الأحد، نوفمبر 30، 2008

قصة لماركيز لم تترجم من قبل

شيئ خطير جدا سيحدث في هذه القرية ملحوظة : حكي ما ركيز هذه القصة في احدي مؤتمرات الكُتاب أثناء الحديث عن الفرق بين القصة المحكية والقصة المكتوبة ، قائلا " لنري كيف تتغير القصة عند كتابتها " . تخيل أنك في قرية صغيرة ، تقطن بها سيدة عجوز ، لها من الأبناء اثنان ، أحدهما ولد في السابعة عشرة ، والأخري فتاة في الرابعة عشرة . عندما تقدم لهما الفطور ذات يوم ، يكون وجهها مكتسيا بعلامات القلق . يسألانها عما حدث . فتخبرهم أنها استيقظت وهي تشعر أن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية . يسخر الابنان من أمهما . يقولان إنه شعور سيدة عجوز ، أشياء وتمر . ويذهب الابن ليلعب البلياردو ، وفي اللحظة التي يوشك فيها علي ضرب الكرة يقول له اللاعب الآخر : ـ أراهنك ببيزو أنك لن تصيب . يضحك الجميع . ويضحك الابن . ويضرب الكرة فلا يصيب . يدفع البيزو ، ويسأله الجميع عما به ، فقد كانت لعبة في غاية السهولة . فيجيبهم : ـ أنتم محقون ، لكنني مشغول جدا بأمر أخبرتني به أمي هذا الصباح ، قالت إن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية . سخر منه الجميع . وعاد اللاعب الذي فاز عليه وربح البيزو إلي بيته ، حيث سيجد أمه أو حفيدته أو أية قريبة أخري . وسعيدا بالبيزو الذي ربحه يقول : ـ لقد ربحت هذا البيزو من داماسو بطريقة غاية في البساطة ، لأنه احمق . ـ لماذا تقول إنه أحمق ؟ . ـ لأنه لم يستطع أن يصيب بكرة سهلة قائلا إن هناك فكرة متسلطة تلاحقه ، حيث أن امه قالت له إنها استيقظت وهي تشعر أن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية . تجيبه أمه حينئذ : ـ لا تسخر من نبوءات العجائز فأحيانا تصيب . تسمعه القريبة ثم تذهب لشراء اللحم . تقول للجزار : ـ اعطني رطلا من اللحم . وفي اللحظة التي يقطع لها ما طلبته تضيف : ـ اجعلهم رطلين ، لأنهم يقولون إن شيئا خطيرا سيحدث ومن الأفضل أن نستعد له . يعطيها طلبها . وعندما تأتي سيدة أخري تشتري رطل لحم آخر ، يقول لها : ـ خذي رطلين ، لأن الناس يقولون إن شيئا خطيرا سيحدث ، ولذا يستعدون ويشترون ما يكفيهم من المؤن . حينئذ تجيبه العجوز : ـ لدي العديد من الأولاد ، ومن الأفضل أخذ أربعة أرطال . تأخذ طلبها وتسير . وحتي لا أطيل القصة ، سأقول إن الجزار قد باع كل اللحم في نصف ساعة ، وذبح بقرة اخري ، وباعها كلها ، وذاعت الاشاعة . وتأتي لحظة يكون فيها أهل القرية في انتظار حدوث شيئ . فتتوقف كل الأنشطة . وفجأة ، في الساعة الثانية ظهرا ، عندما يشتد الحر ، يقول أحدهم : ـ هل انتبهتم لهذا الطقس ؟ ـ نعم ، لكن طقس هذه القرية دوما حار. ـ ومع ذلك ـ يقول أحدهم ـ لم يكن حارا أبدا بهذه الدرجة في هذه الساعة . ـ لكن الثانية ظهرا هي أشد ساعات الحر . ـ نعم ، لكن لم يكن حارا مثل الآن . تصير القرية خالية ، والميدان خالي ، فيهبط عصفور ، وينطلق فجأة صوت : ـ هناك عصفور في الميدان . ويتجمع الناس ، يرتجفون خوفا ، ليروا العصفور . ـ لكن يا سادة ، عادة ما تهبط العصافير للميدان . ـ نعم ، لكن العصافير لم تهبط قط في هذه الساعة . ويصاب أهل القرية في لحظة بالضغط ، ويصيبهم اليأس ، ويتمزقون بين هجر القرية وعدم توافر الشجاعة لفعل ذلك . يقول احدهم : ـ أنا رجل وسأرحل . يضع أولادة وأثاثه وحيواناته في عربة ، ويعبر بالشارع الرئيسي للقرية المسكينة التي تتفرج عليه ، حتي يقولون : ـ إن كان هذا تجرأ وفعلها فنحن أولي بها . ويبدأ الرحيل حرفيا من القرية . يحمل أهلها أشياءهم وحيواناتهم وكل شيء . ويقول أحد الأواخر الذين يهربون من القرية : ـ حتي لا تقع النكبة علي ما تبقي من بيتنا ـ ويحرق بيته ويفعل الآخرون مثله . ويهربون في ذعر هائل وحقيقي ، كما لو كان هروبا في حرب . وفي الوسط تسير السيدة العجوز صاحبة النبوءة ، صارخة : ـ ألم أقل إن شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية ، وقالوا إنني مجنونة .

أوباما

لا شيء

الاثنين، نوفمبر 17، 2008

عندما يكتب أوباما

أحلام أبي : قصة عِرْق وإرث . باراك أوباما قررتُ في سنة 1983 أن اكون منسقاً جماهيرياً ، لكنني كنت أفتقر في هذه الفترة لمعلومات تخص هذا النشاط ، ولم أكن اعرف أحداً يعيش منه ، وعندما كان زملاء الدراسة يسألونني عمّ المقصود بالمنسق الجماهيري ، لم يكن باستطاعتي أن أجيبهم . لكنني كنت لا أتوقف ، في تلك الاماكن ، عن الحديث عن الحاجة للتغيير . تغيير في البيت الأبيض ، حيث كان ريجان وحاشيته لا زالوا يلعبون لعباتهم القذرة . تغيير في الكونجرس الفاسد والمقهور . تغيير في وجه الدولة ، الغارقة في الهوس والغرور. تغيير قد لا يأتي من قمة الهرم ، كما اعتقدت ، وإنما يأتي من تعبئة أهل السفح . هذا ما كان ينبغي أن أفعل ، أن أنسق بين الزنوج في القاعدة من اجل التغيير . كان أصدقائي ، الزنوج منهم والبيض ، يمدحون بشدة أفكاري المثالية ، قبل أن أتوجه لمكتب البريد وارسل طلباتهم لاستكمال دراستهم الجامعية . ولم يكن بوسعي أن ألومهم علي نظرات الريب . أما الآن ، بعد كل هذه السنين ، فأستطيع أن أشيد منطقا لقراري وأعلن أن نيتي في أن أكون منسقا جماهيريا كانت جزءا من تاريخ طويل بدأ مع أبي وجدي من قبله ، مع أمي وأبيها ، مع ذكرياتي في اندونيسيا مع الشحاذين والمزارعين ، مع اخضاع لولو للسلطة ، ومواصلة راي وفرانك وماركوس وريجينا ، مع اقامتي في نيويورك ، مع موت أبي . وأعلم أن الإختيارات التي اتخذتها لم تكن كلها نابعة من محض إرادتي ، كما كان ينبغي أن تكون ، وأعلم ان هذا يعني السير الحزين في طريق الحرية . لكن هذا الإعتراف جاء متأخرا . ففي تلك الفترة ، عندما كنت علي وشك إنهاء دراستي الجامعية ، كنت أتحرك بدفعات ، كما السمكة تسبح بلا بصيرة ضد تيار شديد لتصل في النهاية لمبتغاها . وفي قاعات الدراسة والبحث كنت اخفي هذه الدفعات تحت شعارات ونظريات كنت قد اكتشفتها في الكتب ، معتقدا ، بشكل خاطيء ، أن الشعارات تعني شيئا وأنها بشكل ما تصيغ هذا الذي أعتقد فيه . لكن ليلا ، عندما كنت ارقد علي سريري ، كنت اترك الشعارات جانبا ، لتسبح مع الريح ، بينما تترك مكانها لخيالات رومانسية قادمة من ماض لم أعرفه أبدا . كانت الصور التي تراودني حينها تتمثل في حركة من أجل الحقوق المدنية ، تنتمي في أغلبها لمسلسل قديم بالأبيض والأسود ، وكان يظهر في كل عام في شهر فبراير خلال " شهر تاريخ الزنوج " ، وهي نفس الصور التي كانت أمي ترينيها عندما كنت طفلا . صورة لطالبين في الكلية ، لهما شعر قصير وصدر مستقيم ، يطلبان غدائهما في مطعم وجبات سريعة في طرف الضاحية النائية . صورة لأعضاء SNCC امام سقيفة في مكان راكد لنهر المسيسيبي يحاولون اقناع عائلة من المزارعين ليسجلوا أسمائهم ليدلوا بأصواتهم الانتخابية . وصورة ثالثة لسجن بولاية ممتليء علي آخره بأطفال بأياد مغلولة ، يغنون من أجل الحرية . تحولت هذه الصور لتمائم بالنسبة لي ، تدعم روحي ، وتخلق قناة تسير فيها مشاعري بشكل لم تستطع الكلمات أبدا أن تفعله . كانت الصور تقول لي ( برغم ان هذه الفكرة ربما جاءتني فيما بعد ، أو هي تفسير ينقصه الدقة ) " إن هذا ليس فقط صراعا شخصيا ، وإن الطوائف لا يصح ان تكون قربانا يقدم لهذا البلد ، علي الأقل بالنسبة لطائفة الزنوج " . كان علي الطوائف أن تشكل ملامحها ، أن تكافح بروحها ، أن تعتني بنفسها كما تعتني بحدائقها . كانت تكيف نفسها علي حجم أحلام الرجال ، وفي الحركة المؤيدة للحقوق المدنية كانت هذه الأحلام شديدة الطموح . ومع الوقت ، رايت الطائفة الأفروأمريكية ، في جلساتنا ومظاهراتنا وأغانينا المنطلقة من السجون ، يشتد عودها وتكتسب معني أكبر من المكان الذي ولدت فيه والبيت الذي نشأت بين أركانه . وبفضل التخطيط والتضحية استطاع الواحد منا أن يكتسب حق أن يكون أحد أعضائها . ولأنني استطعت أن أنتسب لها ( حيث كانت الطائفة المنظمة التي اود الانتماء لها تحت الإنشاء ، وكانت تقوم علي أمل أن تجمع أكبر عدد من الأمريكيين ، من البيض والزنوج وقمحي اللون ، ليكون باستطاعة كل منهم الدفاع عن نفسه ) اعتقدت ان هذه الطائفة تستطيع مع مرور الوقت قبول حياتي الخاصة المنفردة . كانت هذه هي فكرتي عن المنسق الجماهيري : وعد بالخلاص . وهكذا ، خلال الشهور التالية وحتي حصلت علي اجازتي العليا ، كتبت خطابات لكل منطمات الحقوق المدنية التي كنت أعرفها ، ولكل زنجي له أفكار تقدمية ، ولكل منتخب في هذا البلد ليلعب دورا جماهيريا ، ولكل جمعيات حقوق الجار وحقوق المستأجر . ورغم أن أحدا لم يجيبني ، لم أفقد حماسي . قررت حينئذ أنه في خلال عام سأبحث عن عمل مناسب لأدفع مصروفاتي الدراسية ، وقد أدخر القليل . سأحتاج للمال فيما بعد ، هكذا كنت أقول لنفسي . المنسقون لم يكونوا يعيشون من عملهم ، وكان فقرهم دليلا علي كمالهم . وبعد صبر قد طال ، تعاقدت مع مؤسسة تعمل في التعاون الدولي لأعمل لديها كمساعد أبحاث ، أو كجاسوس كما تري سطور الأعداء . وفي كل صباح كنت أصل إلي مكتبي بمركز Maniatan ، أجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي ، مُركّزاً في المعلومات التي ترسلها وكالة رويترز ، وكانت رسائل لامعة ذات لون أخضر زمردي ، تحتوي علي أخبار العالم أجمع . في هذا المكان ، كنت أنا الرجل الزنجي الوحيد ، حسب ما رأيت ، وهو أمر غير مريح ، لكنه كان فخر لي أمام السكرتيرات ، و هن سيدات زنجيات كن يعاملنني كابن لهن ، ويخبرنني أنه لم يعبر بخيالهن ذات يوم أن يدير هذا المكان رجل زنجي . أحيانا ، أثناء تناول الغداء ، كنت أحكي لهن عن أفكاري حول المنسق الجماهيري ، وبينما يبتسمن كنّ يقولن لي " هذا عمل حسن يا باراك " ، لكن نظراتهن كانت توشي باحباطاتهن بشكل فاضح . ومن بين العاملين كان إيكي ، رجل أمن الممر ، زنجي ثرثار ، يقول لي وحده ، وبكل وضوح ، إنني مخطيء ، ويسألني : هل العمل كمنسق جماهيري عمل سياسي ؟ لماذا تريد أن تورط نفسك في أمر كهذا ؟ . حاولت أن أشرح له وجهات نظري السياسية ، التي تكمن في تعبئة الفقراء وإعادة توزيع الثروات بين الطوائف ، لكن إيكي كان يقوم بإيماءة ريبة ، ويقول : ـ يا سيد أوباما ، أتمني ألا يضايقك لو أسديت لك نصيحة ، ولست مضطرا أن تأخذ بها ، لكنني سأسديها لك علي أي حال :" انس أمر المنظمة هذه وافعل شيئا يدر عليك دخلا ، والأمر لا علاقة له بالطمع ، أتفهمني ؟ ، وإنما اكسب ما يكفيك . أقول لك ذلك لأنني أري فيك كل المؤهلات المناسبة ، فشاب مثلك له صوت جميل ، أتفهمني ؟ ، يدتستطيع أن تكون من هؤلاء الذين يقرأون الأخبار في التليفزيون ، أو اعمل بالبيع ... لدي ابن أخت من نفس عمرك تقريبا ، ويكسب من المال الكثير ، هذا هو ما تحتاج إليه . أتري ؟ هؤلاء الذين يركضون من هنا لهناك ، يتقافزون ويتراقصون ، لا يمكن أن تساعد هؤلاء الذين لم يحققوا أبدا شيئا لأنفسهم ، وبالاضافة لذلك لن يشكروا لك المعروف . إن الذين يريدون أن يتقدموا للأمام سيجدون الطريق بأنفسهم ليفعلوا ذلك . وبالمناسبة ، كم عمرك ؟ ـ اثنان عشرون . ـ انظر ، لا تضع شبابك هدرا ، يا سيد أوباما ، فذات يوم ستستيقظ وستجد نفسك عجوزا ، مثلي ، دون أن تحقق شيئا من أحلامك . لم أعر اهتماما لما قاله إيكي حينذاك ، وفكرت أنه يشبه أجدادي كثيرا . ومع ذلك ، مرت الشهور وأنا ساكن في مكاني ، وكنت اشعر أن فكرة ان أصير منسقا جماهيريا تتبخر . وحينئذ عرضت علي المؤسسة أن أشغل منصب كاتب مقالات إقتصادية ، فصار لي مكتبي الخاص وطاقم سكرتاريتي الخاص ، وحساب في البنك . أحيانا ، عندما كنت أخرج لألتقي برجال مال يابانيين أو وسطاء ألمان ، تعودت النظر لصورتي في مرآة باب الأسانسير ، فكنت أري نفسي ببدلة وكرافتة وبحقيبة يد ، وفي لحظة كنت اتخيل نفسي احد رجال الصناعة ، أصدر أوامر ، أنهي صفقات ، وسريعا ما أتذكر ماذا قلت لنفسي عما احب أن أكون ، فأشعر انني مذنب لعدم اقدامي علي اتخاذ القرار . ذات يوم ، عندما كنت جالساً امام جهاز الكمبيوتر الخاص بي أكتب مقالة عن مستقبل أنواع الفائدة ، حدث لي أمر مفاجيء : هاتفتني أوما . لم أتعرف أبدا في حياتي علي هذه الأخت غير الشقيقة ، فقط كنا نتكاتب بشكل متقطع . كنت أعرف أنها قد تركت كينيا لتدرس في ألمانيا ، وفي خطاباتنا كنا نتبادل امكانية أن اذهب لزيارتها أو ربما تستطيع هي أن تأتي للولايات المتحدة ، وأخبرتني أنها ستأتي في رحلة مع بعض الأصدقاء . وسألتني إن كانت تستطيع أن تأتي لتراني في نيويورك . ـ بالطبع ـ أجبتها ـ ويمكنك أن تبقي معي ، فأنا مشتاق لرؤياك . ضحكتْ ، وضحكتُ أنا أيضا ، ثم ساد الصمت بيننا ، فلم نكن نسمع سوي صوت الارسال ورتابة أنفاسنا . ـ حسنا ـ قالت هي ـ لا أستطيع أن أبقي طويلا علي الهاتف ، فالاتصال غال جدا ، وهذه هي بيانات رحلتي الجوية . بعدها أنهينا المكالمة ، وشعرت أن الاتصال بيننا علاجا يجب أن نأخذه بجرعة صغيرة . وقضيت الأسابيع القليلة التالية أعد الأشياء بأقصي سرعة ، ملاءات جديدة للكنبة ـ السرير ، أطباق اضافية وفوط ، ليفة للحمام . وقبل مجيئها بيومين هاتفتني أوما من جديد ، وكان صوتها منكسرا ، وقالت بشبه همهمة : ـ لن أستطيع زيارتك ، لقد مات أخ لنا ، اسمه ديفيد ، في حادثة موتوسيكل ، وهذا كل ما أعرفه . وشرعت في البكاء قائلة : ـ أوه يا باراك ، لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ حاولت أن اسليها قدر استطاعتي ، وسألتها كيف لي أن أساعدها ، وسألتها إن كانت هناك فرصة أخري للقاء ، وفي النهاية هدأ صوتها وقالت إنها يجب أن تحجز تذكرة للعودة للبيت . ـ حسنا يا باراك ، سنلتقي . مع السلامة . عندما أنهت المكالمة خرجتُ من مكتبي وقلت لسكرتيرتي إنني سأقضي اليوم خارج المكتب . وتجولت في شوارع مانهاتن عدة ساعات ، وصوت اوما يطن في أذني . في قارة أخري امرأة تبكي . في طريق مغبر وحزين وقعت حادثة فاصطدم طفل بالأرض الصلبة ، ومازالت العجلات تواصل دورانها حتي تكل وتتوقف . من كانوا هؤلاء الناس ؟ من هؤلاء الغرباء عني الذين تسير دماؤهم في دمي ؟ كنت أسأل نفسي ؟. كيف أستطيع أن ألملم جراح هذه المرأة المفتوح ؟ ، أي أحلام مجنونة وهمجية راودت هذا الصبي ؟ ، من أنا ؟ وكيف لا أزرف دمعة واحدة علي فقدان أخ لي ؟ أحيانا أسأل نفسي ، كيف غيرت حياتي هذه االمرأة التي تسمي أوما بمكالمة تليفونية ؟ . ليس الاتصال في حد ذاته ( رغم أنه الخطوة الأولي ) ولا خبر موت ديفيد ( فلم أكن أعرف هذا الصبي وهذا أمر جلي ) وإنما اقصد المكالمة التي فيها حدث كل شيئ ، أحداث متتابعة ، آمال مشيدة ، احباطات تالية ، إن هذه المكالمة جاءت في الوقت الذي فيه كان يجب أن أقرر وضع فكرة المنسق الجماهيري علي أرض الواقع ، لتصير هي مركز حياتي ، بعد أن كانت مجرد فكرة في عقلي ، وصراع مشوش في قلبي . ربما لم أكن ذا أهمية في هذا الوقت . لكنني كنت ملزما أن أكون منسقا جماهيريا ، فجاء صوت أوما ببساطة ليذكرني أن بداخلي جراحا في حاجة للتداوي ، وأنني لا أستطيع أن أتداوي بمفردي . لو لم يمت ديفيد في هذا الوقت ، لو جاءت أوما لنيويورك كما اتفقنا في البداية ، وعرفت منها حينئذ ما عرفته بعد ذلك عن كينيا ، عن أبينا ... حسنا ، ربما خف الضغط المتراكم في داخلي ، واكتسبت فكرة مختلفة عن الطائفة ، ولسارت طموحاتي في شارع ضيق ، ولقبلت بالطبع نصيحة صديقي ايكي ولتفرغت كلية لجمع المال ، فللمكاسب جاذبية تتولد من المسئولية . لا أعرف . فكل ما أعرفه أنه بعد عدة شهور قليلة من مكالمة أوما ، قدمتُ استقالتي من المؤسسة وبدأتُ أبحث بجد عن عمل كمنسق جماهيري . ومن جديد ذهبت خطاباتي إلي الفراغ ، فلم أتلق ردودا . وبعد شهر تقريبا ، جاءتني مكالمة هاتفية لمقابلة مدير احدي المنظمات الكبري المتخصصة في الحقوق المدنية للمدينة . كان المدير زنجيا طويلا وجذابا ، يرتدي قميصا ابيض منقط ، وكرافتة من الكشمير ، وحمالة حمراء . وكان مكتبه مزينا بالكراسي الإيطالية والتماثيل الافريقية ، كما كان به بار في الجدار المشيد بالطوب المرئي . ومن خلال نافذة كبيرة كان ضوء الشمس يتساقط علي تمثال نصفي لمارتن لوثر كينج . نظر في سيرتي الذاتية وقال بعدها : ـ رائع ، خاصة لأن خبرتك في مجال التعاون ، وهذا هو المفتاح الحقيقي للعمل في منظمة للحقوق المدنية اليوم ، فالاعتراضات والهمهمات لا تجدي في شيئ . والوصول إلي أهدافنا يوجب أن نشيد جسورا بين المؤسسات والحكومة والأحياء المهمشة في المدينة . أطبق الرجل يديه الكبيرتين وأراني تقريرا شهريا مطبوعا علي ورق مصقول ، مفتوحا علي الصفحة التي تحتوي علي أسماء أعضاء مجلس الإدارة ، عضو زنجي وعشرة اعضاء بيض . ـ أتري ؟ ـ قال المدير ـ جمعيات حكومية وأهلية . مفتاح المستقبل هنا ، حيث يدخل شباب مثلك في اللعبة ، شباب متعلمون وواثقون من أنفسهم . يشعرون بالراحة في صالة اجتماعات ، دون ان يفعلوا شيئا أكثر من ذلك ، في الاسبوع الماضي تحديدا كنت اناقش هذه المشكلة مع سكرتير HUD ، أثناء تناول العشاء في البيت لأبيض ، كم هو رجل رائع جاك ، لابد أنه سيتحمس لمعرفة شاب مثلك ، لا يجب أن أقول إنني عضو في الحزب الديمقراطي ، لكن يجب أن نتعلم أن نعمل مع ذوي السلطة ، أيا كانوا . وهناك قدم لي عملا مرتبطا بمنظمة تقيم الندوات حول المخدرات والتخلف والاسكان . " تسهيل الحوار " ، هكذا كان يسميها . فرفضت عرضه الكريم لأنني كنت قد قررت سلفا أنني سأعمل في عمل يسمح لي بالاحتكاك بالشارع . وقضيت ثلاثة أشهر أعمل في مكتب رالف نادر في هارلم ، محاولا أن أقنع طلاب الأقليات العرقية بالكوليدج سيتي بأهمية التغيير ، بعدها قضيت اسبوعا أوزع أوراق الانتخابات لمرشح في بروكلين ( خسر المرشح ولم يدفع لي أجري حتي الآن ). بعد ستة اشهر أصبحت مفلسا وعاطلا ، لا آكل سوي الشوربة المعلبة ، وفي بحثي عن حل ذهبت لجامعة كولومبيا لاستمع لمحاضرة كويم توري ، واسمه الحقيقي ستوكيلي كارميشيل ، وهو ناشط معروف ب BLACK POWER و SNCC ، وعند دخولي القاعة وجدت سيدتين احداهما زنجية والاخري أسيوية كانتا تبيعان كتبا عن الأدب الماركسي وتتناقشان فيما بينهما حول المكانة التي كان يشغلها تروتسكي في التاريخ ، وبالداخل كان توري يقدم برنامجا لاقامة علاقات اقتصادية بين أفريقيا وهارلم كحائط صد ضد الرأسمالية الامبريالية للبيض . وبمجرد أن أنهي محاضرته سألته شابة نحيفة ، ترتدي نظارة ، إن كان هذا البرنامج عمليا مع الوضع في الاعتبار وضع الاقتصاديات الافريقية والاحتياجات الضرورية التي يواجهها زنوج أمريكا . فقاطعها توري قبل أن تتم عبارتها : ـ ما لا يجعله عمليا هو غسيل المخ الذي أجروه لك يا أختي . كانت عينا توري تلمعان بينما كان يتكلم . كانت عينا رجل مجنون أو رجل مستنير . ظلت الفتاة واقفة علي قدميها عدة دقائق ، بينما كان يلومها علي موقفها البورجوازي . بعدها بدأ الجمهور في الانصراف . وخارج القاعة كانت السيدتان الماركسيتان تصرخان فيها بكل ما في رئتيهما من قوة : ـ خنزيرة ، تابعة لستانلي . ـ عاهرة اصلاحية . كان يبدو كابوسا . سرت إلي برودواي بلا قبلة ، بينما كنت أتخيل نفسي بجانب LINCOLIN MEMORIAL ، متأملا صالة خالية ، بها بقايا قمامة يحركها الهواء . كانت الحركة قد ماتت منذ سنوات ، وتمزقت لألف قطعة . وكانت كل الطرق المؤدية للتغيير أكثر من مغلقة ، وكل الاستراتيجيات كانت منهكة . وجاءت الهزائم تلاحق حتي الحركات التي كانت تحمل أفضل النوايا ، فتبتعد خلف صراعات مستمرة . إنه ببساطة جنون تام . وانتبهت في الحال أنني كنت أكلم نفسي في وسط الشارع . بينما كان العابرون يتجنبون السير بجواري ، وبين الحشود ظننت أنني تعرفت علي اثنين من زملائي من كولومبيا ، بمعطفيهما الملقيان وراء كتفيهما ، فشاهدتهما يحاولان الهروب من أمام ناظري .

ترجمة أحمد عبد اللطيف .

منشور باخبار الأدب

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...