السبت، ديسمبر 31، 2011


أحمد عبد اللطيف
عالم المندل

مقطع من رواية، تصدر عن دار "العين" في القاهرة      


غلاف الرواية - أحمد عبد اللطيف


رأيت في المنام أن لي عضواً ذكرياً، فانتفضتُ من حلمي صارخة وأهلوّس بكلمات وعبارات لا أذكرها وربما لم يسمعها أحد. هي المرة الأولى التي أرى فيها حلماً شبيهاً رغم أني أحلم وأتذكر مناماتي بشكل شبه مستمر. كنتُ عارية تماماً أمام مرآتي أتأمل وجهي بكثير من التفحص بحثاً عن بثور لم أعثر عليها وعن هالات سوداء تقتل بريق عينيّ على الدوام فتمنحني سنوات عمر لم أصل إليها بعد. حينها كانت عيناي تقولان شيئاً لم ألتقطه في حلمي رغم تركيزي فيهما أكثر من المعتاد ومررت يدي اليمنى فوق حاجبيّ وقررتُ أنهما في حاجة إلى تزجيج وخطر ببالي وقتها أن أنتف شعر وجهي لأول مرة في حياتي ولأواظب على ذلك دوماً إن منحني شيئاً من الجمال أما أنفي فليس له حل سوى عملية تجميل لن أخضع لها أبداً مهما كانت الظروف فلا ثقة لي في الأطباء ولو كنت أتمتع بقليل من الثقة فيهم لأجريت عملية ضرورية في ظهري. قُلتُ ذلك وأنا أتحسس أنفي بيد واليد الأخرى تتجول بجسدي وتقبض على نهدَي وتمر بخصري متجهةً نحو ما بين فخذيّ فأجد شيئاً صلباً لا يجب أن يكون هناك فأنا امرأة ودوماً كنتُ امرأة فأتردد قليلاً قبل أن أنظر إليه وأفضّل بعد ثوان أن أراه أولاً في المرآة فربما إن قالت الصدق فاحتمالية الكذب كبيرة وإن قالت الكذب فلا داعي للانشغال؟ رأيت في المرآة عضواً ذكرياً منتصباً بين يدي فنظرتُ إليه في الحقيقة مصدومة ومشدوهة ومذهولة ومصعوقة وأطلقت صرخة مستيقظةً من نومي مرددة عبارات أغلب الظن لا معنى لها.

حدث كل ذلك أمام مرآة الحمام التي عادة ما أستخدمها لأتعرف بنفسي على عيوب جسمي فأحاول مداراتها قدر الإمكان بينما كانت الأصوات من الخارج تأتيني متقاطعة، أصوات نساء عالية وصاخبة لا يتوقفن لحظة عن الكلام كما لو كن في مبارزة بالألسن (أكبر آفات النساء وأنا منهن اعتبار الصمت نقيصة) كان يعلو فوق صوتهن بالإضافة لصوت الكاسيت إطلاق زغرودة كل دقيقة تقريباً تعلن عن مجيء امرأة جديدة تنضم إلى الجلسة بعد أن تبارك وتقبّل الجالسات، لم يكن كل ذلك يهمني في شيء (أنا أكذب، كان يهمني بالطبع وبشكل لا يعرفه إلا من أقبلت على الثالثة الثلاثين بلا زواج بلا خطبة بلا متوددين في وسط مدينة ليس لها سوى عينان تنظران ولسان كما السوط)  كل ذلك كان يبهجني، نعم يعطيني شعوراً بالانتصار وبالسخرية من تلك النسوة اللاتي جئن الآن ليباركن وبالأمس كانت كلماتهن تقطعني كما السكين وكل ذلك كان يتزامن مع وقوفي أمام مرآتي دون تناقض. كثير من العوالم كانت تتشكّل في ذهني وأنا نائمة ومع كل زغرودة كنت أتخيل المرأة القادمة، ملبسها ومشيتها ونظرتها وطريقة نطقها بكلمة مبروك وجلستها والبدء بامتداح أخلاقي والتباري في رفع صوتها لأسمعها دون أن تعرف أنني في الحمّام وكنتُ أبتسم ساخرة وأنا مشغولة في أشيائي الخاصة. وفجأة انقطعت جميع الأصوات واختفى الضجيج ليحل الصمت محله وكان صمتاً يشبه المقابر غير المسكونة في ليلة شتوية كثيرة الرياح لذا كان صمتاً مليئاً بالشوائب والصفير. بعدها سادت ظلمة أو ربما أصابني العمى إلا على رؤية قضيب يطل من بين يدي وأنا عاجزة تماماً عن التخلي عنه، عن رميه أو عن تحسسه، فصرختُ بكل قوتي دون أن يسمعني أحد وكان لون الحمّام أبيض مع أنه في الواقع بني فاتح ويتخلل بلاطاته بلاط بمبي والحوض يصل حتى خصري بالكاد على عكس الواقع حيث يتخطاه ليقف ما بين البطن والصدر تقريباً أما المرآة فكانت أكبر حجماً بشكل ملحوظ وأنا؟ كيف كنتُ؟ أظنني طويلة وبيضاء لهذا انتبهتُ بشدة لهالات عينيّ السوداء وللشعر المتناثر في بشرتي لكن حركاتي كانت بطيئة أو أن الزمن داخل الحلم كان يختلف مقياسه عن الزمن الواقعي فيدي كانت تستمر مثلاً فوق حاجبيّ تتحسسهما لعدة دقائق وتفعل  نفس الشيء مع أنفي بينما كانت عيناي تدققان في بقية وجهي زمناً مبالغاً فيه لدرجة أنني شعرتُ داخل الحلم أنني ربما أقضي ليلة زفافي أمام المرآة. سمعتهم ذات مرة يقولون إن الزمن في الحلم مهما طال ليس إلا دقائق معدودات. لا أؤمن بكل ما يقال فلو نقلنا الحلم إلى الواقع لاستغرق ساعات. الشيء الوحيد الذي كان يحدث في الحلم مطابقاً للواقع هو ما كان يجري خارج الحمّام أقصد دخول الزائرات أو المدعوات فما بين تحسس وجهي بأصابعي وإتخاذي قرار نتف الشعر سمعتُ أكثر من عشرين زغرودة وكان الضجيج يتضاعف بشكل ربما يثير الاضطراب (حتى لا أكذب مرة أخرى وأقول الغضب) يمكنني أن أقول أيضاً إن الزمن توقف بمجرد لمسي لعضوي الذكري ولم يتحرّك إلا مع صرختي التي اصطحبتْ يقظتي والتي لم يسمعها أحد وتبعتها عبارات لا أتذكرها فجلستُ على سريري واضعةً وجهي بين كفيّ أراجع تفاصيل الحلم بقلب مقبوض لا لأنه أكثر الكوابيس التي طوّقتْ رقبتي بحبل حريري بل لأنني بكل بساطة أعرف تفسيره عن يقين فكل الكوابيس التي غزت مناماتي من قبل كانت لا تخرج عن كونها قطة سوداء أو ثعبان أو شخص ما يطاردني بوجه مخيف وحكايات أمي وأنا صغيرة عن أكلة لحوم البشر التي كانت تتجسد في مناماتي لكن هذا الحلم ليس كابوساً بل علامة من العلامات التي أؤمن بها كما أن كوابيسي في نهاية الأمر يمكن عدها على أصابع اليدين بينما أحلامي تلك التي يمكن تفسيرها والتي تتضمن علامات لا يمكن تجاهلها كانت كثيرة حد الغزارة لدرجة كنت معها أحيا حياة كاملة قبل أن تتحقق فالعضو الذكرى في حالتي هذه معناه أنني لن أنجب ولداً وما سيحدث بكل بساطة أن لقب عانس الذي أحمله على كاهلي منذ سنوات سيصير أم البنات وربما بعد سنوات قليلة يتوقف عددها على مدى تسامح زوجي وفهمه لطبيعة الحياة سأكون المطلقة. حينها انتبهتُ لضجيج الصالة الذي يقتحم غرفتي بقسوة وعرفتُ لماذا لم يسمع أحد صرخاتي المتتالية وعباراتي التي لا أتذكّر منها شيئاً، صوت الكاسيت بأغانيه الرديئة التي صُنعت فقط من أجل الرقص وثرثرة النسوة اللاتي يرسمن البسمة على شفاههن بينما يحتفظن بالحقد داخل صدورهن والزغاريد التي تخرج من أفواه جافة كانت بالأمس تجرح إنسانيتي وفي الغد ستواصل عملها بلا رحمة كل ذلك لم يكن من عناصر الحلم إذن لذا كان يطابق زمنه الواقعي، واقع يقتحم خصوصية منامي فيضعني في حيرة من أمري فيتسرّب الصداع إلى رأسي وبينما أرُجَّه لتتساقط أفكاري تقع عيناي على ساعة الحائط: السابعة وخمس دقائق. فألعن نوم المغربية الذي إن طال أو قصر يتركني بصداع مزمن (صداع، ضجيج أغاني هابطة، نسوة ثرثارات، مَنْ فرض عليّ هذه الحياة؟) هاجمني وسواس لم أستطع مقاومة غوايته فرفعتُ عني غطائي برعب ورجفة وبينما أدخل يدي من تحت البنطلون ببطء بقلب يقفز من فمي من فرط نبضاته مخافة أن أجد عضواً ذكرياً دخلتْ أمي فجأة وضبطتني في هذا الوضع  فصفقتْ الباب سريعاً وأنا نزعتُ يدي من مخبئها بسرعة أكبر مثل لص فاقتربتْ مني وأنا أرتجف وقالت عبارات كثيرة وكلمات لا حصر لها لا يخرج معناها عن شكر الله أنني وجدتُ من يسترني قبل أن أتسبب لعائلتي الكريمة في فضيحة وكيف وصل بي الحال إلى ممارسة عادة سرية بغيضة وأنا من كانوا يثقون في قدسيتي ويأتون في زيارتي لتفسير أحلامهم. هي لم تتوقف عن الحديث بينما أنا أردد عبارتي الوحيدة كأنها تعويذة أطرد بها الأرواح الشريرة التي حلت بجسدها: رأيت في المنام أن لي عضواً ذكرياً وصرختُ صرخات لم يسمعها أحد ونطقتُ بعبارات لا أتذكّرها.


روائي من مصر



الخميس، نوفمبر 03، 2011

فانتازيا الحواس المرجأة... مقال للمبدع طارق إمام عن رواية"صانع المفاتيح"


'صانع المفاتيح' لأحمد عبد اللطيف: فانتازيا الحواس المُرجأة
طارق إمام
2011-11-02


 
ثمة روايات تنطلق من سؤال افتراضي، منبعه المخيلة المنفلتة، سؤال يستشرف المستحيل كإمكانية، ويجعل من الاحتمالات متنا من الوقائع، وهو السؤال الذي يفتح على الفور أفقا رحبا للتخييل ويحيل إلى فكرة مفارقة.
في 'صانع المفاتيح'، رواية المصري أحمد عبد اللطيف، دار العين 2011، يبدو هذا السؤال ضربة البداية، قبل أن يتعمق وتتمدد ظلاله ليتغلغل بقوة طوال النص، ليصير محركه وجوهره.
ومبدئيا، فنحن أمام رواية تعلن انحيازا واضحا للخيال، تخاصم قوانين نص المحاكاة الواقعي، وتنقض الرؤية التي ترى في الفن الروائي محض 'انعكاس أمين للواقع'. ولا يتبدى ذلك فقط في الجذر الفانتازي الصلب الذي تستند إليه 'صانع المفاتيح' ويمثل دعامتها الرئيسية كنص مكتوب، وبالتالي فيما يخص آليات قراءتها.. لكن في عدد من الانزياحات عن طرائق السرد التقليدي التي تحضر بقوة في هذا النص. ثمة نقض للزمن التعاقبي الكرونولوجي في تحقق الأحداث وفق تراتبها الزمني الطبيعي، مقابل انحياز ـ دال ـ للتلاعب بالزمن السردي، الحافل بالقفزات، وبالخلخلة الزمنية. استرجاعات عديدة واستباقات حاضرة هنا ستعمل بمعولها على إقلاق البنية التي كان يمكن أن تكون متماسكة منسجمة في تواترها الهادئ. يتعدد الرواة أيضا وتتنوع أنماط حضورهم، من خلال راويين أساسيين يتبادلان المواقع، أحدهما راو عليم يكاد يكون صوتا للسان الجمعي، والثاني هو 'صانع المفاتيح' نفسه الذي يلتقط خيط السرد في عدة مواضع، مقدما صوته ككتابة، عبر تدوينه ليومياته الكاشفة.
'ماذا لو أمكن صناعة مفتاح يغلق الحاسة؟'، السؤال في هذه الحالة يفتح أفقا متسعا للاحتمالات، وتصير الرواية كلها متجهة نحو الإجابات الممكنة لهذا السؤال، ليس ذلك فحسب، بل إنها ستدعم بكل السبل معقولية طرحها لتُحكِم الإيهام.
ولأن السؤال غرائبي، سيكون من العبث الحصول على إجابات أقل غرائبية.. فكيف يجيب المتموضع على المفارق؟ كيف يجيب الواقع على سؤال لا ينتمي للواقع؟.. نحن إذن، منذ اللحظة الأولى، أمام نص غير واقعي، بمعنى أنه غير قابل للحدوث بالمعنى الحرفي، لكن ذلك لا يعني أنه منبت عن الواقع أو منفصل عنه، ذلك أن 'صانع المفاتيح' في مجملها تبدو كما لو كانت قادمة من عالم الأمثولة الرمزية القادرة على تجاوز شروطها الخاصة بحيث تصير دالة في سياقات مفارقة لها زمنيا ومكانيا، وهي بذلك تغدو ذات صبغة 'كونية'، بحيث لا تقتصر على سياق بعينه يمثل شرطا لتحقق معناها.
***
الرواية، في ظني، تنطلق من طرح خاص لرؤية بطلها، وراويها في بعض المواضع 'صانع المفاتيح'، للعلامات التي يحيا في القلب منها. إنه يحمل كفاءة تجعله قادرا على قراءة واقعه الخاص، واقعه الفني، من خلال علاماته المعطاة، لإعادة صياغتها. وهي مهمة صعبة بالطبع، ذلك أن العلامة السيميوطيقية لا تتحقق بإرادة فردية، ولكنها نتاج الثقافة، ' والفرد لا يملك القدرة على إبداع علامات سيميوطيقية ولكنه قادر على شحن هذه العلامات بدلالات خاصة به في صيغ الخطاب المختلفة' حسب سيزا قاسم.
المفتاح، مبدئيا، علامة سيميوطيقية تحيل إلى فضاءين دلاليين متشابكين ومتناقضين في الوقت ذاته: الفتح والإغلاق، وهما الفضاءان اللذان تتوالد منهما فضاءات شتى.. الحرية والسجن، الداخل والخارج، الوحدة والاندماج.. والمفتاح أيضا هو 'التفسير'، في جانبه غير المادي، فلكل نص مفاتيحه، ولكل شخص كذلك مفاتيح شخصيته.
صانع المفاتيح إذن ليس مجرد صاحب مهنة وفق هذا التأويل، لكنه إله بشكل ما.. ولنلحظ أن 'الصانع' أحد أسماء الله في الثقافة الإسلامية، كما يرتبط اللقب بالإله في أكثر من ثقافة..لذلك، ليس من الغريب، أن يتمكن هذا الإله من توسيع رقعة موهبته.. بحيث يصير قادرا ليس فقط على صياغة مفاتيح للأبواب، لكن أيضا على اختراع مفاتيح تغلق الحواس وتعيد فتحها.
هذا المطمح عند صانع المفاتيح هو بالأساس تفكيك جذري لمنظومته الثقافية عبر إعادة شحن علامة رئيسية فيها بحيث تكتسب وظيفة جديدة. وهنا يبرز سؤال، أي 'فرد' يملك هذه القدرة 'الثقافية الجمعية'، إن لم يكن هذا الفرد، في تأويل رمزي، أبعد من حدوده المتعارف عليها كفرد؟ الإجابة تأتي من داخل الرواية، عبر الصورة الفنية التي يقدم بها صانع المفاتيح.

البطل المفارق
صانع المفاتيح بطل مفارق، لا تخلو حياته من معجزات، وكذلك هو قادر على صنع ما يمكن أن ينتمي للخوارق.
يتمتع صانع المفاتيح بعدد من علامات النبوة بالفعل، ودلائلها.. بدءا من ملابسات مولده الأسطورية، مرورا بمناطق بعينها في سيرته تحمل تناصات واضحة مع اكثر من نبي.
يحفل التأسيس الفني لمولد 'صانع المفاتيح' بإحالة واضحة لمولد البطل الشعبي، الذي سيصير مُخلِّصا للجماعة في قادم أيامها، غير أنه هنا بطل تراجيدي أيضا إذ أنه محكوم بالهزيمة في النهاية، مقضي عليه بتآمر كل من حوله عليه، وبالعقاب لأنه وقف وحده ضد الجميع.
هو يوسف الذي توقف عن الرضاعة بمفرده قبل أن يتم العام، ووجدوه يتجول في البيت يوم ميلاده الأول بلا سند ودون أن يحبو سوى مرة واحدة.. والذي صادق منذ طفولته المبكرة قطة اعتقدها المحيطون روحا تلبسته وتوحش بعد موتها كأنه فقد روحه.قصة طويلة ملأى بالمعجزات صحبت نشأته ومهدت لسيرة استثنائية تلائم شخصا غير عادي.
وفي مرحلة متقدمة من طفولته، تظهر عرافة ـ تبدو قادمة من الموروث كما تبدو قادمة من الشيكسبيريات ـ يلفت نظرها بمجرد ان تراه، فتتقدم من باب بيته وتنادي أمه، وتخبرها 'سينال هذا الغلام ثراء ومكانة، لكنه سيموت محبوسا'.
ومن المدهش في هذا السياق، صورة الأم. فبالرغم من أن الرواية تقدمها كأم عادية، غير متعلمة في الغالب ولا تحفل بآراء خاصة، إلا أن هذه الأم لا ترتعب من نبوءة العرافة، كما هو متوقع، ولا تفكر في خطابها 'الميتافيزيقي' 'الغيبي' بجدية. الأم تقابل هذا الخطاب باستخفاف، 'شعر بخوف ربما تلاشى مع كلمات أمه المطمئنة بأن العرافات يقلن كثيرا ولا يحدث شيء، فقط يجب أن يقلن دوما حتى يجدن الخبز'.
هل أكون مغاليا في التأويل إن قلت إن الأم، عبر هذا المشهد، تؤسس لمرجعية الابن في تفكيك الثقافة ومساءلة المجتمع الغائب في الخرافة؟.
ثمة ملحوظة أخرى شديدة الأهمية من وجهة نظري، فالابن، الذي لم يكن بعد صانعا للمفاتيح، يبدأ تدوينه انطلاقا من هذا الموقف. كأن الكتابة 'حضور' يرد على 'الغيب'.. الواقع المعاش يرد على النبوءة المفارقة: ' خوفا من تحقيق النصف الثاني من النبوءة، قرر أن يدون من آن لآخر ما سمعه من حكاوي القرية، وأن يذكر أسبابه لصناعة مفاتيح السمع، وأن يسجل حال القرية مع مفتاحها الجلدي، فربما كان في ذلك برهانا على براءته من سوء النية، على الأقل أمام ضميره الخاص'.
على جانب آخر، تظهر 'علامات' نبوة عديدة على صانع المفاتيح، تحيلنا إلى الموروث. صانع المفاتيح 'يناجي الله' من فوق 'جبل' ينعزل إليه كأنه موسى جديد. كذلك يحيل إلى المسيح الذي تجري خيانته من أحد حوارييه ـ هو هنا الصبي الذي عمل عنده ووثق صانع المفاتيح به ومنحه سره، فأفشاه متسببا في كل الكوارث التي ستقع بعد ذلك. الصبي تواطأ مع أعداء سيده ضده، كانه أيضا تدوير لصورة يهوذا. يضاف إلى ذلك اسم 'يوسف'، اسم صانع المفاتيح الذي لم يرد في النص سوى مرة واحدة، والذي لا يخفى على أحد الدلالات المشحون بها، خاصة وأن صانع المفاتيح 'صديق' كيوسف، تتحقق نبوءته للقرية وتصير رؤياه بخرابها واقعا معيشا، وتتحول استشرافاته لمستقبلها إلى رؤى تخترق الحجب.
على المستوى المعرفي، يغوص صانع المفاتيح ' مع ابن عربي في رسائله، التي يستعين بها على رحلته الدائبة بين الصعود للجبل، حيث يتأمل القرية في سكونها، ويتفكر في أمر الخلق وبدايته، ويبحث عن الله بطريقته الخاصة، وبين تدوين بعض حكاوي القرية، التي اضطرته لصنع مفتاح خاص'.
والتماهي مع 'ابن عربي' تحديدا هو انحياز لمنطق صوفي في التعرف على الله، منطق يتسق وطريقة صانع المفاتيح نفسه في التعرف عليه عبر مسالك مختلفة وبتأويلات يمكن أن تعد في نظر الكثيرين زندقة، كأن يربط بين الله والصمم، رغم أن الله هو خالق حاسة السمع، وبالتأكيد لم يخلقها لتحول بين الناس وبينه.. وكأن يرى الله متجليا ' في ذيل قطة'.
ومن منجزات ابن عربي الكبيرة، والتي يتبناها صانع المفاتيح كإيديولوجيا' صياغة نظرة للغة صياغة نهائية تحول الوجود كله إلى نص ماثل أمام الإنسان'.(2)
وتلتفت لغة السرد، بذكاء شديد، لقصة 'صناعة مفتاح السمع'، باعتبارها قصة خلق بشكل ما، فتقدم مراحلها في تناص ملفت مع قصة الخلق التوراتية، عبر افتتاحيات من قبيل:' في اليوم الأول من الشهر الرابع لصناعة المفاتيح'، 'قبل صناعته لمفتاح السمع بخمسة أيام'، كذلك لا يمكن إغفال هذه العبارة المتخمة بالتناص مع قصة الخلق: ' عندما انتهى من صنع المفاتيح التي أرادوها، قرر أن يستريح عدة أيام'.. مع الوضع في الاعتبار أن صناعة مفتاح السمع استغرقت من صانع المفاتيح ' ستة' أشهر بينما استغرق خلق الدنيا ' ستة' أيام.. وغيرها من العبارات التي تؤرخ لصناعة هذا المفتاح وكأنه الدنيا التي يجري تأسيسها.
إنه من جديد البطل المفارق، الذي لم نعد نعثر عليه إلا فيما ندر في النص الروائي الجديد، فضلا عن كونه 'دونكيخوتة' آخر، يحارب طواحين هواء'.
يبدو 'صانع المفاتيح' جماع العديد من أشباهه، يلوح كتناص واسع متعدد المصادر مع كل أسلافه على تعددهم وتشعب مسالكهم.


الكتابي/ الشفهي ـ الصمت/ الكلام
يكتب صانع المفاتيح، في مجتمع شفهي، فأهل القرية' لا يجيدون سوى الكلام، يقضون فيه يومهم وليلتهم، يكررون ما سمعوه مئات المرات بلا ملل، ويسردون حكاوي أخرى مليئة بالقبح كما لو كان طقسا دينيا يجب أن يؤدوه للرب لينالوا رضاه'.
إن سؤالا يلوح هنا، لماذا يتطوع صانع المفاتيح بصناعة مفتاح للسمع بينما يكاد يذوب هلعا عندما يعرف أن صبيه، أو مساعده في الورشة، بصدد صنع مفتاح للبصر؟ ما الفارق بين الحاستين عند صانع المفاتيح؟.. سأطرح تأويلي الخاص، الذي رأيته مطروحا في الفلسفة الروائية لهذا العمل.
يطمح صانع المفاتيح في أن ينتقل مجتمعه إلى المرحلة الكتابية مغادرا المرحلة الشفاهية.. يطمح في تأسيس مدرسة بدلا من الورشة. الكتابة لن تتحقق إلا بوجود البصر، فالعين تقرأ، والبصر هو الحاسة التي تستقبل المكتوب.. بينما يرحب بتعطيل السمع لأنه تعطيل في الوقت نفسه للزخم الشفاهي الذي لم ير فيه صانع المفاتيح سوى جلبة فارغة.
إنه من جديد الوعي العميق بنسق العلامات الذي يستقرؤه صانع المفاتيح، ويعيد تبعا له قراءة الحواس.
فالكلام نظام من العلامات، دواله هي الأصوات، وفي الكتابة تتحول الأصوات إلى أحرف.. والصمت، الذي تسعى الرواية عبر ساردها لتسييده، هو تعطيل للعلامة.. غير أنه لا يكتفي بذلك، بل يتجاوزه بخلق علامة جديدة عبرالسكون نفسه.
ثمة رؤية عميقة ينطوي عليها الصمت كعلامة لدى صانع المفاتيح، فالصمت هو الفضاء الملائم للكتابة. ولكنه أيضا السياق الذي يعني تحققه الوصول إلى الله: 'خلال الفترة من صنعه لمفتاحه الخاص حتى الانتهاء من آخر مفتاح صنعه لأبناء قريته، وي مدة ستة أشهر تقريبا، وجد صانع المفاتيح الهدوء المناسب والضروري الذي يبغيه،وصفاء الذهن الذي كان يبحث عنه، ليس فقط من أجل معرفة الله بطريقته، وإنما أيضا للتدوين'.
ينسجم ذلك تماما وفلسفة صانع المفاتيح، الذي يؤكد: ' عندما تفقد حاسة السمع أو تغلقها، كما في حالتي، تصبح أكثر تأملا، فتسير أفكارك في طريق مستقيم، وتصل للنهاية في أقل وقت ممكن. يتيح لك الصمم المساحة الكافية للتركيز... الصمم نعمة لا يقدرها سوى من عاش في ضجيج..الضجيج يقطع الأفكار، يمزقها، يفتتها إلى أجزاء صغيرة لا يمكن بعدها إلمامها، فتبدأ من جديد، وربما لا تبدأ، فتموت أفكارك في المهد. لذا، أشعر بسعادة جمة وأنا أسير بالشارع ومنعزل عنه. أطير في عالمي الخاص، وأحلق حول فكرتي عن الله.... لقد رأيت الله في يوم وأنا أصم.... مع الصمم، أيقنت أن الله دوما كان يطل علي ويراني'.
اللعب مع الأمثولة
تنفتح رواية صانع المفاتيح على عالم رمزي، غير أنه عالم لا يستحيل فضه ليحيل للواقع المعاش، واقع المحاكاة، فهو ليس من النوع المستغلق، الذي يحيل إلى ذاته أو يلتفت الى نفسه فقط، بل من السهل إحالته لمرجعيته، أو مجمل مرجعياته، والاجتماعية خاصة.
ويمكن القول إن أهم ما استعارته الرواية من الأمثولة، طريقتها التخييلية في الإحالة إلى الواقع. في الأمثولة، كما في 'صانع المفاتيح'، ثمة مستوى تخييلي، حافل بالتضخيم يحيل لمستوى واقعي، يسهل التعرف عليه، مع حضور 'مغزى' أخلاقي في الغالب، ليس مفتقدا أيضا في الرواية.
منطق الأمثولة، والحكاية الرمزية، حاضر إذن في هذا العمل، وإن تم تقويضه واللعب معه، وبه، بدأب كشكل حكائي متوارث، عبر عدد من الآليات، لعل أهمها التلاعب بالتواتر الزمني الخطي للحكاية وبطبيعة السارد.. ما يجعلنا في الرواية أمام رواية غير تقليدية بل ومشغولة بالتجريب.
ولنحاول مقاربة مغامرة الرواية فيما يخص الزمن السردي. تبدأ الرواية من لحظة متقدمة في حياة صانع المفاتيح، لحظة تحول في حياته. أي أننا ننطلق بشكل ما من لحظة ذروة لا تتفق وقوانين السرد التقليدي. صانع المفاتيح شاخ، يتأمل قريته كذكرى بعيدة، ويمشي أثناء نومه مثلما تخبره زوجته، وهي دلالة مهمة على انفصاله عن الواقع الذي اغترب فيه، فهو يمارس حياته وهو نائم، يعيش داخل أحلام مناماته مثلما يعيش داخل أحلام يقظته التي يتبدى فيها له ماضي القرية الذي اندثر. ليس عبثا في ظني، أن تبدأ الرواية بصانع المفاتيح وهو 'يتذكر'، وكذلك ليس مجانيا أن يكون أول سطر في الرواية ' اختفت من القرية عدة مشاهد كانت مرتبطة بطفولة صانع المفاتيح'. إن النص ينطلق من لحظة الغياب وليس الحضور. الغياب يغدو المحرض على إعادة الحضور، بينما ينقلب السرد في جل الأعمال الكلاسيكية من حضور يحل ليؤدي إلى غياب.
من هذه اللحظة، سيبدأ اللعب الزمني، تحضر تقنية 'الفلاش باك'لاسترجاع ما حدث قبل اللحظة الآنية التي ينطلق منها السرد.. ونظل بعد ذلك في مراوحات زمنية بين الماضي والحاضر.
الخلخلة الثانية إلى جانب الخلخلة الزمنية، تخص طبيعة السارد أو الراوي.
ثمة راو عليم يدير الأحداث ويعلق فيها بل ويتدخل فيها أحيانل معلقا أو محللا أو مفسرا. هذه حقيقة، تتلاءم وطبيعة الأمثولة. لكن هذا الراوي يجري تجريده من سلطته المطلقة عبر أكثر من موضع، عندما يحل صانع المفاتيح ساردا من خلال تدويناته، والتي تحضر متميزة طباعيا عبر خط سميك. مابين الراوي العليم الذي يسرد عن آخرين، وصانع المفاتيح الماثل كـ'أنا' تتحقق تلك المراوحة التي تقوض تماسك وانسجام الصوت الوحيد، عمدا.
صانع المفاتيح، كسارد، لا يلتفت للأحداث بشكل رئيسي، فقد ترك هذه المهمة للسارد الآخر، لكنه يمثل 'الصوت المتأمل'، الذي يعمق اللحظات ويستعرض ظلالها الموحية، ما يجعل نصوصه أقرب للشعر. كذلك يستخدم لغة مشبعة بحس صوفي واضح.
إن استبدال الشفاهة بالكتابة عند صانع المفاتيح، يمثل، حسب تأويلي الخاص، وجها آخر لاستبدال السمع بالصمم، وباستبدال مفاتيح الأبواب بمفاتيح الحواس. الصمم يوقظ الكتابة وكذلك يقرب المرء من الله، من المطلق..بينما يقتل السمع التأمل ويشعل الكلام الشفهي الذي تذروه الريح ولا يمكن أن يكتب له البقاء.
'صانع المفاتيح' تخوض في ظني مغامرة سردية، حافلة باجتراء غير محدود، حيث العالم القابل للقراءة هو العالم القابل للتحريف.
كاتب من مصر

لينك المقال على جريدة القدس العربي

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\02qpt898.htm&arc=data\2011\11\11-02\02qpt898.htm

السبت، يوليو 30، 2011

قصة: جيم ...روبيرتو بولانيو



قصة: جيم

روبيرتو بولانيو

نرجمة: أحمد عبد اللطيف
جيم

     منذ سنوات طويلة كان لي صديق يُسمى جيم ومنذ ذلك الحين لم أر أبداً أمريكياً شمالياً أكثر حزناً منه. رأيت يائسين كثيرين. لكن حزناء، مثل جيم، أبداً. ذات مرة رحل إلى بيرو، في رحلة كان يجب أن تستمر أكثر من ستة أشهر، لكنني بعد فترة قليلة رأيته من جديد. فيما يكمن الشعر يا جيم؟ كان أطفال المكسيك الشحاذين يسألونه. كان جيم يستمع إليهم ناظراً إلى السحب وبعدها يشرع في التقيؤ. اللغة، البلاغة، البحث عن الحقيقة. عيد الغطاس. مثلما تشبه العذراء. في أمريكا الوسطى اعتدوا عليه عدة مرات، وهو ما كان غريباً بالنسبة لرجل من المارينز ومحارب قديم في فيتنام. كفى مشاجرات، كان يقول جيم. أنا الآن شاعر وأبحث عما هو غريب لأقوله بكلمات شائعة وعادية. هل تعتقد أن هناك كلمات شائعة وعادية؟ نعم أنا أعتقد، كان يقول جيم. كانت زوجته شاعرة تشيكية تهدده، كل فترة، بأنها ستهجره. أراني صورة لها. لم تكن جميلة بشكل خاص. كان وجهها يعبر عن معاناة وتحت المعاناة كان الغضب يطل. تخيلتها في شقة سان فرنثيسكو أو في بيت لوس أنجيليس، بنوافذ مغلقة وستائر مفتوحة، جالسة على المائدة، تأكل قطع خبز من رغيف وطبق شوربة خضراء. وحسبما رأيت كان جيم يحب النساء السمراوات، نساء التاريخ السريات، كان يقول ذلك دون أن يشرحه بفضفضة. أنا على العكس كنت أحب البيضاوات. ذات مرة رأيته يتأمل الحاوي بشوارع D.F. رأيته من ظهره ولم أسلم عليه، لكنه كان جيم بكل وضوح. الشعر سيئ الحلق، القميص الأبيض والوسخ، الظهر المحني كما لو يشعر بثقل حقيبته. الرقبة الحمراء، رقبة تستحضر، بطريقة ما، صورة الإعدام غير القانوني في الحقل، حقل بالأبيض والأسود، بلا إعلانات ولا إضاءات محطات البنزين، حقل كما يكون أو كما يجب أن يكون الحقل: بواد بلا أمل في الاستمرار، غرف من الحجارة أو مدرعة بما هربنا منه وينتظر عودتنا. كان جيم يضع يديه في جيبيه. وكان الحاوي يهز شعلته ويضحك بشكل عنيف. وجهه المسوّد كان يقول إن عمره قد يكون الخامسة والثلاثين أو الخامسة عشرة. كان بلا قميص وبجرح رأسي من صرته حتى صدره. في كل فترة محددة كان يملأ فمه بسائل قابل للاشتعال وبعدها يبصق ثعباناً طويلاً من النار. كان الناس يشاهدونه، مقدرين فنه ويواصلون طريقهم، ماعدا جيم، الذي استمر على حافة الرصيف، ساكناً، كما لو أنه ينتظر شيئاً أكثر من الحاوي، علامة عاشرة بعد أن فك شفرة التاسعة الصارمة أو كما لو في الوجه البذيء اكتشف وجه صديق قديم أو وجه أحد قد قتله من قبل. وخلال فترة طويلة نظرت إليه، وكنت حينها في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة وكنت أعتقد أنه أبدي. لو كنت أعرف أنه ليس كذلك لأعطيته ظهري ولابتعدت عن هناك.  بعد فترة تعبت من النظر لظهر جيم ولتجهمات الحاوي. الحقيقة أنني اقتربت وناديت عليه. بدا أن جيم لم يسمعني. عندما التفت لاحظت أن وجهه مبللاً بالعرق. كان يبدو محموماً ويصعب عليه التعرف عليّ: حياني بحركة رأس وبعدها واصل النظر للحاوي. عندما  اقتربت منه رأيته يبكي. أغلب الظن أيضاً أنه كان محموماً. هكذا اكتشفت، بدهشة أقل من الدهشة التي أكتب بها، أن الحاوي كان يعمل من أجله حصرياً، كما لو أن كل المشاهدين الآخرين بناصية D.F هذه غير موجودين. كانت الشعلات، أحياناً، توشك على الانطفاء على بعد أقل من متر منّا. ماذا تريد، قلت له، أن يحرقوك في الشارع؟ كانت مزحة حمقاء، نُطقت بلا تفكير، لكن عرفت فجأة أن هذا بالتحديد ما كان يأمله جيم. مارس الحب، مسحوراً\ مارس الحب، مسحوراً، أعتقد أنني أتذكر أنها عبارة في أغنية كانت موضة هذا العام في بعض البؤر المرحة. وكان يبدو أن جيم يمارس الحب مسحوراً. استحوذ عليه ساحر المكسيك والآن أنظر مباشرة إلى وجه أشباحه. هيا من هنا، قلت له. سألته أيضاً إن كان تناول مخدراً، إن كان يشعر بالتعب. قال لا بإيماءة من رأسه. كان الحاوي ينظر لنا. بعدها، اقترب منا بخدين منتفخين، مثل إيولو، إله الريح. عرفت، في جزء من الثانية، أن ما سيقع علينا ليس بالتحديد ريح. هيا، قلت، وفجأة نزعته من حافة الرصيف الخطيرة. تهنا في الشارع النازل في طريق الاصلاحية، وبعد برهة افترقنا. جيم لم يفتح فمه طوال الوقت. ولم أره مرة أخرى أبداً.



السبت، يونيو 25، 2011

لعبة الإضاءة والظل في قبلات سينمائية



             

     اختار إيريك فوتورينو أن تبتعد روايته "قبلات سينمائية"، المترجَمة حديثاً للعربية بتوقيع إيمان رياح وصادرة عن سلسلة الجوائز بهيئة الكتاب، عن القضايا الهامة المطروحة سلفاً، ليطرح قضيته الخاصة، دون أن يتجنب انعكاس هذه القضية في مرآة تقليدية تضم العاشق والعشيقة والزوج. البطل\الراوي يقرر عقب وفاة أبيه أن يبحث عن أمه المجهولة في الأفلام السينمائية القديمة لأن الأب أخبره في لحظات الاحتضار أنه جاء من قبلة سينمائية. هنا يبدأ الروائي الفرنسي عمله ببداية مرتبكة، متصدراً بعبارة شديدة التعبير عن أرقه لأوليفيه آدم:"المعنى الخفي لحياتي تمثل في الهروب من أب موجود والبحث بلا انتهاء عن أم مفقودة"، حيث تحدّد العبارة مصير البطل المرتبك، في عمله، في عشقه، في علاقاته العابرة، وفي حيرته التي لا تنتهي حتى مع نهاية العمل.

     يختار أيضاً أن يدور عمله بين تفاصيل يومية بسيطة، تنتقل من البيت لمكتب المحاماة ثم إلى السينمات المختلفة، بحثاً عن وجه لم يره من قبل، ويفترض أنها كومبارس ستظهر في لقطة واحدة في فيلم واحد لتختفي بعده للأبد.

      يشيد فوتورينو منذ اللحظات الأولى للعمل أول ثالوث سيتجول معه: الأب- الأم- الابن، وأثناء محاولة لملمة تفاصيله يكوّن ثالوثاً آخر: العاشق- العشيقة- الزوج، ليكون بذلك ضلعاً في ثالوثين أحدهما يسأل عن ماهية الحياة والثاني يسأل عن جدواها. فيلعب في كليهما دور الحائر الذي وجد نفسه فجأة، دون إرادة منه، يبحث عن امرأتين في ذات الوقت: الأم المفقودة، والحبيبة شبه الغائبة، ليتذوق مرارة البحث عن امرأتين في آن واحد.
***
         تبدو الحبكة في ظاهرها مغامرة بوليسية للتوصل إلى الهدف، خطة محكمة تسير طبقاً لبرنامج محدد من أجل الوصول، لكن تتخللها فجأة تجربة عاطفية مكتظة بصور ومشاهد أفلام وحكايات صغيرة. تتأرجح ما بين ذكريات طفولة ومراهقة وبين حاضر ممتليء بفجوات لا تسدها سوى لقاءات غير منتظمة.

    تشغل العشيقة الجزء الأكبر من السرد، وتتسق بشكل مطلق مع فكرة الراوي الذي لا يشاهد سوى الأفلام القديمة. هي المرأة المحتشمة التي يصفونها بأنها كثيرة الملابس، وهي عازفة البيانو الرومانسية التي تنشر جواً من الحب في كل أركان الحياة، وهي أيضاً من يصعب الوصول إليها عندما تغيب، والمريضة التي لا تبوح بحقيقة مرضها. كل ذلك كان تمهيداً للوصول إلى الهدف، الأم. في لحظة ما، وبصدفة محضة، يشاهد أفلاماً احتفظ بها أبوه، المصور السينمائي، ليجد الأم صورة مطابقة للحبيبة، أو هكذا خُيّل إليه. حتى أن استرجاعه لحكاياتها، أمها التي غابت وهي صغيرة، جعلته يظن أنها أخته، وفي ذروة ارتباكه ظنها أمه نفسها. أيستكمل بقصة عشقه في الثالوث الثاني قصة الثالوث الأول؟ أيطرح بذلك أسباباً لاختفاء الأم الأبدي والعثور عليها بعد ذلك في حكاية متناثرة وفيلم سري؟ أيرمز ظهور الأم الأخير وحرقها لبيت زوجيتها لانتهاء قصة عشقه هو بعد أن قرر التوقف عن إدمان مايليس، عشيقته؟ أيكون الأب صورة مناقضة لصورة زوج عشيقته الذي تنازل عن كرامته في سبيل الحب؟ وأخيراً، أيكون العثور على ماهية الحياة سبباً في معرفة عدم جدواها؟

      في نهاية الفصل قبل الأخير يقرر البطل أن يعيد عشيقته إلى أسرتها:"كانت نوافذ منزلها مضيئة. قلت:"إنهما ينتظرانك"، ثم انطلقت السيارة باتجاه نوتردام، إلى الكيلومتر صفر. وفي المرآة العاكسة، كان خيال مايليس قد أصبح صغيراً جداً". وفي الفصل الأخير يقرر، بعد أن عثر على أمه المجنونة التي غابت من جديد، وبعد أن اختار أن تغيب حبيبته للأبد، أن يبقى جالساً للحظة ثم يمشي بخطوات سريعة:"لأني كنت أتعجل أن أعيش".     

***

     تبدو الرواية في مجملها فيلماً سينمائياً مكتمل الأركان، مجموعة من المشاهد المرصوصة بجانب بعضها بعناية، تلعب فيه الإضاءة والظل دور بطل غير معلن، لكنه حاضر بكثافة من بداية العمل حتى نهايته. ليست مسألة مشهدية فقط، بل خبرة حقيقية لكاتب يعرف تفاصيل الفن السابع، حيث يقطع المشهد في الوقت المناسب فيترك القاريء\المشاهد معلقاً، مثاراً، متشوقاً لمعرفة نهايته. هكذا، ورغم أن السرد نفسه لا يتميز بالإدهاش، تتميز الرواية بجاذبيتها الخاصة. لو أضفنا لذلك المعلومات السينمائية التي أوردها المؤلف في عمله، سواء كانت أسماءً لأفلام وأبطال أو تقنيات في التصوير السينمائي(مهنة الأب) لتكونت لدينا حقيقة أن المؤلف يدرك جيداً قواعد هذا الفن.

      أتكون السينما بذلك عاملاً مؤثراً في الرواية الجديدة؟ أيكون التعامل مع الشخصيات من الخارج دون التعمق في خباياها تعبيراً عن ترك مساحة للقاريء ليشارك المؤلف في كتابة روايته؟ وارتباك الشخصيات في تحديد مصائرها، أيكون ملتصقاً بالحياة نفسها وبالعصر الحديث؟

      لعل أكثر ما يلفت الانتباه في رواية فوتورينو هشاشة العلاقات بين الشخصيات: الأب والابن، الأب والأم، الزوج والزوجة، العاشق والعشيقة. فالأب، المصور السينمائي، لا يلتفت لوجه ابنه ليجعل منه بطلاً سينمائياً، ونفس الأب لا يهتم بإطلاع ابنه على حقيقة هويته. وعلاقة الأب مع الأم تبدو حدثاً عابراً، امرأة ضاجعها ذات ليلة ونساها. ورد فعل الزوج أمام زوجته رداً أنثوياً، حتى يبدو كأن ما يربط بينهما ليست علاقة زواج بقدر ما هي صداقة أو رفقة في شقة. حتى أكثر العلاقات حميمية في العمل، يبدو فيها العاشق والعشيقة لا يعرفان سوى ما يعني هذا الجانب، دون أن يصلا لأي عمق داخل الآخر. لا شك أن خللاً ما يحدث فيجعلهم يدورون حول ذواتهم، ولا يرون في الآخر سوى سعادة مؤقتة.

 أخيراً، ف "قبلات سينمائية" لعبة تبادلت فيها البطولة الإضاءة والظل، حتى أن الأبطال المسلط عليهم الضوء يبدون انعكاساً لأبطال آخرين وقفوا في الظل، فكانت الصورة بذلك أكثر اكتمالاً.

السبت، مارس 12، 2011

ما بين استعادة البصيرة والثورة البيضاء




      في رواية "البصيرة"، التي يمكن اعتبارها كجزء ثان من روايته "العمى" يرى ساراماجو أن الشعب قد استرد بصره، أو بصيرته، عندما توجه إلى صناديق الاقتراع ليدلي بأصوات بيضاء، في رسالة واضحة وذكية مضمونها أن أحزاب اليسار واليمين والوسط ما عادت مُشبِعة، وأن أتباعها كفروا بها، وبالتالي، لم يعد أي منها جديراً بالتصويت لأجله. هكذا صوّتوا تصويتاً أبيض ليصفعوا الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة على وجوههم القميئة، التي تحتل على الدوام وسائل الإعلام المرئية والمقروءة.

     ثمة شيء لا يمكن تجاهله يربط تصويت ساراماجو الأبيض بثورة الشباب البيضاء، خيوط ممتدة بدأت من رواية العمى، حيث أصيب الجميع بعمى أبيض اختفت على أثره كل الصور، وامتدت للبصيرة، حيث استحضروا كل ما غاب. هنا، في البصيرة، بدون أي اتفاق مسبق، بدون قائد أو مجموعة، يخرج السكان جميعاً، في وقت واحد تقريباً، ليدلوا بأصواتهم. يقفون في صفوف طويلة، يتحدثون في أشياء عابرة، ودون أن يتفقوا على شيء، يتوقفون عن اختيار كل المرشحين في الانتخابات. هنا تحدث الفوضى المحببة، يحرّك الحجر الملقي المياه الراكدة، فيعيد الساسة جمع شملهم لمواجهة "الشرذمة المنحلة". ولأنهم متعجرفون، ولأن أمراض السلطة أفسدت أجهزتهم الحسية، ولأن الشعب بالنسبة لهم لم يعد سوى مجموعة من الجهلاء، الرعاع، القطيع، واصلوا في عنادهم، ورددوا عبارات احتلت قواميسهم، تصف الشعب المقهور بأنه في حاجة إلى تربية. وبدلاً من البحث عن عيوبهم والاعتراف بأخطائهم، نراهم يؤدبون الشعب على طريقتهم، حيث القمع والتعذيب. يسلط ساراماجو الضوء على الاضطرابات الجارية في الكواليس، ارتجافات رئيس الجمهورية، توحش وزير الداخلية، الاستخفاف بوزير الثقافة. اجتماعات ومجادلات ومناقشات تهدف، بدلاً من الإصلاح والتخلي عن مناصبهم، القضاء على الشعب المتمرد. هنا تبدأ الملهاة، حيث القبض العشوائي على الأفراد، وظهور أجهزة كشف الكذب، والتعذيب، بل وتحريم استخدام كلمة "أبيض". ولأن الحكومة لا تجد زعيماً للتمرد، تقرر أن تخلق زعيماً، وتطلق الإشاعات حول أعداء الخارج الذين يبغون القضاء على هدوء بلدهم وحرمانهم من هذه النعمة العظيمة.

     ثورة 25 يناير، إذن، هي سير غير متعمد فوق خطوط شعب ساراماجو المتخيل، ورد فعل الديكتاتور وحكومته المتعسفة هو وجهة نظر ساراماجو الصائبة في الأنظمة الفاسدة. أي برهان بعد ذلك أقوى وأدل على أن الأدب روح التاريخ؟ وأن الأدب لا يجب أن يحكي وقائع بقدر ما يلتزم بحكي حقائق، وأن الحقائق يمكن الوصول إليها عبر الخيال والرمز.

    حدث أيضاً أن صورة الطغاة، الفاسدين من ذوي السلطة، ثابتة على مر العصور، وفي كل الأماكن، وأن سلوكياتهم وردود أفعالهم الأولى، بل والأخيرة، نسخ مكررة. هم نصف إله، كما يعتقدون، وبالتالي، يعتبرون الخروج عليهم خطيئة لا تغتفر. هكذا، قتلهم لثلاثمائة شاب لا يعني شيئاً، ومحاولات قتلهم للآلاف هي واجبهم المقدس. ما من جديد في أساليب العقاب، السلطة تدافع عن حصونها المزيفة بطلقات النار، وخطبهم تتزين بأعلام الوطن المرفرفة. ما بين الفوضى التي ستحل بعدي، وما قدمته للوطن، والمطالبة بتكاتف الشعب لتخطي الأزمة، تدور الأحاديث الموجهة للشعب، بينما الكواليس تضم حوارات أخرى تدور حول سؤال جوهري: من فعل هذا وكيف يمكن تفاديه. ما خالف التوقعات في ثورتنا البيضاء هو استمرارها للنهاية، ورفض أنصاف الحلول، بالإضافة لرقيها وحرصها على نقائها حتى في أحلك اللحظات. فضلاً عن أنها بلا رأس، لتكون بذلك أفضل دليل على سقوط كل الأحزاب والجماعات الدينية، وهو ما يفتح صفحة جديدة في تاريخ الشعوب، تبدأ سطورها الأولى بقوتهم وإرادتهم.

     وكما حدث في رواية ساراماجو، صارت وسائل الإعلام سلاحاً آخر مصوباً إلى الثوريين، بهدف تثبيط الهمم من ناحية، وكسب مترددين جدد إلى صف الفساد. الفرق هنا، أن وسائل الإعلام في "البصيرة" كانت تتحرك بناء على خيال روائي محترف، بينما في ثورتنا تحركت وفق عقلية عسكرية قديمة ومتحجرة، أضرت بالنظام حينما أرادت تدعيمه.

     وأخيراً، فالشعب الذي انتقده ساراماجو في "العمى" وأيده في "البصيرة" و"ثورة الأرض" بشر يشبهوننا تماماً، ذلك أن الأعمال الإنسانية، المبنية على رؤية متفحصة، يصلح أن تدور في كل العالم. رغم ذلك، تفوقت 25 يناير على كل خيال، وحققت في 18 يوماً نصراً أبيض، يشبه استعادة البصيرة.

                       نشر المقال بمجلة الثقافة الجديدة عدد مارس

السبت، فبراير 26، 2011

جمعة الرحيل وسبت النور






أي سحر هذا الذي تمتلكه الثورات فتجعلنا نعيد تشكيل أنفسنا لنصبح، بين ليلة وضحاها، آخرين.

***

     لم يكن الأمر، ظاهرياً، سوى مواجهة قنابل مسيّلة للدموع ورصاص مطاطي وربما رصاص حي، جري وهروب وعودة لملاقاة موت محتمل أو جرح مستديم. لكن بالداخل، أشياء كانت تتكوّن وأشياء أخرى تذوب، حد أن أكثر البنايات صلابة، تلك المتجذرة بتعصب في أعمق أعماق النفس، كانت تتهدم. مع مرور أيام الثورة وتزايد الهتافات، تصلبتُ،  وفي كل مرة كنت أردد فيها: الشعب..يريد..إسقاط النظام، كنت أشعر، دون أدنى مبالغة، ودون أي بلاغة لتزيين جملتي، أنني أُسقِِط أشياءً أخرى كان يجب أن تسقط منذ زمن، وأدوس فوق مقدسات بالية ما كان لها أن تصير كذلك لولا ضعفي. هناك، في الميدان، عثرتُ على صفة كان يجب أن تصاحب برجي منذ الميلاد، لكنها خالفتني. يقولون إن أبناء برج الحمل محاربون، ما من أحد باع كل قضاياه مثلي لتصير قضيتي الكبرى تثبيت الكاميرا على مشهد النزف الأخير. هناك، كنت أتصور، رغم كل قناعتي بالثورة والنصر، أن خلع مبارك معجزة، في زمن لا تتحقق فيه المعجزات إلا بأيد إنسانية. لكن خلعه صار واجباً، عدم أدائه بات لعنة تطاردني في كل الأمكنة. فلأكن أكثر صدقاً: في لحظة ما، تشكّلت أمام عينيّ صورة الطاغية بصحبة كل هزائمي، فلم أجد سبيلاً إلا إسقاطها.

***
اليد التي تدمي لا يمكن أن تكون اليد التي تضمد
***
       
     في اليوم الذي أعلن فيه الرئيس السابق عن حل الحكومة وتشكيل أخرى جديدة واعداً بالإصلاح، تذكرتُ حبيبة قديمة كان يجب أن ترحل من زمن، لكنها بقت تحت مظلة الندم والتضميد. تلقائياً، وجدتني أضع صورتها في اللحظة التي كان يجب أن تكون الأخيرة، بجانب صورة مستبد يعد بالديمقراطية. قررتُ حينها أن كليهما يجب أن يرحل. كنت أنتظر انتصاراً خارجياً يدعمني داخلياً. حتى أنني يوم الخميس، عندما أعلنت كل وسائل الإعلام بشكل شبه مؤكد عن تنحيه، وجدتني شجاعاً فوق العادة لأخرج كل هداياها من مخبأها وأعدها للتمزيق.

     لم يحدث ما انتظرته، جاء خطابه فارغاً تماماً. كانت نيته أن يستمر ويعاقب المجرمين، مثل نيتها أن تستمر وتعاقب الواشين. وبمجرد انتهاء خطبته، وجدتني على وشك البكاء. تذكرت في لحظتها كل انكسارات حياتي، وكأن هذا الرجل يأبى أن يهبني سعادة الحرية. فعلت كل ما يمكن حتى أبعد عن ذهني صورة شنطة الهدايا المعدة للتمزيق، وصورة المستبد الذي نهض من كرسيه دون أن يخطو للغياب بعد.

     مع بيان الرحيل، الذي جاء في كلمات موجزة سريعة الإيقاع تناسب تماماً روح الثوار، غابت عني كل الأفكار السلبية، ونسيتُ، في لحظات، صورة الطاغية وشنطة الهدايا. شعرت أنني أولد من جديد، وأن صباح اليوم التالي أول الصباحات المشرقة.

***
     في القبور موتى أحياء، وفي الشوارع موتى صاروا أحياءً
***

     في الصباح الأول لرحيل مبارك، جرتني قدماي لزيارة قبر أبي. لم أفعل طيلة حياتي ما يبهجه، فحملتُ فرحة النصر إليه، كذلك دموعه. كانت المقابر هادئة جداً، رغم ذلك شعرت بنبض في قبره، وكأن أبي استعاد الحياة مجدداً. عانقني، وسمعتُ صوته يملأ أذني: صوتاً جهوراً كصوت المبعوثين من الموت بكل طاقة الأمل في الحياة.

     قابلت حارس المقابر في خروجي، هنأني بكل طيبة برحيل مبارك، فضغطت على يده بحب بينما أشعر بأبي يقف خلفي. في الشارع، في كل الشوارع التي مررت بها، رأيت وجوهاً مبتسمة، كأن الحياة عادت إليهم أيضاً. بعض المواقف التي حدثت لي أشعرتني أن الثورة لم تغيرنا فقط سياسياً، بل أخلاقياً وبقوة ملحوظة. فكرتُ أن تكسير الصنم الأكبر حررنا داخلياً أيضاً من مخاوفنا. هكذا، في اليوم الأول لرحيل مبارك، بدانا نسترد إنسانيتنا المفقودة، وبدأت أشعر عن حق أن كل الهزائم الماضية رحلت بلا رجعة، وعدنا أحياءً. إنه سبت النور. 


                                           أحمد عبد اللطيف
                                        نُشر بجريدة أخبار الأدب 

إنه خريف البطريرك

                                                  


     لم أكن أحلم بثورة 25 يناير ولا حتى في أكثر أحلامي تطرفاً. ربما أعتقد الآن أن الواقع أحياناً يفوق الحلم خيالاً. في واقعي، أتقدم لميدان التحرير بروح ساخرة، أقاوم بها قلقاً من لحظة قادمة أعجز تماماً عن رسم ملامحها. ترافقني منذ الدقائق الأولى دون أن أعي صورة ماركيز بشاربه وابتسامته الساحرة. هناك، وجدتني فرداً واحداً في وسط آلاف يرددون كلمات تدور بداخلي، وترسم في عقلي رموزاً ربما لم أستطع من قبل فك شفرتها. هناك، اكتسبت هذه الكلمات معنى أعمق، أكثر حقيقية وقدسية مما كانت عليه قبل دقائق مضت. "مش عايزين حكم العسكر"، قالها بصوت عالٍ شاب عبر سريعاً بجواري، لأجد خلفه عشرات الأشخاص يرددونها بحماسة، ولم تمر دقائق حتى وصل عددهم لمئات. وقبل أن أستوعب ما يحدث، وبنية خالصة للاستمتاع بهذه اللحظات، تظهر عربات ضخمة ترش الماء على المتظاهرين لتفرقتهم، فيتبّعون لأول مرة التكنيك الذي سيستخدمونه فيما بعد لمواجهة العنف وهم بأيادٍ خاوية: الكر والفر. أهرول مثل طفل يلهو ويتقافز في سعادة وأضحك وأنا يدور في ذهني مشهد جَمَعَ الطاغية وأمه في رواية ماركيز المبتسم "خريف البطريرك": كان الطاغية في موكب مهيب أمام قصره، فخرجت أمه وهي تحمل في يدها زجاجات فارغة وتناديه بأحقر الألقاب وتأمره أمام جنده وحاشيته أن يعيد الزجاجات لصاحب الدكان القريب وتوبخه لتكاسله، فيقسم الطاغية أن يعزلها بعيداً عن القصر الرئاسي حتى لا تسبب له مزيداً من الفضائح. ما يجعلني أموت ضحكاً أنني أتخيل الطاغية، طاغيتنا، في هذا المشهد، وأمه الفلاحة البسيطة تحدثه بعامية أهل القرية بينما يرد هو عليها بعامية ابن المدينة، فتمصمص شفتيها وتلعن السلطة التي أنسته أصوله.

     أي صورة تلك التي تدور في ذهني وأنا أجري وأقفز الحاجز الحديدي لأصل لرصيف المشاة بعيداً عن المياه المتدافعة! لا يخرجني من مشهدي سوى فتاة سمراء وجميلة كانت تحاول القفز من الحاجز دون أن تستطيع، بينما يقف الشبان بالقرب منها دون أن يتجرأوا على مساعدتها مخافة أن تسيء فهمهم. أقترب منها مسرعاً وأحملها من خصرها حتى تستقر قدماها على الأرض. لازم نغير، قلت بصدق، وعدت من جديد لمنتصف الميدان، وقبل أن تمر ثوان ظهرت دفعات بالآلاف من المتظاهرين ليصير الميدان مكتظاً بعدد ربما يقارب الخمسين ألف.

     المتظاهرون المسالمون يبغون العبور للشارع الآخر ليتظاهروا بهذه الأعداد أمام مجلس "الشعب". وقوات الأمن تشكّل حائط صد لا يمكن اجتيازه، ومع تقدم المتظاهرين، يبدأ العسكر يستخدمون وسيلتهم الثانية: القنابل المسيّلة للدموع، وبينما أهتف بإسقاط مبارك، أتذكر ماركيز مجدداً وهو يحكي عن طاغيته أنه حكم 25 عاماً. كنت أهرب من القنابل وأنا أضحك: لقد تخطى طاغيتنا واقعية ماركيز السحرية.

     في لحظة ما، ربما بعد غروب الشمس بقليل ومشاهدتي للمصابين جرّاء اشتباكات مع رجال الأمن أو الجرح المباشر من تساقط القنابل، أدركت أننا في ثورة، وأن كل هذا ليس محض مظاهرة ستنفض في خلال ساعات. وجوه الشباب، حماسهم، إصرارهم، هتافاتهم، دماؤهم التي سالت على الأرصفة، كل ذلك جعلني أعي أننا الآن في مصر أخرى، وأننا، حتى ولو بشكل مبالغ فيه، نضع حداً فاصلاً بين ما قبل وما بعد 25 يناير. أننا نضع نقطة بعد جملة مبارك الطويلة التي استمرت 30 عاماً، لنبدأ من أول سطر جديد مضيء، يأبى أن يعود لحروف مظلمة.

     في الأيام التالية، جمعة الغضب والمظاهرة المليونية وجمعة الرحيل، وما بينها وبعدها، أُعلن بشكل قاطع أننا في ثورة شعبية، هي الأولى من نوعها في تاريخنا. معها، لم تنفع القنابل المسيلة للدموع ولا الرصاص المطاط والحي ولا البلطجية ولا الأحصنة والجمال ولا قنابل المولوتوف. نحن المتظاهرين المؤمنين بقضيتنا ظللنا نحتفظ بثورتنا الحضارية، نتعامل برقي مع بلطجة بدائية وعنيفة، ونتصدى بعقيدة لعنف الحكومة المرتدي ملابس مدنية، أثناء ذلك أسمع من يقول: طيب افتكروا له حاجة حلوة. أضحك أيضاً وأتذكر امرأة تريد أن تُطلّق من زوجها فيذكرونها أنه أهداها ذات يوم دبلة الزواج!

     في كل الساعات التي أقبع فيها في ميدان التحرير، محاطاً بدبابات الجيش التي يقف خلفها من يدعون أنهم أنصار مبارك بسنجهم ورصاصهم وقنابلهم، أشعر أنني أشاهد خريف البطريرك، حيث الطاغية يقدم عرض استريبتيز، فيخلع الحكومة ثم يفك الحزب الوطني ثم يسقط السوتيان بما يضمه من رجال أعمال، ونحن مثل متفرج مثار في انتظار خلع القطعة الأخيرة لنصفق بشدة.

      وفي اللحظة التي يصيبني الملل، يأتيني ماركيز بشاربه الكثيف وبسمته الساحرة ليخبرني: احذروا الديكتاتور إن فشلت الثورة. أي سحر هذا الذي تمتلكه الكلمات!

     منذ ساعات كنت في ميدان المعركة، فرأيت مصادفة فتاة الثورة الجميلة التي قابلتها أول يوم. كانت تسير منهكة جداً، تجر قدميها بالكاد وهي ممسكة بيديها يافطة صغيرة كُتب عليها: الشعب يريد إسقاط النظام. نظرتْ لي وابتسمتْ، ولما اقتربتْ قالت: لازم نغير. ضحكت وأنا أقول: ماذا سيحدث لو أعاد طاغيتنا الزجاجات الفارغة لصاحب الدكان؟ 


                                                أحمد عبد اللطيف
        نشر المقال بجريدة السفير اللبنانية أثناء ثورة 25 يناير وقبل تنحي الرئيس المخلوع       

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...