التاريخية ، وكوميديا العادات ، لكنها أيضا مأساة حب تاريخية يلاحظ صداها عبر الزمن ، يضفرها المؤلف ببراعة لتصير لغزا ينتهي مع الصفحة الأخيرة .قالت عنها جريدة صنداي تايمز هي رواية تتضافر فيها الحبكة المبهرة مع الكتابة السامية . وقالت عنها لي فيجارو هي كتاب العام . رواية لا يمكن مقاومتها . ، وقالت نيويورك تايمز عن ثافون : هو تركيبة سحرية من ماركيز و أومبيرتو ايكو و بورخيس . أما الجرائد الاسبانية فأعلنت مولد ظاهرة أدبية شعبية ، وأكدت عدم القدرة علي النوم قبل الانتهاء منها . ولتكتمل شهرتها حازت علي العديد من الجوائز في اسبانيا و فرنسا و أمريكا وانجلترا و كندا و بلجيكا .

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...