الأحد، ديسمبر 28، 2014

الطاقة الشعرية في راية إلياس

غادة نبيل


قد يحب الشعراء – أكثر من الروائيين – رواية أحمد عبد اللطيف الأخيرة "إلياس" ( دار العين ) . 
فى أعمال أخرى أقل تجريبية له ( النحات ) تجلت لى لغته ذات طاقة شعرية وفلسفية مخزونة وهى فى " إلياس" أكثر تحدياً ومعابثة لكنها ليست مانيفستو لغوياً : "أنا والفعل يصنعنا الزمن الطويل . العلاقة هكذا رغم أن العلاقة لا تبدو كذلك:الزمن يصنعنى ويصنع الفعل. وأنا والفعل نصنع الزمن . وأنا أصنع الفعل . والفعل يصنعنى. الزمن يلومنى لأنى لا أنقذ الزمن من العَجَز . وأنا أدعى أن الزمن من يهبنى العَجَز . والفعل مظلوم بيننا لأن العَجَز يمنع الفعل من التحقيق". هذه عندى قصيدة نثر . وهاكم أخرى : " ولغتى سيئة جداً . مع ذلك يعتبرون ميزتى فى لغتى . لغتى التى تتجنب ضمائر المفعول ، لغتى التى تعادى ضمائر الملكية . لغتى التى تكافح التنوين ". 
والشعر عند عبد اللطيف مضفور بالفلسفة . مثلا : " وبعد كل انتصار أعرف أنى مهزوم . أعرف أنى مهزوم لأن المعركة هزيمة " ، كذلك حين يقول إلياس : " الواقع ليس فى حاجة إلى الكتابة . الواقع فى حاجة إلى القراءة ." أو حين يشعر ويكتب : " الشقة حدقة وأنا عينٌ بارزة . العالم حدقة وأنا عينٌ بارزة " . وها أنا أضيف التنوين ( بالضم ) الذى يمقته إلياس بكل أنواعه . وها هو المؤلف المضمَر عبر بطله المتكلم يطبق فلسفته فى اللغة وموقفه من الفاصلات الخ عبر طريقة كتابة رواية " إلياس ". هى اللغة التى يدعونا للتمرد عليها بتقبل أسلوب إلياس فى اجتياحها ، فى تقبل تناقضات روح بطله الذى يؤكد " أحب اللغة .أحب اللعب مع اللغة " ، " لكنى لا أحب الأخطاء النحوية .. لا أحب الأخطاء اللغوية " ورغم توكيد إلياس لعدم حبه للأخطاء اللغوية إلا أن هناك أخطاء – ربما بعضها اختيارى وبعضها قد لا يكون . الأمثلة عديدة من أبرزها " اترعبوا " التى تتكرر بدلاً من " ارتعبوا " و" خيطت " حين يقصد " خاطت " وهكذا .

 وربما يشى نفى إلياس السابق – أىعدم حبه للأخطاء اللغوية - إلى إحساس عالٍ بالذنب تجاه مغامرته اللغوية التى تتجاهل وتدعونا لإهمال بعض قواعد اللغة و" تمظهراتها " ( سيكره هذه الكلمة مثلى لكنى استخدمتها ! ) طلباً لحرية وخيال آخر. أو كما يقول إلياس : " فى الكتابة لا يجب أن أريد . لا يجب أن يجب ..... أكتب للمتعة . أكتب للألم . للألم الذى يشبه المتعة .أكتب لأعرف من أنا فى الحقيقة . من أنا فى الخيال. "
يرى الروائى الراحل هيرمان بروش أن الرواية التى لا تكشف عن شريحة فى الوجود لم يسبق كشفها هى " رواية غير أخلاقية " فكل سبب ومعنى الرواية عنده يتلخص فى المعرفة . بينما لا أصدق أن " أخلاقية  الرواية الوحيدة " مصدرها المعرفة بالمعنى الضيق . أصدق شيئاً آخر أو لنقل تأويلا مختلفاً لمقصدية بروش : ثمة جماليات سردية قادرة – لدى البعض فقط – على تحقيق ذلك الكشف عن شىء يبدو جديداً حد إمتاعنا ومفاجأة خيالنا وهذا الشىء بحد ذاته يقدم لـ " معرفة " مختلفة وفارقة . هكذا أختار أن أفهم جملته قاطعة الحكم . ثمة كتابة روائية بلا روح مهما استعانت بتقنيات وتجريب وترسانة معرفية موسوعية. وكتابة أحمد عبد اللطيف نجت من هذا لتقدم طزاجة وحيوية ضمن تجريبية مشروعه السردى حيث هنا فى " إلياس " استمددنا المتعة أكثر من حالة وصفها أمبرتو إيكو بـ " انعدام القصة / الحكاية " على الرغم من عدم غياب المحكى والوصف وربما حكايات صغيرة أو إشارات لآخرين بلا أسماء أو إسهاب – من منظور إلياس - داخل الرواية ، ولكى يبقى السرد شيقاً رغم ذلك هو تحدٍ ليس سهلاً. المهم عندى ابتعاد كتابته عما أحسه فى بعض الأعمال الروائية الأوروبية أو العربية والمصرية ولا أخجل من وصفه بـ " الصقيعية ". 
يسيطر علينا المؤلف بعدم وجود أسماء أخرى فى العمل عدا بطله ، ثم بفرض إيقاع الشخصية ورؤيتها للعالم ليُحدِث تحولاً فى علاقتنا باللغة التى بدأت – بمكر – مرحة playful  ثم بعد استدراجنا ، صارت وسيلة لتحقيق تراكم عصابى لاهث. لغة تلهث،أو لغة طفلة ومتقطعة . والطفل يلهث من اللعب باللغة لأن هذا العالم يجهده ويثيره أثناء استكشافه لكن اللغة قد تقف عائقاً والطفل بلا محاذير يهدم اللغة ليؤسس فهمه الذى يقاوم تعنتنا وأُطرنا .
 " إلياس " مغامرة ممتعة لا تقع فى الملل بسبب حجمها غير الطويل ولحساسية المؤلف الذى يلتقطك قبل الوقوع فى حفرة ملل أو تعب ( وينهيها ) قبل التشبُّع باللعبة. ذكرنى إلياس ببطل رواية " G " لكاتبها الناقد والرسام جون بيرجر التى حازت البوكر عام 1972 حيث وظف بيرجير الجرافيتى الجنسى البدائى ( من رسمه هو ) فى الرواية كوسيلة داعمة للسرد دون أن تكون رواية مُصوّرة ."ج"  يمكن أن يكون غاريبالدى أو دون جيوفانى، نموذج البطل الإيروسى العابر للأزمان والمكان ( إلياس بلا عمر محدد يمكن أن يكون30 أو 200 ) فنجد خلفيات سياسية وراء مغامراته التى ترى فى الجنس وسيلة لتحرير طاقات النفس مثال حرب البوير وثورة عمال ميلانو ( 1898 )وأولى رحلات الطيران فوق الألب لكن بينما " ج " تم نقدها كرواية تروج لفكر صاحبها اليسارى ( لم أشعر بهذا فنياً  لدى قراءتها ) يجد بطل " إلياس" متنفساً لتناقض شعوره الثورى/العدمى فى ضلعى الجنس والإيحاء بأهمية التاريخانى. لا أظن أن عبد اللطيف استهدف كتابة رواية تاريخية لكن أُرجّح أنه ربما تخوّف من عدم تدعيم مغامرته برموز زمنية ذات مغزى تمنح بطله عمقاً وفانتازيا أكبر وتمهد لنهاية خارقة . كلتا الشخصيتين " ج" و"إلياس" تثيران أسئلة داخلية للذات وما يرتبط بهذا من تعاطف . تلفتنا تسمية إلياس للعاهرات بـ " الرفيقات" ، فعاهرة تستمع رفيقة لكن التى لا تستمع ليست عاهرة، ليست شيئاً ويقابلها من لا يستطيع تقديم أكثر من جيبه ليخرج الطرفان بلا إدانة. هذا رديف الحنان الماركيزى والمحفوظى  وكذلك الإدريسى ( نسبة ليوسف إدريس )عليهن. 
إلياس يعود لينفى ما يدعيه فى إعلان مستمر عن الخيبة والفشل فى القص، فى التمثيل، فى العلاقة بالمجتمع. الهم الثورى كاشف فى التواريخ المنتخبة التى يختم بها أجزاء عدة : القاهرة 1967 و1973 و2011 و2013 أو النكسة وحرب أكتوبر وثورة يناير وحكم مرسى وأخرى يختمها باسم بطله متبوعاً بتواريخ دالة ( بلا إفصاح  لكى تبحث أنت فى التواريخ وما ارتبط بها من وقائع ) 711 تاريخ فتح الأندلس،1492 سقوط غرناطة، و1610 تاريخ طرد العرب من بلنسية ، و مقتل لوركا الذى يرتكبه إلياس ويتبرر شارحاً أن ساقه المبتورة هى بديل لحكم الإعدام. نحن أمام برئ مُنفّذ . فى كل هذا لا تبدو لى الرواية تاريخية. الأدق أن المعنى الذى تقدمه لنا اللغة في " إلياس" هو لعنة التكرارالمرتبط  بمنظومة السأم التى هى الحياة. الأحداث التاريخية كمتلازمة تتكرر، الاحتلال وشهوة الحكم والتملك . والتاريخ المُرتَكَب مفتت مثل روح إلياس الذى لا يبدو صاحب وعى فاسد Bad faith( مثل "ج" فى البداية ) قدر ما يُسلِم إلى شعور بالهدر العظيم للحياة.

" ربما لهذا شاهدتُ جنازاتى ، ربما لهذا رأيتُ سرادقى " . 
نقرأ هذا مبكراً جداً فى الرواية ووظيفته تمهيدنا لغرائبية خارقة تتوازى مع غرائبية شعور إلياس تجاه كل أشياء الكون العادية وتجاه نفسه ، ذلك الشعور الذى تعب من الحياة من كثرة البحث عنها . نجد اللغة يشتد لهاثها وتقصر كلماتها أكثر فى مواضع بالرواية ( ليميز إلياس لهجة امرأة ما دون اسم ) وتبرز الفواصل حين تكتب تلك الرفيقة له خطاباً حتى نكاد نلهث فى فعل القراءة ( وهو هدف كما يبدو ) فى جزء يُختَتَم فقط بـ " القاهرة 1967 . 
يلوح دائماً الماوراء وإلياس لا يعنيه تغيير أى شىء ، لن يبذل جهداً فى سبيل أى شىء لكننا تدريجياً نكتشف أن كل " اللقطات " التى يقوم الكاتب بلضمها ثم جردها ما بين ذكريات واستشرافات ووصف أحاسيس هى مناطق قاتمة متشابهة لروح ترى المستقبل والماضى سواسية من فرط التعب – من- الوجود . إلياس هو نحن فى حالة التعب والاختباء فى عزلة بعيداً عن الناس ، هو الضجر من الإدعاء والتظاهر بالقوة ، وهو الذهول أمام القسوة التى يدعى التعود عليها أو يتراءى أن يبدو جزءًا منها . لهذا يصف كل شىء كما لو كان طفلاً لا يفهم الصلات بين الأشياء أو بين المقدمات والنتائج ما أملى أسلوباً متواصل التلغرافية والاندهاش قد يبدو تقريرياً ظاهرياً لكنه أبداً ليس كذلك بل هو مشحون ومفعم بالانفعال حد الشلل : " المرأة التى تأتى بمواجهتى بلا قلب. انتزعت القلب ذات صباح . انتزعت القلب لأن القلب دق ذات صباح . قررت المرأة أن تقص القلب بمقص صغير . بمقص يشبه مقص الوزراء . مقص الوزراء لما يقصون الشريط الأحمر . هى تقص القلب وأنا أقص القصص . القص يعنى إحداث قطيعة................................................ خيطت الصدر كجلباب مُرتق . المرأة خرجت للعمل بابتسامة . خرجت وعادت . عادت لتحمّر القلب . عادت وتغدت . تغدت على القلب " . 
ألا يبدو هذا – ومقاطع شتى من الرواية – كأنما ينتمى لقصص وحكايات الفلكلور الشعبى ، كما قصص الطفولة المرعبة التى تُروى فظائعها ورعبها بأبسط الكلمات؟ ألا يعزز الوصف البرئ لشىء كبير أو كارثى من كارثيته ؟

ثم هناك قرب نهاية العمل تقنيات متعددة مثال الوصايا الثلاث عشرة لإلياس ( دون تسميتها هكذا ) وأيضاً ما يبدو استلهاماً لكتابة الطالع وكشف الأبراج الخ وكلها حيل لدعم القارئ فى تحمله لتجريب المؤلف.
 بدفع اللغة إلى إمكانات جديدة نافرة يغامر بالقارئ .. هذا ما أمتع المؤلف. يقول السارد إنه لا يحب الأخطاء فى النحو ويستمر فى موقفه العدائى من الفاصلة، وأضيف أنا: الفاصلات هدنة، استئناف يتمهل، حق للآخر ، والبطل ممتلئ بأناه  يتماس أوقاتاً عبر شرائط فانتازيا مع بطل " الغريب" لألبير كامو. ويحدث أن نصل إلى نقطة يصبح فيها إلياس غير مرئى يدخل محلاً للورود ليشترى باقة يضعها على قبره هو !. هذا فادح الجمال حين يخترق البطل المتكلم فى نموذج رواية " الشخصية الوحيدة " عبر " ما يوصف بـ " Ist Person narrative view ' حاجز الإيهام ليكسر استنامتنا للأمان الوهمى الذى كان يحيط أبطال روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التى يشبه كثير منها أبطال أفلام الأبيض والأسود الذين ليس مسموحاً – على غرار أفلام الكرتون - أن يموتوا أو ينهزموا طالما يمثلون الخير . أن تُميت بطلك أو تُميع مصيره طمعاً فى "رجّة" عميقة لقارئ لم يرحمه عبد اللطيف من " رجّات أو هزات" صغيرة متتالية ، يستلزم شجاعة ومهارة سردية لولا أن إلياس يبقى ربما فى وضعٍ معلّق أو يتجاوز شعوره بالموت ( يصف نفسه كجثة متحركة مثل البشر الذين فى ثلاجات وبعد ذلك بكونه غير مرئى فنفهم شيئاً يتجاوز تخيله لموته أى أنه مات ) . هدف هذه التقنية خلخلة علاقتنا بكل شىء وليس باللغة أو الزمان والمكان فحسب . ومثلاً هو يختم أحد أجزاء الرواية باسم البطل إلياس متبوعاً باسم القاهرة ثم تاريخ مستقبلى هو 2052 ما يمنحنا شعوراً بموتنا وزوالنا فالمستقبل – عكس الماضى – لا يعد بالأمان أو استمرار حياتنا... الزوال النهائى هو زوالنا نحن، انمحاء وجودنا وانتهاء حياتنا نحن شخصياً. هذا هو الموت الكامل، الحقيقى بعد موت الأحبة (مثلاً الأم ) الموصوف فى الرواية بأسلوب يحاول التخلص من ألفة الموت وعاديته المريرة . 
البطل فى إلياس يحمل ميراث مصداقيته من كونه لا يريد إقناع أى أحد بأى شىء. من لا يحاول دفعك لتصديقه ولا يبذل جهداً لكسبك لموقفه .. هذا من تصدقه . 

قيل إن أحدهم سأل الروائى كارل كابيك ذات يوم " لماذا لا تكتب الشعر؟" فأجاب : " لأنى أمقت الحديث عن نفسى " . فكيف يمكن أن أصدق كتابة هذا الروائى ؟ .. هل الروائيون لا يتحدثون عن أنفسهم فى رواياتهم ؟!! . طبعا لا نجادل فى كينونة الذاتى الأعمق بل والمهيمن فى الشعر أو أغلبه خاصة حديثه لكن عبارة الروائى المذكور توحى " بإزدراء " وفوقية محزنة وغير حقيقية فى آن .


 إن فكرة اللعب مع اللغة أصلاً – لا أخشى من قول هذا – تبدو لى فكرة شعرية أكثر منها روائية . ( ترى هل هذا تفكير كلاسيكى من جانبى ؟ ). أيضاً الرغبة فى الاستحواذ على كل طاقة مشاعرنا لصالح شخصية واحدة على نحو شبه مطلق، ليست هدفاً كلاسيكياً بل يكاد – أقول يكاد - يكون شعرياً ، وفى " إلياس " نجدالأمرين حيث ينتصر التخييلى والسردى عبر اهتمام بأصوات الكلمات وعدد مرات تكرارها وطريقة صياغتها لصالح طموح التحرر العظيم الذى نريده جميعاً فى حياتنا وبالأحرى من الفن .. الطموح فى قول الحكاية بطريقة أفضل وأصدق وأكثر اكتمالاً وليس فقط بطريقة أخرى. والأفضل فى الفن لا وصفة له ، قد يكون الأعنف أو الذى يتظاهر بكونه الأقل اهتماماً ليتكشف عن اكتراث حقيقى وعميق ورغبة فى نسف الثوابت المرهِقة فى استقبالنا الجمالى طالما الفن العظيم هو معنى الاعتراض " المثالى " ( وأستخدم الكلمة بحذر هائل هنا دون أية دلالات فلسفية ) على ثوابت الحياة والمصائر والأقدار . 
 لتوكيد معاناة بطله الذى يختنق بأشياء كثيرة من بينها اللغة حدد إلياس – مثلى – معاركه ضد أشياء محددة فيها ... كمثال " ضد النون الثانية فى أننى " وفى " لكننى " . هنا هذا النوع من القلق يشبه غضب الشاعر وتمرداته واصطدامه المستمر وعراكه مع قواعد اللغة خاصة وأن ثمة أمثلة يمكن إيرادها من أعمال أخرى لعبد اللطيف للتدليل على الشعرى منذ الرواية الأولى " صانع المفاتيح "التى كانت قد حصلت على جائزة الدولة التشجيعية . مثلاً نجد فى صيحات لشخوصها النبر الملحمى الذى أراه وثيق الصلة بكل ما هو شعرى فى الأصل . يكفى أن نسمع الصيحة التى يجعلها المؤلف بلونٍ أكثر دكنة فى " صانع المفاتيح " : ماذا كان يجب أن أفعل أكثر مما فعلت ؟ لماذا لا تعطى الدنيا من يستحق ؟ ".  تبدو لى كصرخة أحد أبطال الملاحم الإغريقية أو - حتى – صيحة أحد أبطال رواية " الإخوة كارمازوف " .. لكن انتبهت لأمثلة أعمق دلالة ووضوحاً بعدما قادنى حدسى لطرح فكرة " الشعرية الكامنة فى سرد أحمد عبد اللطيف " .. الأمثلة من رواية " صانع المفاتيح " كانت كثيرة " ورأيتها دون عناء " بعد " كتابتى " لهذا المقال . انظروا هذا المقطع من الرواية الأولى للكاتب: 
" جميلة سقطت فى بئر الصمت ، تكتفى بالنظر لخطوتها كطفلة تعلمت المشى حديثاً بدون أن تصدق ، بينما كان هو يحمل هدية السماء ، أو عقابها، بين يديه . يغوص فى نوم أعمق من صمت أمه . ربما ظن من رآهم من بعيد أن هذا الثالوث رمز للسعادة ، وربما يُخدع فنان ويرسم بريشته لوحة لعائلة ، يظنها مترابطة، تسير فى خطوات رتيبة ولا تنظر عيونها للأمام ، وبعد أن ينتهى من رسمها ، وعندما يتأمل ما فعلته ريشته ، سيعلم مدى الحزن الناضح من خباياها ، وسيلاحظ أن يده قد رسمت صورة عائلة مفككة لا العكس . أما الشاعر فهو وحده من كان يستطيع أن يصف ما يجول فى هذه اللحظة بقلبيهما ، ولو كان مقتدراً سيركز وصفه فى هذا الطفل الهارب من حياته بالنوم بين يدين مرتجفتين ، وسيكتب قصيدة حزينة تدمع العيون عند نهايتها ".


عبد اللطيف يقدم عملاً - " إلياس "- الشكل فيه هو المضمون ولم يكن ممكناً ولا كنا سنصدق أطروحاته حول اللغة فى متن روايته لو كان كتب " إلياس " بطريقة تختلف عما كُتِبت بها. ورغم هذا ليس من تناقض حين أؤكد وأُذكّر أن هذه الرواية ليست كُتيباً فى فلسفتهِ للُغة وأقانيمها. أما التاريخ والتواريخ كلها فيها فقد تم رشها كذرات على المتن الذى صُلْبه ألم إلياس وحيرته التى تشبه ألمنا وحيرتنا. يقول إلياس: "أحب التاريخ . تاريخ الأفراد. لا أحب التاريخ الرسمى ".
 أكثر جملة يرددها بطل الرواية هى " لا أعرف " أو " لا أظن أنى أعرف " ( يصف نفسه بكونه شيوعياً وعدمياً وقومياً) مثلما كررها المراهق جو برينسون فى رواية " Wild Life" لصاحبها ريتشارد فورد مع اختلاف عوالم سرد ومخيال الروايتين.
فى بداية العمل أحسست بالخفة الجميلة ، ورغبة الكاتب فى رفع أثقال من على كتفى لكن تلك الروح التى اقتربت بى من عالم المرح تراجعت تحت وطأة المعانى والمشاعر الثقيلة المُكبِلة والمحزنة التى بدأ البطل فى إيرادها أو وصفها، فهل كان الكاتب أكثر خجلاً من قدرة الفكاهة على الحفر ضمن طبقات السرد كما يطالعنا ذلك العنصر فى كتابات ما بعد حداثية شتى ؟ هل حرمنا عبد اللطيف من " مرح" محتمل بامتداد الرواية .. لأن نبرة بطله فعلاً تتغير ؟. 
إن كان فلا سبيل لمعرفة هذا الآن بعدما انتهت " إلياس " ومثل بطله لا أعرف لأن المؤكد أنه تحت غواية التجريب هناك طبقة ضجرعميق وشعورعارم بالوحدة يرقد تحتهما حق الغضب المقدس من العالم.
_____________________________________________

الاثنين، ديسمبر 01، 2014

التجريب هاجس أحمد عبداللطيف في الكتابة السردية

شيرين أبو النجا
لا يتمكن الكاتب من اللعب بالسرد ومعه من دون أن يكون قد امتلك أدواته وتمكن منها، عندها فقط يمكن أن يكسر القواعد، يخرج عن المألوف - حتى كتابة اللامألوف تتضمن مساحة من المألوف - يصول ويجول من غير الأخذ في الاعتبار الحدود والمخاوف التي تحكم العلاقة بين النص وقارئه. وهي مخاوف مشروعة لا تتعلق بفعل الكتابة والانتشار فقط، بل تمتد لتشمل أطراف العملية الكتابية كافة: هناك نقاد وقراء ومترجمون، وهناك تاريخ أدبي يسعي الكاتب إلى حفر مكان لسرده فيه.
بعد أن نجح أحمد عبداللطيف - الروائي المصري - أن يوجد لسرده مكاناً في هذا التاريخ الذي بدأ فصلاً جديداً معتمداً على الغرائبية والفانتازيا اللتين تقاومان واقعاً لم يعد يهمه ارتداء أي قناع تجميل، أقول بعد هذه الخطوة قرر عبداللطيف أن يطيح كل قواعد اللعبة السردية في أحدث عمل صدر له هذا العام في عنوان «إلياس» (دار العين، 2014). وهو العمل الذي سبقه «صانع المفاتيح» (2010)، «عالم المندل» (2012)، «كتاب النحات» (2014). قرار كهذا ليس إلا أحد أشكال ممارسة الجنون في منتهى الوعي. وإذا كانت الكتابة تغرز قدماً في التخييل السردي، فإن القدم الأخرى تنغرز بالتأكيد في التجريب الذي يتحول إلى هاجس يسيطر على عالم الكاتب - الكتابة عبر خوض مناطق غير مأهولة، ودروب لم يسر فيها أحد من قبل، من دون أن تتعلق أنظار الكاتب أو آماله بأي مردود مباشر. وهذه النقطة الأخيرة في ذاتها مثيرة للجدل: ألا يقدم الكاتب نصه لقارئ ما في مكان ما، أم إنه يمارس حيلة الاستغناء الزائف؟ وما هو النص بلا قارئ إذاً؟ لكننا نعود ونتذكر ما قاله إدوارد سعيد عن كون الكتابة فعلاً يقع في العالم.
هكذا، قرر أحمد عبداللطيف أن يخوض المغامرة وينشر كتاباً في عنوان «إلياس». وأثناء فعل القراءة يختلط الأمر عليك، فلا تعرف أيهما أكثر جنوناً: الكاتب أم إلياس؟ وبعد أن تختلف التواريخ التي تنتهي بها الكثير من فصول النص (641، 711، 1610، 1936، 1954، 1967، 1973، 1991، 2011، 2013، 2052) وهي تواريخ تستدعي لا شعورياً صورة ما وإحساساً مصاحباً في مزاج القارئ، من دون أن تتغير نبرة هذا الـ «إلياس» المتشككة، المستسلمة أحياناً، اللامبالية، العدوانية، الرافضة، العدمية، المباشرة، الغرائبية، تدرك (أو لا تدرك) مقصد الكاتب وتتأكد من قدرته اللامحدودة على المغامرة حتى النهاية.

مكونات حياة
«كأن حروف اسم إلياس مكونات لحياتي. مكونات لتاريخي. مكونات لهويتي. هويتي التائهة. هويتي وأنا لا أعرف هويتي. كأن الاسم في نهاية المطاف هو أنا. أنا وأنا لا أعرف من أنا. ربما أكون كل «إلياسات» العالم من دون أن أدري. وربما أكون جزءاً من «إلياسية» كبيرة ولا يمكن السيطرة على الإلياسية» (11). أسهل الحلول لتأطير النص عند قراءة هذا المقطع هو القول إن إلياس يسعي إلى حل أزمة الهوية، وهكذا حتى نصل إلى هوية الإنسان العربي وواقعه المأزوم دائماً. لكنّ استنتاجاً كهذا يعيد النص فوراً إلى رؤية نمطية للرواية العربية، تلك الرؤية التي تنكر على النص قدرته على استكشاف مناطق أخرى مغايرة لمسألة الهوية وأزماتها في فهمها لذاتها وتفاعلها مع الآخر. ولكن، في كل الأحوال لا ينكر النص وجود قارئ من حقه أن يقرأ أزمة الهوية، إلا أن هناك قارئاً آخر لا بد من أن يدرك طبقات أعمق للنص. فإلياس يكتب عن إلياس المتكرر عبر التاريخ بزمكانيته بالمقدار نفسه الذي يكتب به فرديته.
يتكرر إلياس منذ عام 641، وهو زمن الفتح الإسلامي لمصر، ثم يتكرر عند سقوط الأندلس، ويعاود الظهور كنموذج لقاتل الشاعر لوركا، ويتكرر في تاريخ مصر الحديث عند تلك النقاط المفصلية. يتكرر إلياس في اللغات والأزمنة وهو دائماً الغريب، المهمش، المتفرج، الكتوم، اللئيم، الساذج. يسير مع القطيع ويحب الجماعة لكنه على وعي دائم بغيريته ويرفض الجماعة، لا يجادل حتي عندما منح لساناً غريباً عام 1954 في مصر: «لسان الغريب التزم الصمت. لسان الغريب يقول كلاماً ولا أفهم معنى الكلام» (51).

نموذج أولي
يتكرر إلياس ويراقب نفسه بعين ويكتب الآخر الإلياسي بالعين الأخرى. بهذا التكرار الذي يؤشــر إلى الكل ويحتفظ بالأنا الفردية في الجملة الواحدة يدرك إلياس في النهاية (وإن كان إدراك القارئ يأتي مبكراً عن ذلك) أنه خالد: «أنا إلياس. وأنا خالد. أعرف أني خالد. لا أقول خالد لكني أعرف أني خالد (189).
إذا كان إلياس متكرراً وكائناً منذ لحظة ما غير محددة، وكأنه يتوالد من ذاته، يتكاثر بلا مجهود، ليتحول إلى نموذج أولي، لا يتلاشى، وموته لا يعني اختفاءه، فما الذي يحفظ له فرديته، ومن أين تنبع خصوصية الشخصية والروائية والإلياسية التي تتوالد داخل النص كدوائر صنعتها حصاة صغيرة ألقيت في البركة؟ من اللغة، تلك اللغة التي تم تجريدها من علامات الترقيم وضمائر الملكية وضمائر المفعول وعلامات التنوين والفضلات. جرد إلياس الجملة من كل ما هو متعارف عليه من أدوات تحول الكلام إلى لغة. فجاءت الجملة تتوالد من الجملة، أو من الكلمة الأخيرة في الجملة التي تسبقها. في تركيب الجملة بهذا الشكل يحاكي إلياس العجز عن الفعل. في الاضطرار وعدم الإمكان تتبلور شخصية إلياس لتعلن عن نفسها باللغة.
لكن العجز عن الفعل الذي يتخذ من اللغة مرآة له داخل النص ليس العجز المباشر، وإن كان إلياس قد تهيأ له في لحظة أن لديه ساقاً عرجاء، بل هو العجز الفلسفي. بمعنى آخر يعود إلياس باللغة إلى شكلها المجرد من كل ما اعتراها من محسنات وعلامات ترقيم ليحاكي قوة العالم في عزوفه عن التغير من ناحية، ويحاكي واقعاً تجرد من كل محسناته من ناحية أخرى. تتحول اللغة في نص «إلياس» إلى التقنية الرئيسية الحاملة للرؤية. فيصبح النص مستقلاً كمعمل فني لكنه متخذ من الواقع الإمبريقي المادة الخام التي يعيد إليها الصفات الني أنكرناها عليها في الواقع، وهي فلسفة تيودور أدورنو عن ماهية العمل الفني. فالعمل مستقل من ناحية منحه لما يصوره هوية جمالية تختلف عن هوية المادة نفسها خارج العمل، وبهذا ينهل نص أحمد عبداللطيف من الواقع لكنه يستقل عنه عبر الهوية اللغوية. كأن سمات نص «إلياس» تطل على العالم فتمنحه بعض المعنى الضائع. أي مغامرة هذه؟


جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...