الجمعة، نوفمبر 28، 2014

رواية 'إلياس' مغامرة شيطانية تصور الإنسان المطلق




 ناهد خزام 

يمعن الروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف في وصف أدق تفاصيل الشخصية الرئيسية في روايته الصادرة أخيرا عن دار العين بالقاهرة بعنوان “إلياس”،
 غير أنه بالرغم من هذا الوصف المسهب والغارق في أدق التفاصيل،
 لا يكاد القارئ يمسك بكوامن تلك الشخصية حتى تنفلت من بين يديه مرة أخرى،
ليس انفلاتا للنص أو ركاكة المعالجة، بل لطبيعة الشخصية المحورية في الرواية.
إلياس، هو الشخصية الرئيسية التي يدور النص في فلكها سردا ولغة، هو شخصية ذات
 طبيعة مراوغة، لذلك يجد القارئ نفسه في مواجهة مباشرة معها بداية من الأسطر الأولى للرواية.

خروج عن المألوف
يُعرّف بطل الرواية نفسه منذ البداية مكرراً عبارة “أنا إلياس”، إلياس فقط دون لقب،
يكررها بين الجمل والفواصل والقطعات، كأنما يذكّر نفسه وإيانا بطبيعته “الإلياسية”
كما يسميها. فهو شخص يدور ويلتف حول ذاته، يفسر الأحداث وفقاً لرؤيته ونزعاته،
 لا يتواصل على الفيسبوك إلا مع من يحملون ختم الإلياسية بالاسم أو اللقب، كما يتوهم
 أن في اسمه شيء من القداسة أو أن حروفه الخمسة تنطوي على نوع من الطلاسم،
يحاول الكشف عنها قدر ما يستطيع.
في نفس الوقت الذي يستطرد في وصف نفسه ونشأته، نافيا عن ذاته صفة البطولة والأسطورية،
 عكس ما تنبئ به عبارته الاستهلالية، والتي توحي بالمقاربة فيما بينه والنبي إلياس: “
وقال مكحول عن كعب: أربعة أنبياء أحياء، اثنان في الأرض: إلياس والخضر،
واثنان في السماء: إدريس وعيسى”.
وبعد لهاث القارئ خلف تلك الشخصية الأسطورية المغزولة بكلمات شديدة التفصيل
وعبارات مكررة، يجد نفسه أمام حالة من الغموض، غموض يحيط بشخصية إلياس
 ويخيم على طريقة السرد ذاتها.



ينتقل بطل الرواية ما بين الضيق والرحابة، بين الوحدة والتماهي مع الآخرين،

وبينما تهيّئ الكلمات المقدّمة للرواية على غلافها الخارجي القارئ إلى أنه أمام
 نص تاريخي، إلا أننا نجد أنفسنا أمام نص أشبه بالسيرة الذاتية التي يعدّ التاريخ
 جانباً من مكوناتها، فالرواية لا تعتمد بأي حال من الأحوال على ذلك السرد التاريخي
الذي قد نتوهمه عند مطالعتنا لذلك التقديم، فهي تتبع بشيء من التفصيل بنية الشخصية
 الرئيسية وعلاقتها المضطربة بذاتها ومحيطها الزماني والمكاني.
يمتلئ بيته بالكتب والأوراق والرسائل. تحتل هذه الأوراق والرسائل الجزء الأكبر
من فراغ هذا البيت بنفس القدر الذي تحتل فيه فراغ ذاكرته. فإلياس هو شخص
عابر في الزمان والمكان، وهو شخص يحتمي بحياديته قدر المستطاع، وتكسبه
حياديته تلك شيئاً من التماهي مع سيرة الإنسان الفرد.
هو ينطلق من زمانه المحدود ومكانه المُحاصر بين أربعة جدران إلى براح غير محدود،
وهو براح منفلت من أسر الزمان والمكان معاً، بل ومنفلت أيضاً من أسر اللغة ذاتها،
وهي القيمة الأكبر والأبرز في رواية إلياس، إذ تمثل الرواية مغامرة حقيقية في الصياغة
اللغوية، وصفها أحدهم خلال حفل توقيع الرواية بالمغامرة الشيطانية.
فالكاتب يعتمد على نوع من التداعي اللغوي والتكرار، ويتمادى إلى حدّ الخروج عن
القواعد اللغوية المألوفة والمتعارف عليها. هو ينطلق من كلمة إلى أخرى، ومن عبارة
إلى غيرها، والفكرة تحيل إلى ما بعدها دون ارتباط عضوي في كثير من الأحيان.
أزمة الإنسان
تمتدّ الصورة الضبابية التي يرسمها الروائي أحمد عبداللطيف لشخصية إلياس إلى ملامح
 تلك الشخصية، فإذا ما أردنا أن نشكل ملامح ثابتة لشخصية البطل، أو على الأقل الملامح
 الباقية المستمرة عبر سياق الرواية، دون الملامح العابرة والمتغيرة التي تمتلئ بها الأحداث،
 فلن نعرف عنه شيئا، سوى أنه شخص قد فقد ساقه في حادثة، لذا فهو يمتلك ساقا صناعية،
 وهو يعمل كاتبا وممثلا، لكنه لا يشعر بالرضى تجاه ما يكتبه أو ما يقوم بأدائه من أدوار.

فالقصص التي يكتبها لا يقرأها أحد، والأدوار التي يقوم بها هي أدوار ثانوية باهتة الملامح، ينساها بمجرد الانتهاء منها، لكنه أحيانا يتماهى في تفاصيل هذه الشخصية أو تلكـ حتى تتداخل تفاصيلها وملامحها مع تفاصيل حياته الشخصية.
لا يعرف بطل الرواية أبا أو أما له على وجه التحديد. هو يحاول البحث في أرشيفه الورقي وذاكرته
 المزدحمة بالتفاصيل عن ملامح لأبويه، فلا يزيده ذلك البحث سوى الحيرة. يحاول التنقيب مرة أخرى
عن أمه بين من يحملن اسم إلياس على الفيسبوك، لكنه يصاب بخيبة الأمل كلما تواصل مع إحداهن،
فيكتفي أخيراً بما يحمله من ذكريات غائمة عن أمه، التي لا يتذكر ملامحها جيداً.
يعتمد الكاتب في مراوغته للزمان والمكان على ذاكرته الشخصية، وعلى أرشيفه الضخم
من الرسائل. تملأ الكتابات فراغ البيت وتفيض على الجدران والممرات، يحمل أغلبها
 توقيع إلياس، والبعض الآخر يحمل تواقيع أناس لا يعرفهم.
تحمل الرسائل جميعها تواريخ شتى، تواريخ متباعدة، بداية من القرن السابع إلى
 وقتنا هذا، يتتبع إلياس سيرته عبر استعراض أرشيفه الضخم من الأوراق والرسائل،
عبر البحث في ذاكرته الشخصية، يتذكر النساء اللائي ضاجعهن، الرجال الذين ألحقوا
 به الأذى، الوقائع التاريخية الهامة التي علقت بذهنه، الأحداث المؤلمة والسعيدة.
أحيانا يرسم صورا سريالية لا تمت إلى الواقع بصلة، صورا أشبه بالأحلام أو الكوابيس.
ينتقل البطل من مكانه الذي يمارس من خلاله فعل السرد إلى أماكن أخرى متباعدة،
من القاهرة إلى غرناطة، يتبادل موقعه من آن لآخر، فهو يتحدّث عن نفسه تارة كواحد
 من قادة جيوش العرب الفاتحين، وتارة أخرى نراه يجترّ ذكرياته المؤلمة كمحارب مع 
جيش القوط المهزومين.
ينتقل من غرناطة إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى غرناطة، مبتعداً عن الحبكة التقليدية،
 مستخدماً تقنيات زمانية ومكانية جديدة لإنسان مطلق له طبيعة خاصة. تطرح رواية
إلياس سؤالاً حول الهوية، أو بمعنى أدق: ضياع الهوية ورحلة البحث عن الجذور،
 من خلال لغة تفيض وتلهو، تنسج دوالها ثم تفكك ما شيدته.
تقوم على تبادل الجمل وتوافقاتها، وكأنه يخلق للغة أسطورتها الخاصة غير المعتادة،
بل ويقدّم للغة وفنياتها “فقها جديدا”، يتسق مع البطل متعدّد المستويات، الباحث عن جذوره
 في تراجيديا شديدة التعقيد، راسما صورة لأزمة الإنسان المنسحق المهزوم، الذي استمرأ
تبعيته في مدن حمراء ذات سلطة ظالمة، أسقفها خرسانية، لا تتيح مساحات من الحرية.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...