الأحد، ديسمبر 16، 2012

خطبة نوبل 2012... للصيني مويان


مويان الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 2012

 حاكي حكايات

ترجمة: أحمد عبد اللطيف
                                                      
     أعضاء الأكاديمية المحترمون، السيدات والسادة:

     ربما تعرّفتم  بفضل التليفزيون والإنترنت على قريتي ومسقط رأسي، منطقة دونجبي بجاومي، البعيدة جداً عن هنا. وربما شاهدتم أبي، رجلاً في التسعين، أو أخوتي، وزوجتي، وبنتي، وحفيدتي التي تبلغ من العمر ستة عشر شهراً. مع ذلك، في هذه اللحظة المجيدة جداً، لا أفتقد إلا إلى شخص واحد، أمي. ويمكننا أن نراها الآن. عندما انتشر خبر فوزي بجائزة نوبل في أرجاء الصين، هنأني الكثيرون، غير أنها الوحيدة التي لم تستطع أن تفعل ذلك.

     ولدت أمي في عام 1922 وماتت في 1994. كانت رفاتها مدفونة في حديقة خوخ بشرق قريتي. والسنة الماضية، وبسبب تشييد خط سكة حديد يعبر بهذا المكان، اضطررنا لنقل قبرها لمكان آخر بعيد عن القرية. انتبهتُ عند فتح القبر أن الصندوق الذي يضم الرماد قد اندثر، وصار جزءاً من الأرض. ولم يسعنا إلا أن نقبض على قليل من التراب كذكرى لوضعه في المقبرة الجديدة. شعرتُ، بداية من تلك اللحظة، بأن أمي كانت دوماً جزءاً من الأرض، وأنني عندما أقف فوقها لأقص الحكايات، أعرف أن أمي تنصت إليّ.

     أنا آخر أبناء أمي.

     إحدى أولى ذكرياتي معها كانت عندما حملت الزجاجة الحرارية الوحيدة التي كنا نمتلكها لأملأها بماء ساخن من المطعم العام. ولأنني كنت جائعاً وخائر القوة، لم أستطع تحمل ثقل الزجاجة، فكُسرت. ولأن الخوف تملكني جداً، اختبأت في كومة قش طول اليوم دون أن أتجرأ على الخروج. وحل الليل، وسمعت أمي تناديني بلقب العائلة. فخرجت من هناك متوقعاً ان تزجرني أو تضربني؛ إلا أنها لم تفعل، بل على العكس ملّست على رأسي وأطلقت تنهيدة طويلة.

     وأقسى ذكرى كانت اليوم الذي رافقتُ فيه أمي لنجمع القمح المتساقط في حقل تملكه الدولة.  جاء حارس الحقل، فهرب الجميع ركضاً بأقصى سرعة، إلا أمي التي  هرولت بالكاد بقدمين ملفوفتين بضمادة. فأمسك بها الحارس الذي كان طويلاً جداً وقوياً وسدد لها لكمة في وجهها. لم تستطع أمي أن تتحمّل الضربة فتهاوت على الأرض. الحارس أخذ منا القمح الذي جمعناه وانصرف وهو يصفر كأن شيئاً لم يكن. بينما ظلت أمي تنزف من فمها وهي جالسة على الأرض، ورُسم على وجهها يأس لا يمكنني أن أنساه طيلة حياتي. وبعد ذلك بسنوات طوال، عندما صار الحارس الشاب مسناً وحل الشعر الأبيض محل الشعر الأسود كاملاً، رأيته بالصدفة في السوق. أردتُ أن انقض عليه لأضربه كثأر، غير أن أمي منعتني وسحبتني من يدي وقالت بسكينة:"يا بني، السيد الذي ضربني والسيد الذي تراه ليسا نفس الشخص الآن".

     ثمة ذكرى أخرى لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتي، كنا ظهيرة حفل منتصف الخريف، واستطعنا بعد صعوبات كثيرة أن نصنع مكرونة باللحم والخضار؛ وكان نصيب كل منا قطعة صغيرة. وعندما كنا على وشك الأكل، اقترب شحاذ مسن من بيتنا. أخذتُ قطعة وعدة شرائح من البطاطس الجافة وأعطيتها له، مع ذلك غضب وقال:"أنا رجل عجوز، وأنتم تأكلون المكرونة باللحم وتهبونني القليل من البطاطس الجافة، يا لقلوبكم الباردة". أغضبتني كلماته فدافعت:"نحن لا نأكل المكرونة باللحم إلا عدة مرات في العام. وكل واحد فينا لا يأخذ إلا القليل، ما يملأ بالكاد نصف معدتنا. ولم يتبق منا إلا البطاطس الجافة، إن كنت لا تريدها، فاذهب إلى الجحيم!". حينها زجرتني أمي. ثم قامت وأخذت نصف ما عندنا وأعطته كله للسيد.

     أكثر الذكريات التي سببت لي ندماً كانت في يوم رافقتُ فيه أمي لنبيع الكرنب الصيني. بالصدفة، حصّلتُ عشر سنتات زيادة من رجل مسن. جمعتُ الحصيلة كلها وذهبتُ للمدرسة. وبانتهاء اليوم الدراسي عدتُ للبيت، فشاهدتُ أمي، وهي المرأة التي نادراً ما تبكي، تأن بحزن مفجع. كانت الدموع تكسي وجهها. لم تنهرني أمي، بل تركت الكلمات تهرب برقة:" ابني، أي خزي جلبته لي!".

     في طفولتي، أصيبت أمي بمرض رئوي. كان الجوع والمرض والإرهاق سحب أسرتنا لعمق هاوية يأس قاتمة. وكل يوم كان يتضح أمامي تنبوء فظيع، كان يبدو لي أن أمي قد تنتحر في اي لحظة، وكلما عدت إلى البيت من العمل، وعند دخولي من الباب، كنت أصرخ باسمها بصوت عال. وأهدأ بعد أن تجيبني وأكمل يومي؛ وفي حالة عكس هذه، كنت أضطرب، وأبحث عنها في كل ركن، بما فيها الغرفة الخارجية وغرفة المطحن لأجد أي أثر لها.  وذات مرة، بعد أن مشطت كل الأماكن الممكنة، لم أتمكن من العثور عليها، هكذا جلست في الطرقة وشرعت في البكاء بكل قوتي. في تلك اللحظة تحديداً، رأيت أمي قادمة من بعيد ومعها حزمة حطب. عبّرت لي عن ضيقها من بكائي دون أن أستطيع أن أشرح لها كم أنا مشغول عليها. شعرتْ أمي بسر قلبي وقالت:"يا بني، لا تشغل بالك، حتى لو فقدت كل مباهج الدنيا، ولم يحن يومي، فلن أرحل للعالم الآخر".

     أنا قبيح بالوراثة منذ ولدتُ، وكثيرون من أبناء قريتي كانوا يسخرون مني في وجهي؛ وبعض زملاء دراسة أشرار ضربوني حتى لهذا السبب. ذات يوم عدتُ للبيت، وبدأت أبكي بحزن كبير، فقالت أمي:"يا بني، لست قبيحاً. أنت ولد طبيعي، كيف تقول إنك قبيح؟ إضافة لذلك، لو ظللت شاباً بقلب أبيض وصنعت الخير، حتى لو كنت قبيحاً بالفعل، ستصير ولداً جميلاً". عندما انتقلتُ للمدينة، بعض أشخاص قد تلقوا تعليماً جيداً كان يسخرون مني بالنكات الحمقاء حول وجهي، أحياناً من وراء ظهري وأحياناً أخرى أمامي. في تلك اللحظات، كنت أستحضر كلمات أمي، فتهدئني، وأنتبهتُ أنني أنا من يتحتم عليه أن يطلب منهم المعذرة.
     كانت أمي أمية، لذلك كانت تحترم بشكل مفرط كل من تلقي تعليماً. كانت حياتنا مليئة بالصعوبات، ولم يكن بوسعنا توفير ثلاث أكلات عادية يومياً، غير أنني كلما طلبت منها شراء كتاب أو ورق، لم تكن تتأخر. كانت امرأة جادة في العمل، وتكره الشباب الكسالى، لكنني كلما كرست وقتاً لقراءة الكتب ونسيت عملي، كانت تلتمس لي عذراً.   

     ذات مرة جاء حكاء إلى سوق قريتنا. فهربتُ من الأعمال التي كلفتني بها أمي وذهبت للسوق لأسمع الحكايات. نهرتني أمي على ذلك. وبالليل، عندما بدأتْ في تجهيز المعاطف الشتوية تحت ضوء مصباح الزيت الخافت، لم أستطع السيطرة على نفسي وقصصت عليها الحكايات التي تعلمتها خلال اليوم. في البداية، لم تكن لديها رغبة لسماع أي كلمة لأن الحكاء كان لا يبدو لها مهنة عادية وأن الحكائين ليسوا إلا ثلة من الرجال الثرثارة والمهرجين؛ إضافة لذلك، فالحكايات التي يحكونها لا تقدم أشياءً مفيدة. مع ذلك، جذبتها رويداً رويداً الحكايات التي بدأت في روايتها. بعد ذلك، كلما أقيمت الاحتفالات، لم تكن أمي تكلفني بأي عمل؛ أعطتني بذلك إذناً ضمنياً بالذهاب لسماع الحكايات. ولكي أكافيء كرمها وأيضاً لأزهو بقوة ذاكرتي، كنت أقص عليها كل التفاصيل الخاصة بكل الحكايات التي سمعتها طوال اليوم.

     بعد فترة قليلة، لم يعد يشبعني حكي الحكايات التي يحكيها الحكاء كما هي، هكذا شرعت في خلق تفاصيل أثناء القص. وبهدف أن تروق لأمي، كنت أضيف مقاطع وأحياناً أعدل النهايات. مع الوقت لم يقتصر المستمعون على أمي وحدها، بل انضم لها أختى وخالاتي، وشكّلت جدتي جزءاً منهم. أحياناً كانت أمي تعبر عن قلقها بعد سماعها للحكاية. كان يبدو أنها توجه كلامها لي لكن أيضاً ربما توجه لنفسها. "يا بني، أي مهنة ستمتهن في المستقبل؟ أتريد أن تعمل في حكي الحكايات؟"

     أدركتُ قلق أمي لأنهم في قريتنا لم يكونوا يحترمون الولد المتكلم، فأحياناً ما يجلب المتاعب لنفسه والمشاكل لعائلته. في قصتي "الثور" أحكي عن ولد  مرفوض في قريته لأنه يتحدث كثيراً، إنها حكاية صباي. كانت أمي تذكرني بتكرار أن أتحدث قليلاً لأنها تتمنى أن أكون ولداً هادئاً وكريماً، وصامتاً. مع ذلك، برهنت أنني أتمتع بقدرة لغوية وميل كبير للحديث، وهو ما كان يمثّل خطورة واسعة. وكانت قدرتي على حكي الحكايات يسبب لأمي بهجة. يا للمعضلة التي كانت تعيشها! 

     يقول المثل الصيني:"من الممكن ن تغير عائلتك الملكية، لكن من الصعب تغيير شخصيتك"، ورغم أن أبويّ قد ربياني بكثير من العناية، إلا أنهما لم يستطيعا تغيير كوني أحب التكلم. وهذا ما أعطى معزى ساخر لاسمي مو يان، الذي يعني "لا تتحدث".

     لم أستطع أن أنهي دراستي وتحتم عليّ أن أترك المدرسة لأن حالتي الصحية، في طفولتي، كانت حساسة جداً؛ لم أكن أستطيع بذل مجهود كبير ولم يسعني إلا رعي غنمنا  بمرج مهجور. وعندما كنت أسوق البقر إلى المرج ونعبر من أمام باب المدرسة، كنت أرى زملاء الدراسة يلعبون ويدرسون فأشعر كم أنا وحيد وبائس. بداية من تلك اللحظة أدركت الألم الذي من الممكن أن نسببه لأحد، حتى لطفل عندما يقصونه من وسط الجماعة التي يعيش بينها.

     أطلقت الماشية في المرج وتركتها ترعي بحرية. تحت سماء بلون أزرق كثيف تبدو كمحيط لا نهائي، في هذا المرج الأخضر الرحب لدرجة أنه لا يمكن الوقوف على حدوده في أي اتجاه، لم يكن هناك إلا أنا ولم يكن يُسمع لأحد إلا زقزقة العصافير. كنت أشعر بأنني منعزل جداً، كأن روحي قد هربت مني ليبقى جسدي فارغاً من الداخل. كنت أرقد أحياناً في المرج ناظراً إلى السحاب الذي كان يطفو فوقي بكسل وتأتيني صور كثيرة غير واقعية وبلا مغزى. كانت تنتشر في قريتي حكايات عن ثعالب قديمة قد تتحول لنساء جميلات. لهذا كنت أتخيل أن واحدة من تلك الجميلات قد تأتي وتصطحبني بينما أرعى الماشية، لكنها لم تظهر أبداً. مع ذلك رأيت ذات مرة ثعلباً  بلون أحمر لافت يقفز من فوق شجيرات بمواجهتي. وقعتُ على الأرض جراء الرعب. واختفى في الحال، غير أنني بقيت في مكاني جالساً ومرتعشاً خلال وقت طويل. وأحياناً كنت أجلس مقرفصاً بجانب ثور لأنظر لعينيه ذات اللون الأزرق السماوي وانعكاسي فيهما. وأحياناً كنت أحاكي زقزقة العصافير وأحاول التحدث معها؛ وأحياناً كنت أدع أسرار قلبي لشجرة. إلا أن العصافير لم تعبأ بي، ولا الأشجار. وبعد سنوات طوال، عندما أصبحت كاتباً، ضمّنت رواياتي كل الخيالات التي راودتني في صباي. وأشاد الكثيرون قدرتي على التخيل. وبعض هواة الأدب سألوني عن السر وراء كل هذا الخيال. حينها كنت أجيبهم بابتسامة مُرّة.

     كما قال جدنا الحكيم لوازي:" في السعادة تختبيء المصائب؛ وفي المصائب تكمن السعادة". وخلال مراهقتي عانيت آلاماً كثيرة، مثل ترك المدرسة، الجوع، العزلة ونقصان الكتب. إلا أنني فعلتُ ما فعله كونجون شن، وهو كاتب كبير من جيل سابق: قراءة ما يمكن في المجتمع والحياة فكلاهما معاً يشكل كتاباً كبيراً غير مرئي. وما حكيته في البداية عن السوق واستماع الحكايات هو الصفحة الأولى في كتاب حياتي.

     بعد أن تركتُ المدرسة، نفيتُ نفسي مع البالغين وبدأت مرحلة طويلة من "القراءة بالأذن". من مئتي عام، كانت يعيش في مسقط رأسي حكّاء عبقري: السيد سونجلينج بو. كثيرون من أهل قريتي، بمن فيهم أنا، أصبحنا ورثته. وفي الحقل التابع للحكومة، وفي مزرعة الإنتاج، وفي سرير أجدادي، والعربة المرتجفة التي يجرها ثور، سمعتُ مئات الحكايات عن الأشباح والأروح، مئات الاساطير التاريخية، حكايات مثيرة مرتبطة بشكل وثيق بالطبيعة القروية والتاريخ العائلي، وقد أثارت فيّ شعوراً واضحاً بالواقع.

     لم أكن أتصور أبداً ان تلك الاشياء قد تفيدني في المستقبل كمواد خام لكتاباتي. في تلك الفترة لم أكن سوى هذا الولد الذي تدهشه الحكايات والكلمات التي تستخدم في الحكي. في تلك الفترة كنت، بالطبع، مؤمناً. كنت اعتقد أن كل شيء له روح. وعندما كنت أصادف شجرة عالية وكبيرة، كانت تراودني الرغبة في إن أعبر لها عن احترامي. وعندما كنت أرى عصفوراً، كنت أنشغل بمتى سيصبح كائناً بشرياً. وعندما أرى رجلاً غريباً، كنت أشك إن كانت روح حيوان دخلت في جسد بشري. وكل ليلة مع عودتي للبيت من مكتب مزرعة الإنتاج، كان يهاجمني خوف مروع. ولكي أطرده، كنت أغني بصوت مرتفع وأنا أركض للبيت. في تلك الفترة كنت أبدأ في المراهقة، وصوتي يتغير، والأغاني الفظيعة التي كنت أغنيها بصوتي الخشن كانت عذاباً لجيراني في القرية.

     خلال الواحد وعشرين سنة التي عشتها في قريتي، كانت أطول رحلة قمت بها إلى كينجاتو بالقطار. في تلك الرحلة تُهتُ تقريباً بين الواح خشب إحدى ورش النجارة. وعندما سألتني امي عن الطبيعة هناك، أجبتها بأنه للأسف لا شيء هناك سوى ألواح هائلة من الخشب. لكن بفضل هذه الرحلة، اتضح لي أنني يجب أن أخرج من القرية وأرى العالم خارجها.

     في فبراير 1976 اكتملت في كل شروط الالتحاق بالتجنيد، فحملتُ معي أربع مجلدات عن "التاريخ الموجز للصين" التي اشترتها لي أمي بمال ذهبها الذي باعته، وخرجت هكذا من منطقة دونجبي بقرية جاومي، المكان الذي أحمل له كل المشاعر، الإيجابية والسلبية، لأبدأ مرحلة هامة في حياتي. يجب أن أعترف أنه لولا التقدم الكبير وتطور المجتمع الصيني خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، بسبب الانفتاح والإصلاح، ما كان هناك كاتب مثلي الآن.

     كنتيجة للملل العسكري، دخلت في موجة أدبية جديدة وفي الانفتاح الفكري في ثمانينات القرن الماضي. حينها لم أكن إلا هذا الولد الذي يروق له سماع الحكايات وترديدها، هكذا قررت البدء في الحكي بقلم رصاص. مع ذلك، تعثرت في البداية في صعوبات كثيرة لأنني لم أنتبه إلى أن تجربة حياتي في القرية خلال اكثر من عشرين سنة كانت كنزاً. كنت أظن أن الأدب تسجيل اللحظات العذبة وتذكر الناس النبلاء، كنت أعتقد أنه ببساطة وصف الأبطال والصور الاجتماعية المثالية، هكذا رغم نشري عدة أعمال، لم تتمتع بالجودة.

     في عام 1984 اجتزت امتحان القبول والتحقت بكلية الآداب بأكاديمية الفنون التابعة لجيش التحرر الشعبي. وبفضل ملاحظات ومساعدات أستاذي الجليل، الكاتب الشهير هوزهونج كسو، تمكنت من تجهيز عدة حكايات وروايات قصيرة، مثل "الماء الخريفي" "البحر الجاف" "الفجل الأحمر غير المرئي"، "ذرة رفيعة حمراء"، إلخ. في الماء الخريفي، ظهر لأول مرة اسم قريتي: منطقة دونجبي بجاومي، وبداية من تلك اللحظة، شعرت بأنني فلاح متجول عثر في النهاية على الحقل الذي كان يبحث عنه، كاتب تائه وجد في آخر المطاف نبع إلهامه الخاص. يجب أن اعترف انني في عملية إبداع منطقة دونجبي بقرية جاومي في أعمالي، ألهمني كثيراً كل من الامريكي ويليام فوكنر والكولومبي جارثيا ماركيز. لم أكن حتى ذلك الحين قد قرأت أعمالهما بتدقيق، لكن روحهما المبدعة وسخاءهما أثارا حماستي كثيراً. لقد جعلاني أفهم أنه على كل كاتب أن يكون له خصوصيته. كل شخص يجب أن يكون متواضعاً مع مرور الأيام، مع ذلك يجب أن يكون متغطرساً وقاطعاً في إنتاجه الأدبي. اتبعت خطوات هذين الأستاذين خلال سنتين، لكن بعدهما انتبهتُ أنني يجب أن أبتعد عنهما. وقد عبرت عن هذا في مقال لي:"هذان الأستاذان مثل فرن ملتهب وأنا مثل قطعة من الثلج، لهذا لو اقتربت أكثر منهما سأتبخر". في رأيي، التأثير الذي نتلقاه من كتاب آخرين ينجم عن التشابه الروحي الذي نخبئه داخل أعماق قلوبنا، كما نقول في الصين:"الروحان المتشابهتان تتفاهمان سريعاً". بالتالي، حتى ولو لم أقرأهما بعناية، فمن خلال صفحات قليلة كنت أستطيع أن أفهم ما فعلوه، أستطيع أن أفهم كيف فعلوه، وبعدها يتضح لي ما يجب أن أفعل والطريقة التي أفعل بها.
     ما فعلته كان بسيطاً جداً، حكاية الحكايات على طريقتي. وطريقتي هي نفس طريقة حاكي الحكايات بسوق قريتي، حكايات أعرفها جيداً؛ أحكيها بطريقة حكي أجدادي أيضاً وعجائز قريتي. بكل صراحة، عندما أحكي حكاياتي، لا يمكنني أن أتخيل من سيكونون قرائي. ربما قاريء مثل أمي، أو مثلي. حكاياتي هي تجارب الماضي، كما هي تجربتي في "بحر جاف" هذا الولد الذي يضربونه بقسوة، وفي الفجل الأحمر غير المرئي، هذا الولد الذي لا يتحدث منذ بداية العمل لنهايته. انا مثل هذا الولد، ضربني أبي ضرباً مبرحاً ذات مرة لانني ارتكبت خطأ. أنا أيضاً من كلفوني بمنفاخ أثناء تشييد جسر. بالطبع، كلما كانت الخبرات فريدة، كلما أمكن ضمها في متن رواية، لكن الروايات يجب أن تكون خيالية وخلابة، فلا يصح كتابة تجارب لا جدوى منها. أصدقاء كثيرون أخبروني أن "الفجل الأحمر غير المرئي" أفضل رواياتي. بخصوص هذا الرأي، لا ارفضه ولا أقبله، لكن على أية حال الفجل الأحمر غير المرئي هي أكثر الأعمال التي تحمل بصمتي وتبرز مغزاها العميق. هذا الولد صاحب البشرة الغامقة الذي يتمتع بقدرة لا تقارن لتحمل كل أنواع الآلام ولديه قدرة أخرى فريدة بإدراك تغيرات الحياة الصغيرة، هذا الولد هو روح هذه الرواية. ورغم أنني صنعت شخصيات اخرى كثيرة بعده، لا أحد يقارن بهذا الولد لأنه بشكل عملي الصورة الكاملة لروحي. بمعنى آخر، من بين كل الشخصيات التي يصنعها الكاتب نفسه هناك دائماً شخصية أعلى من الأخريات؛ هذا الولد الصامت من هذا النوع، لا يتحدث غير أنه قادر على تحريك كل الشخصيات وملاحظة الأحداث المبهرة التي تحدثها الشخوص في مسرح مثل جاومي.

     الخبرات الشخصية محدودة. وعندما انتهت هذه الحكايات لم أجد من وسيلة أمامي إلا قص حكايات الآخرين. حكايات أقاربي وجيراني، والحكايات التي حكاها لي عجائز القرية عن أسلافي، والتي دخلت رأسي كأنها جنود تجتمع لتسمع أمراً. توغلت كلها لداخلي على أمل أن تكون مكتوبة بيدي. جداد من أبي، أبواي، أخوتي الأكبر مني، أعمامي، زوجتي وابنتي، كلهم ظهروا كشخصيات روائية. بالطبع أدخلت عليهم تغييرات أدبية ليكونوا أكثر معنى وليصيروا صوراً شعرية حقيقية.

     في روايتي الأخيرة "ضفدعة"، تظهر صورة خالتي. وبعد إعلان فوزي بنوبل ذهب صحفيون كثيرون إليها ليحاوروها. في البداية، تمتعت بصبر جم وأجابت على الكثير من أسئلتهم، لكنها لم تستطع تحمل المضايقات كثيراً فاختبأت في بيت ابنها، الذي يعيش في عاصمة مقاطعتنا. كانت خالتي الموديل الحقيقي الذي اشتغلت عليه أثناء إعدادي للرواية؛ مع ذلك، تختلف الشخصية الروائية كثيراً عن خالتي. فالشخصية قوية جداً كأنها عضو في مافيا، بينما خالتي ظريفة جداً ومبتهجة، زوجة كاملة وأم ساحرة. خالتي الحقيقية تمتعت بحياة سعيدة جداً حتى الآن، بينما خالتي الروائية، عندما شاخت، عانت من الأرق الناتج عن جرح نفسي عميق وكانت ترتدي ثياباً أسود كل الأيام كأنها شبح يتجول بالليل. ينبغي أن أشكر خالتي الحقيقية على تسامحها لأنها لم تغضب بعد أن عرفت أنني قد وصفتها بهذه الطريقة؛ أقدر كذلك ذكاءها لأنها استطاعت فهم العلاقة المعقدة الموجودة بين الشخصيات الأدبية والواقعية.

    عندما ماتت أمي، خنقني الألم وقررت أن أكتب كتاباً عن حياتها. أشير إلى "نهود كبيرة ومؤخرات عريضة". ولأنني كنت أعرفها جيداً طيلة حياتي وكنت ممتلئاً بمشاعري ناحيتها، أنجزت المسودة الأولى لهذه الرواية في خمسمائة الف كلمة خلال ثلاثة وثمانين يوماً.

     في "نهود كبيرة ومؤخرات عريضة" تجرأت واستخدمت تفاصيل كنت أعرفها عن حياتها؛ مع ذلك، فيما يخص تجاربها العاطفية، اخترعتُ جزءاً منها وراكمت تجارب الأمهات من سنها في قرية جاومي. ووضعت في إهداء الكتاب العبارة التالية:"إلى روح أمي"، مع ذلك، فهذا العمل في الواقع مهدى إلى كل أمهات هذا العالم. وهذا أحد طموحاتي، مثل طموح أن أمتص الصين والعالم فتكون جاومي صورته المصغرة.

    هناك طرق مختلفة لإلهام الكُتّاب، وكتبي أيضاً لها منابع إلهام متعددة. بعض الكتب استلهمتها من أحلامي، كما حدث في "الفجل الأحمر غير المرئي"، وبعض آخر من الواقع، كما حدث في "رقصات الثوم". أياً كان مصدر الإلهام، التجارب الشخصية لا غنى عنها ولها تأثيرات هامة، حيث تزود العمل بفرادة أدبية. على العمل الأدبي أن يتمتع بشخصيات مختلفة مرسومة بشكل جيد بصفاتها الخاصة، بحيث تبرز لنا كلماتها اللامعة داخل بنية روائية فائقة. أريد أن أتحدث قليلاً عن "رقصات الثوم". لقد رسمت في هذا العمل شخصية هامة جداً: حاكي حكايات. لكنني استخدمتُ الاسم الحقيقي لصديق في الواقع حكّاء، هكذا يجب أن أعتذر له. بالطبع، ما يفعله في الرواية متخيل. لقد حدثت هذه الظاهرة في مرات كثيرة من أعمالي: عندما أبدأ في كتابة رواية أريد أن أستخدم أسماءً حقيقية لأنقل شعوراً حقيقياً، ومع ذلك، عندما أنجز الرواية يكون من المستحيل تغيير هذه الأسماء. في أحيان كثيرة، الأشخاص الحقيقيون الذين استخدم اسماءهم في اعمالي يبحثون عن أبي ليشكوا إليه. أبي لا يعتذر لهم فحسب، بل يهدئهم ويشرح لهم قائلاً:" العبارة الأولى في ذرة حمراء رفيعة عن أبيه ويقول فيها: أبي نجل قاطع طريق شرير. وإن كنت أنا لم اعبأ بما قاله، فلماذا يجب أن يصيبكم الحنق؟".

          عندما كتبت روايات من نوع "رقصات الثوم"، اقصد الروايات الواقعية، المعضلة الكبيرة التي واجهتني لم تكن الخوف من مواجهة الظلمات الاجتماعية ونقدها، بل كيف يمكنني أن اسيطر على الشغف العارم والغضب حتى لا أضل طريقي صوب السياسة ولا أبتعد عن الأدب. لا أريد أن أكتب تاريخاً للأحداث الاجتماعية. فالروائي جزء من المجتمع، ومن الطبيعي أن يكون له آراؤه الخاصة وأفكاره؛ مع ذلك، عندما يتصدى للكتابة يجب أن يكون عادلاً، يجب أن يحترم الشخصيات كما يحترم الشخصيات الواقعية. وكلما تحقق هذا الشرط، من الممكن أن يتمخض الواقع عن أدب ويتفوق عليه، من الممكن أن ينشغل بالسياسة لكنه يعلو عليها.

     لقد منحتني الفترات الزمنية الطويلة والصعبة التي عشتها تفاهماً كبيراً للبشرية. أعرف ما هي الشجاعة الحقيقية وما هي الرحمة النقية. أفهم أن في القلب البشري مكان لا يمكن تعريفه بالخير أو الشر؛ أنه مظهر رمادي يهب الكاتب احتمالية كبيرة لصنع عمل جليل. وكلما اختار بشكل صحيح ووصف بشكل حيوي هذا المكان الرمادي والملتبس، استطاع عمله أن يكون أكثر جودة، فيتجاوز حدود السياسة، ويصبح أدباً حقيقياً.

     لا يريحني الحديث عن أعمالي بلا توقف، لكن حياتي ورواياتي وجهان لعملة واحدة، ولو لم أتحدث عن أعمالي، لا أدري عن أي شيء من الممكن أن أتحدث هنا. وبالتالي، اسمحوا لي أن أواصل حديثي.

     بالنسبة لأعمالي الأولى، ولأنني حكّاء حديث، قررتُ أن أموّه بها. لكن، بداية من "محنة الصندل" قررت أن أغير أسلوبي. إن وصفنا أسلوبي السابق على أنه أسلوب حكاء لا يفكّر في القراء، فبداية من هذا العمل تخيلت أنني في ميدان أحكي حكايات لجمهور بكلمات آسرة. هذه الطريقة كلاسيكية في الإعداد لروايات وكذلك كلاسيكية في الروايات الصينية. هكذا تعلمت أساليب الروايات الغربية الحديثة، واستخدمتُ أساليب سردية مختلفة أيضاً، لكن في النهاية، لجأت إلى التقاليد. بالطبع، العودة إلى التقاليد ليست هذا فحسب. "محنة الصندل" والروايات التالية هي مزج التقاليد الصينية والتقنيات السردية الغربية. والروايات المجددة نتاج لهذا النوع. لم أصهر فقط التقاليد بالتقنيات بل أيضاً السرد وفنون فولكلورية أخرى. على سبيل المثال، "محنة الصندل" كانت محاولة لمزج الرواية بالأوبرا المحلية، كما يحدث في رواياتي الأولى، التي تغذت بالفنون الجميلة والموسيقى وحتى الأكروبات.

     أخيراً، اسمحوا لي أن أقدم لكم عملاً آخر لي:"الموت والحياة يستنزفاني". استلهمت عنوان هذا الكتاب من أشعار بوذية. حسب ما قالوه لي، ترجمة هذا العنوان سبّبت للمترجمين من بلدان مختلفة مشاكل، نعم ليست كبيرة لكنها جديرة بالاعتبار. لست متخصصاً في البوذية وفهمي للشعر البوذي سطحي، غير أن السبب الذي لأجله اخترت هذا العنوان لروايتي إعجاب أكنه للأفكار البوذية. وإحدى النقاط الاساسية لهذا الفكر الفهم الحقيقي للكون. يرى البوذيون أن الكثير من الصراعات البشرية بلا معنى. ويبدو العالم الحالي للبوذيين قاتماً جداً. بالطبع، لم أكن أنوي كتابة خطبة دينية في هذا الكتاب؛ ما كتبته تناول مصير ومشاعر الكائن الإنساني، والحدود التي تحده، والتسامح، والجهود والتضحيات المطلوبة لتحقيق هدف شخصي والحصول على السعادة. الشخصية ذات الوجه المائل للزرقة والذي كان يصارع التيار التاريخي هو البطل الحقيقي في قلبي. والشخص الواقعي الذي يتوافق مع هذه الشخصية كان فلاحاً يعيش في قرية بجوار قريتنا. في صباي، كنت أراه يعبر باستمرار من أمام باب بيتنا، دافعاً عربة كارّو تصدر ضجيجاً غريباً وطفيفاً. حمار أعرج كان يجر العربة، وزوجة الرجل كانت من تسحب الحمار. كانت مجموعة العمل الملفتة هذه غريبة جداً وخارجة عن السياق في مجتمع تلك الفترة. وفي نظر أطفال مثلنا، كانوا كائنات مضحكة تسير ضد التطور التاريخي؛ حتى أننا كنا نلقيهم بالحجارة لنعبّر عن اعتراضنا عليهم. وبعد سنوات طوال، عندما شرعتُ في كتابة حكاية عنهم، بزغت هذه الشخصية بوجهها المائل للزرقة، بهذه الصورة، في عقلي. وكنت أعرف أنني، عاجلاً أم آجلاً، سأكتب عنه كتاباً، وأنني سأقتسم حكاياته مع كل العالم. مع ذلك، لم يحدث ذلك قبل 2005، عندما كنت في زيارة معبد بوذي وراقت لي الأسوار التي كانت تمثل "المراحل السبع لعجلة الكارما العظيمة"، حينها جاءت اللحظة لأفهم ما الطريقة الأنسب لحكاية حكاياته.

     حصولي على جائزة نوبل فرض مفارقات كثيرة. فكرت في البداية في أنني بطل هذه التناقضات؛ مع ذلك، انتبهتُ قليلاً قليلاً إلى أن البطل شخص آخر مختلف لا علاقة له بي. وتحولتُ إلى مشاهد دراما بينما أشاهد الآخرين يمثلون على نفس خشبة المسرح. شاهدتُ البطل، الفائز بنوبل، يقدمون له الورود، لكنهم أيضاً يرجمونه بالحجارة وبالماء الوسخ. كنت أخاف ألا يحتمل. مع ذلك، هرب من الورود والحجارة، نظّف نفسه من بقع الماء الوسخ وخرج بهدوء ليلقي على الجمهور خطبة.

     لأنني كاتب، فالكتابة أفضل طريقة للتواصل مع الجمهور. وكل ما ينبغي أن أقوله موجود في أعمالي. الكلمات التي تخرج من الفم يحملها الهواء، بينما الكلمات المكتوبة تبقى للتاريخ. أتمنى أن تستطيعوا قراءة أعمالي بصبر، رغم أنه ليس من حقي بالطبع  أن أجبركم على قراءتها. ولو كنتم قد قرأتموا بالفعل، فلا أستطيع أن أغير آراءكم التي كونتموها عنها لأنه لا يوجد كاتب في هذا العالم يستطيع أن يشبع كل القراء خاصة في زمن مثل الذي نعيش فيه الآن.

     لا أريد أن أقول شيئاً آخر، لكن بوضع المكان واللحظة في اعتباري أشعر بأنني يجب أن أقول، هكذا سأحدثكم بالطريقة الوحيدة التي أعرفها.


     أنا حاكي حكايات وسأظل أرغب في حكي الحكايات لكم.

     في ستينيات القرن الماضي، عندما كنت في الصف الثالث بالمدرسة، نظمت مدرستنا زيارة لمعرض حول المعاناة. تحتم علينا أن نبكي حسب أوامر المعلم. ولأظهر للمعلم كم أنا مطيع لم أرغب أن أجفف دموعي من وجهي. في نفس الوقت، رأيت بعض زملاء الفصل يبللون في الخفاء أصابعهم بأفواههم ويرسمون خطين من الدموع على وجوههم. في النهاية، من بين كل الذين يبكون، سواء عن حق أو نفاقاً، اكتشفت زميلاً بلا دمعة ولا حتى يغطي الوجه بيديه ليتصنع الحزن، بل كانت عيناه مفتوحتين على الآخر وبانطباع مدهوش، كأنه لا يفهم. بعدها، وشيت بهذه الحادثة للمعلم، وبالتالي قررت المدرسة أن تعطيه رسمياً درجات سلبية ولفت نظر. وبعد سنوات طوال، عندما اعترفتُ لمعلمي بمدى الحزن الذي تركه في هذا الحدث، واساني بقوله إن أكثر من دستة من التلامذة ذهبوا ووشوا به أيضاً. مات هذا الزميل منذ عشر سنوات، لكن كلما تذكرت هذه الطرفة، أشعر بأسى عميق. تعلمت من هذه التجربة درساً عظيماً: حتى لو بكى كل العالم، علينا أن نسمح بوجود أشخاص لا يريدون البكاء. وما دام هناك من يتصنعون الدموع، علينا إذن أن نشعر بتسامح خاص ناحية من لا يبكون.
 
     عندي حكاية أخرى لكم. منذ أكثر منذ ثلاثين عاماً كنت أعمل بالجيش. وذات ليلة، عندما كنت اقرأ كتاباً في مكتبي، دخل ضابط قديم، وألقى نظرة على الكرسي المواجه لي، وهمس لنفسه:" حسناً، لا يوجد أحد هنا". نهضت في الحال وتجرأت على الصياح فيه:"ألا ترى أنني هنا؟" غضب هذا الضابط العجوز واحمّر وجهه، وانصرف بخجل. شعرت بالرضا عن نفسي خلال وقت طويل، واعتبرت نفسي رجلاً شجاعاً؛ مع ذلك، بعد سنوات طوال، شعرت بندم عميق.

     اسمحوا لي أن أحكي لكم حكاية أخيرة حكاها لي جدي منذ سنوات كثيرة: كان هناك ثمانية عمال بناء خرجوا من قريتهم الأصلية للبحث عن عمل. وليحموا أنفسهم من عاصفة على وشك الهبوب، دخلوا معبداً مهدوماً. حدث برق ورعد فأضيئت السماء المظلمة، واخترقت أصوات غريبة باب المعبد وبدت هدير تنانين. ماتوا جميعهم من الرعب، وشحبت وجوههم. قال أحدهم:" إنها علامة عقاب إلهي. لابد أن بيننا أحد فعل فعلة شريرة. من هذا الملعون؟ فليخرج الآن. فليخرج ليتلقى العقاب السماوي وحتى لا يمتد الحظ السيء إلينا". بالطبع، لم يكن أحد يريد الخروج. فاقترح آخر:" بما أن أحداً لا يريد الخروج، فلنلق بقبعاتنا إلى الخارج، والقبعة التي لا تعود سيكون صاحبها هو الشخص المقصود. وسنطلب منه حينها أن يرحل". وافق الجميع وألقوا بقبعاتهم إلى الخارج. قبعة واحدة بقت في الخارج وعادت بقية القبعات للداخل. أراد البناءون السبعة طرد الشخص صاحب القبعة التي بقت في الخارج. رفض الولد قبول هذا القرار. فأخذوه الشباب السبعة في تلك اللحظة وطردوه بالقوة. أظن أنكم عند هذه النقطة من الحكاية قد خمنتم النهاية: في نفس اللحظة التي طردوه فيها، تقوض المعبد ومات السبعة أولاد.

     أنا حاكي حكايات.

     منحوني جائزة نوبل لحكاياتي.
    وبعد حصولي على الجائزة حدثت حكايات كثيرة مبهرة ستكون جزءاً من حكاياتي القادمة وتجعلني أؤمن بوجود العدل والحق.
 
     سأواصل في المستقبل حكي الحكايات

     شكراً لاستماعكم!

الأحد، نوفمبر 25، 2012

في موقع الكتابة




ملف عن كتابتي في موقع الكتابة
محبة لكل من ساهم في صناعة هذا الملف


http://www.alketaba.com/index.php?option=com_k2&view=itemlist&layout=category&task=category&id=20&Itemid=149

السبت، نوفمبر 03، 2012

مقال: نجم المرحلة



نجم المرحلة




      تعمل سينما الإخوان حالياً على الإعداد لعدد من الأفلام السينمائية التي ستغطي السوق في السنوات القادمة. المحتوى سيكون متفقاً مع الأخلاق الحميدة، خطب طويلة لتجنب الشرور وفعل الخيرات، دروس مستفادة من الوقوع في الخطيئة، وأنظر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ بطل هذا المحتوى، وهو إخواني بالضرورة، سيمحي صورة النجم الراسخة في أذهان المشاهدين منذ خمسينيات القرن المنصرم( أحمد رمزي، رشدي أباظة، أحمد مظهر، محمود ياسين، محمود عبد العزيز، عادل إمام، أحمد زكي، محمد هنيدي، محمد سعد). وهيئة النجم الجديد سيميزها اللحية، التحدث بلغة عربية سليمة، والدعاء إلى الصلاح، دون سيجارة في الفم، ولا قبلة لبطلة منتقبة. ومع مرور الوقت، بعد أن تترسخ صورة النجم الجديد في ذهن المشاهد، سيكون المرشد والشاطر فتى أحلام كل فتاة، سيكونان رشدي أباظة الألفية الجديدة. بهذا الشكل، سيكون البطل إضافة حقيقية للتاريخ المصري، الذي رصدته الأفلام السينمائية منذ بدايتها، رغم أنها لم تكن أفلاماً تاريخية، ولا كانت معتنية بالتوثيق الاجتماعي.

     صورة النجم بداية من ثورة يوليو وحتى ثورة يناير، سجّلت، دون قصد، التطورات السياسية والاجتماعية، شأنها شأن كل فن. هكذا ولّدت الأحلام الكبيرة، مع إعلان الجمهورية، نجوماً وسيمين، ممشوقي القوام، معتزين بفنهم، فكان رشدي أباظة. في المقابل، كان نتيجة فترة الانفتاح، التي شاهدت تراجعاً في السينما، صعود محمود ياسين، الذي مثّل بنحافته وحدبه صورة لمجتمع مكسور، هش. الثمانينات كانت أسوأ فترة على الإطلاق، لم تقدم السينما، في أغلب أعمالها، إلا أفلام المقاولات، وتربّع سمير غانم، النجم الذي لا يتمتع بشيء على الإطلاق، على عرش هذه الأفلام، فكان النجم التافه. مع ظهور خافت لأحمد زكي، وظهور مميز لمحمود عبد العزيز. ثم كان الظهور الأقوى لعادل إمام، والذي امتد للتسعينات، ولعب أدواراً عكس بها الشارع المصري والتوهان السياسي، فكان الحدق، الفهلوي، المشبوه، المحامي الذي يبيع كل شيء من أجل الثراء. افتقد إمام لمقومات النجم من وسامة ولباقة وأناقة، وعكس صورة أقرب لمجتمع ينهار. وكان تدهور الحالة المصرية مجسدة في النجم الجديد، محمد سعد، اللمبي، المسطول، المبرشم، المتلعثم، وهي الحالة التي كان يجب أن تقوم بعدها ثورة لإصلاح المسار.

     المسيرة طويلة، وحافلة بعدد لا بأس به من النجوم الذين رصدوا تاريخاً حديثاً، مؤلماً، ليس فقط عن طريق القضايا المطروحة، بل أيضاً، وهذا ما أقترحه، صورة نجم المرحلة. هذه المسيرة كان ينقصها، لتكتمل، ولنأخذ الملف كاملاً، النجم الذي يمثل وجهاً آخر لمصر، الوجه الإسلامي، الذي تجنبناه طويلاً، باستثناء عدد من أفلام عادل إمام، كنوع من التجاهل، ودفس الرؤوس في الرمال. والآن، لا مفر من نجم جديد، يمثل مرحلة جديدة في تاريخنا البائس، نجم ملتحي، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، لا بقواعد الفن المتعارف عليها، والتي تتطور باستمرار، بل بقواعد الدين. والفارق بين الفن والدين أكبر من أن يختصر في عبارات، فالأول يطرح أسئلة، بينما الثاني يملك الحقائق المطلقة والإجابات الجاهزة. الأول يعتمد المجاز، والثاني المباشرة. الأول تقدمه السينما، والثاني محله المساجد.   

منشور بأخبار الادب26 اكتوبر  

الأحد، سبتمبر 23، 2012

عزيزي صابر عرب



عزيزي صابر عرب

  
أحمد عبد اللطيف 

     ماذا يعمل السيد صابر عرب في وزارة الثقافة؟ السؤال ينطلق من مواقف الوزير المختلفة التي أصابت الوسط الثقافي بصدمات متتالية، منها تعليقاته باللجنة التأسيسية للدستور حول مادة حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية. فالوزير، الذي يفترض أنه من المدافعين عن الحرية، يتخوّف من حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لغير الديانات السماوية الثلاث، ويسأل مستنكراً:"هل من حق جماعة تعتقد أنها تنتسب لديانة سماوية، كالشيعة مثلاً، إقامة شعائرها وإنشاء دور عبادة لها؟". والسؤال الاستنكاري يفتح المجال لأسئلة أخرى: أليست الشيعة طائفة إسلامية؟ وهل يمكن، طبقاً لنفس المنطق، السماح لليهود بممارسة ديانتهم وعدم السماح للشيعة؟ ثم أليس من حق المواطن المصري إن كان بهائياً أن يمارس عقيدته بحرية؟ ثم أليس من حق المواطن المصري أن يعتقد فيما يعتقد فيه، بكامل حريته التي أعطاها له الله، وأن يمارس عقيدته؟ الأمر لا يتعلق بفتوى دينية ولا بحث فيمن يمتلك الحقيقة المطلقة، الأمر كل الأمر يرتبط بدستور ينظّم العلاقة بين السلطة والمواطن، ومن واجب الدولة أن تحمي مواطنيها وتحترم معتقداتهم. ومع أن التدخل في معتقدات الغير مرفوضة، إلا أنه كان من المتوقع أن يتحدث في هذه المادة وزير الأوقاف أو شيخ الأزهر، وأن يكون وزير الثقافة جبهة صد، ولأن ذلك لم يحدث، وحدث عكسه تماماً،  أسأل سعادة الوزير: عزيزي صابر عرب، ماذا تعمل كوزير ثقافة؟

     لو أضفنا إلى ما سبق تصريحات أخرى للوزير حول الفن والرقابة والمصادرات، فالسؤال يجب أن يتكرر مرات متعددة، فعرب يؤكد أنه لن يصادر الفن الجاد، وأنه سيصادر فقط الفن التافه، وأن الذين يتخوفون من المصادرات هم أصحاب الفن التافه! هل تكفي علامة تعجب واحدة؟ ألا يعلم الوزير أن دوره كمثقف أولاً، وووظيفته كوزير للثقافة ثانياً، تفرضان عليه الدفاع عن حرية الإبداع ورفع القيود ومنع الرقابة؟ ثم أن الحكم للجمهور وللقراء، وليس من حقه أو من حق غيره أن يقوم بدور الوصي، لأنه ليس راعياً والجمهور ليس قطيعاً. ثم أن المدافعين عن الفن ليسوا أصحاب الفن التافه، بل الذين يعلمون أن الإبداع يحتاج مناخاً من الحرية، وأن للإبداع شروطا لا يعرفها أصحاب العمم، الذين انضم إليهم المتلونون من المثقفين، وأولهم من قدّم استقالته بحجة رفضه العمل مع حكومة الإخوان، ثم العمل معها بعد فوزه بالتقديرية، ثم الدفاع عن الرقابة والمصادرة بأكثر مما كانت تتمنى الجماعة المغلقة.

      السؤال الموجه لصابر عرب مشروع بعد أن أعاد وزير "الثقافة" الرقابة على مركز الإبداع، الذي يقدم أفلاماً سينمائية عالمية، يشاهدها كثير من المتخصصين وبعض محبي الثقافة الأجنبية، وهي أفلام بالطبع تتسم ب "الفن الجاد" بمصطلح الوزير. الرقابة التي كانت أيام فاروق حسني، وألغاها عماد أبو غازي ثم شاكر عبد الحميد، أعادها عرب، لا لشيء سوى مغازلة السلطة الجديدة، وتقديم فروض الطاعة، وربما تكون خطوة أولى لإغلاق المركز، ليحل محلها سينما الإخوان، وساعتها سيكون الجواب عن السؤال بسيطاً جداً: وزيراً في حكومة الإخوان!

مقال المنشور باخبار الادب بتاريخ 23\9\2012

الخميس، سبتمبر 13، 2012

بعد المعركة

     توصيني أمي في كل ليلة ألا أنسى أن أطفيء الأنوار حتى لا يصيبني الأرق. تظن السيدة الطيبة أنني لا أفعل ذلك لأنني أخاف الأرواح الشريرة، فأحتمي في النور من زياراتها الثقيلة.


     أنام في النور يا أمي لأنني أخاف الوحدة، اللمبة النيون تسليني حتى أسقط في النعاس، ولوحات الجدران تشعرني بأن وجوهاً أخرى معي، حتى لو كانت محض صور. دخان السجائر يذكرني بالوجود والغياب، وانحرافه عن الخط المستقيم يشكّل صورتي أمام نفسي. هنا يا أمي، تحت هذا النور الذي توصيني باطفائه، ضاجعت امرأة أحببتها ولا زالت الملاءة والوسادة تحمل رائحتها.



     أتعلمين يا أمي، أنا لا أخاف الارواح الشريرة، ولو كنت أعلم يقيناً انها تأتي في الظلام، لأظلمتُ البيت بأكمله، فالونس بالأرواح الشريرة، يا امي، أفضل من الوحدة، والحلم الذي اراني فيه وحيداً اسير في شارع طويل أشد لعنة من وجود الثعابين والقطط السوداء .



     مع ذلك يا امي، سأطيعك مرة واحدة في حياتي، سأطفيء الانوار، لكن ليس من اجل نوم هاديء، بل  دعوة لزيارة روح شريرة.  

الاثنين، سبتمبر 03، 2012

شريعة الحرق


 شريعة الحرق

أحمد عبد اللطيف


(1)
     يُحكى أن حسن البنا كان أديباً، كتب قصصاً ونظّم أشعاراً، فلمّا أسس جماعة الإخوان، حرق كل ما كتب. يُحكى أيضاً أن سيد قطب أول من كتب عن الأديب المصري النوبلي نجيب محفوظ مقالاً نقدياً، غير أنه، بمجرد أن انضم لنفس الجماعة، تبرأ من كتاباته الأدبية. بأي معنى، إذن، يمكن أن نقرأ وجهة النظر الإخوانية في الثقافة إن كان المؤسسون للتنظيم يغسلون ثيابهم من الأدب سبع مرات إحداهن بالتراب؟

(2)

     في بدايات التسعينات، بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل بعامين، وقد بدأت حملة تكفيره بالفعل، انتشرت  بالمدرسة الأزهرية التي تربيت فيها، بفصولها وجدرانها الداخلية وحماماتها وميضاتها، صوراً مرسومة للكاتب مصحوبة بعبارة "نجيب محفوظ.. الأرنب المحفور" وفوق صور أخرى عظمتان متقاطعتان وعبارة "خطر الموت"، وهي نفس العبارة التي كانت تُكتَب على علب الكهرباء في الشوارع ليتفادى المارة الاقتراب منها لأنها، كما نعرف، تصعق بلا رحمة. الرسومات في الحقيقة، وتعليقاتها، لم تكن نتاج خيال تلامذة المرحلة الإعدادية والثانوية، وإن كانت تعبّر عن موقف الكثيرين منهم، بل هي مجهود خاص من المدرسين "الشيوخ" التابعين بالضرورة للفكر الأزهري أو الإخواني أو السلفي، والذين كانوا لا يكفون عن وصف كاتبنا بأنه كافر ويحرضوننا على كراهيته وتشويهه ما استطعنا. ولم يكن الأمر خاصاً برأي أفراد بعينهم، وإنما رأي جماعات إسلامية فيما يخص الأدب عموماً، لذلك لم ندرس في مناهجنا أعمال نجيب محفوظ ولا طه حسين، أسوة بتلامذة المدارس الحكومية في ذلك الوقت. هل هو الصراع الأبدي بين الدين والأدب؟ أم رجال الدين والأدباء؟ وهل استخدام الأدب لنفس مجاز الدين يشكّل، في رأيهم، خطراً كبيراً على الدين؟

(3)

     في حادثة لا تُنسى، أطلق الشيخ السلفي عبد المنعم الشحات حكماً على أعمال محفوظ، وصفها بأنها "تحض على الفحشاء"، وفي ندوة بجريدة أخبار الأدب عقب الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها الإسلاميون نجاحاً ملفتاً، قال الشيخ نادر بكار، المتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي رداً على الشحات بأنها "ليست كذلك تحديداً لكنها خارج الأدب الإسلامي". وفي نفس الجلسة، تحدث الشيخ محمود خليل، الإخواني الذي يعمل مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم، بأن الإخوان ليس لديهم برنامج ثقافي، لكنهم ليسوا ضد الأدب الإسلامي! ووصف أدبَ الكاتب نبيل فاروق بأنه أدب مناسب ورفيع( نبيل فاروق كاتب روايات مسلسلة للجيب، وأشهرها سلسلة رجل المستحيل!) بوضع هذه الأجزاء بجوار الهجمات الإسلامية على روايات مثل "وليمة لأعشاب البحر" والمظاهرات التي خرجت من الأزهر للتنديد بنشر هذه الرواية(وكنت حينها طالباً بالجامعة وشاهداً عليها)، وتجاهل الرئيس الإخواني لفئة المثقفين وعدم التلويح للثقافة أصلاً في خطاب جماهيري توجه به لكل فئات المجتمع، يمكن أن تكتمل الصورة: الإخوان ضد الثقافة، والمثقفون في خندق الأعداء.   


(4)

     الملتحم بالفكر الإسلامي، أو المتابع الجيد لتصريحات رجال الدين، يعلم جيداً أن الأزهر والإخوان والسلفيين ليسوا إلا ثلاثة أصابع تنتمي لنفس اليد، وأن الاختلافات بينهم طفيفة في مقابل إتفاقهم على الخوف من الكتابة والثقافة بشكلها الأعم: الثقافة رفاهية؛ الثقافة تطرح أسئلة أجاب عنها الدين؛ الثقافة تهدد الإسلام. التصريحات السرية والعلنية ليست صادقة تماماً، فالثقافة، كما تعلمون، تجادل الدين وتنزع الغطاء عن الكهنوت وتعريهم. بهذه الطريقة يمكن أن نفهم ضراوتهم في النضال ضد الكتابة خصوصاً، فهي، في نهاية الأمر، ما تفند أقاويلهم وأحاديثهم وتقابل منطقهم الهش بمنطق أكثر صلابة، ليس بتقديم إجابات في معظم الأحيان، بل بطرح أسئلة تهز ملكوتهم المزيف.
    

(5)

     التاريخ أكثر صدقاً على أية حال، وقراءته توفّر الكثير من الجهد المبذول في التوقعات والتحليلات، وتاريخنا مكتظ بالتكفير والذبح والقتل وحرق الكتب، واضطهادنا للفكر التنويري الذي يخص حتى تنفيض الغبار عن الدين نفسه، خير مثال لما نحن عليه. هل يمكن أن يكون الإخوان أقل تطرفاً من مسلمي الأندلس؟ هل سيسمحون بإعادة نشر كتب ابن رشد والغزالي ونصر حامد أبو زيد وضمها للمناهج التعليمية؟ هل سيسمحون في ذروة انتصارهم، بعد أن تهدأ الأمور ويحققون نمواً اقتصادياً(إن حدث) بتداول "أولاد حارتنا" "الشعر الجاهلي" "وليمة لأعشاب البحر" "الإسلام وأصول الحكم" "نقد الخطاب الديني" والكثير غيرها من الكتب التي تطرح أسئلة حول الدين ورجاله. أعتقد أن مجرد طرح السؤال عليهم غير مسموح به، فهم لا يحتملون النقد ولا سماع ما يخالف ما يعرفونه سلفاً.

(6)

     منع مقالات لمثقفين كبار من الجرائد القومية مؤخراً لانتقادها لأداء الإخوان، ليس إلا تلويحة، أو كما يسمونها في كرة القدم "كتف قانوني". الأمر ليس غريباً، لنكن منصفين، ففي عهد الرئيس المخلوع كان ولاء هذه الجرائد للنظام، وهامش الحرية كان متوافراً في الجرائد المستقلة. غير أن المتوقع من سلطة جاءت بالانتخاب، وبعد ثورة عظيمة راح ضحيتها الآلاف، أن تمنح بلا مقابل حرية مطلقة للكُتّاب، حرية تبدأ من التعبير وإلغاء القيود على الصحافة وتمر بالإبداع والفكر. لكن ما حدث كان العكس، فالسلطة الإخوانية أضيق صدراً من سلطة الديكتاتور، وهو ما يعني أننا في مرحلة انتقالية من الدولة البوليسية للدولة الفاشية. وإذا كان الرئيس الإخواني لا يحتمل النقد لذاته في مقال صحفي، كيف من الممكن أن نتوقع تقبّله لنشر كتب تتناول تاريخ الجماعة الملوث بالخيانات والصفقات
(7)

      بعيداً عن سيرة الجماعة والمرشد، فمعركة المثقفين قد بدأت بالفعل في مواجهة تيار يعادي حرية الإبداع، ويفعل كل ما يستطيع لوضع بنود في الدستور المصري يحجّم من هذه الحرية، ويفرض قيوداً من قبيل "عدم المساس بالذات الإلهية" "طبقاً لأعراف المجتمع" "بما لا يخالف القانون". الغريب في الأمر، وما لا ينبغي أن يمر بسلام، كون الأزهر هو المرجعية الدينية في الدستور..فكيف لدولة تطمح إلى  المدنية أن تكون مرجعيتها مؤسسة دينية تتمتع بقدر كاف من التطرف. فالأزهر، كمؤسسة، تعادل الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة كهنوتية، تلك التي ثار عليها مارتن لوثر في العصور الوسطى بثورة إصلاحية استهدفت حصر المسيحية في الكنيسة وإقصاءها عن الحياة العامة، وهي الخطوة التي كان لابد منها بعد أن أصبحت الكنيسة عدواً للعلم وأصبح القساوسة محض محتالين يستغلون تدين الناس في فرض سلطانهم وسيطرتهم على الدولة بمواطنيها. كان لزاماً على التنويريين وقتها أن يثوروا من أجل إقامة "عصر النهضة" المؤسس في حقيقته على العدل والمساواة، وهما قيمتان مسيحيتان، ما يعني أن الثورة الإصلاحية، كما هو معروف، لم تكن ضد المسيحية، بل ضد رجال الدين الذين استغلوها من أجل مصالحهم.  المفارقة الآن أن أوروبا تثور في العصور الوسطى على الكهنوت المسيحي لإقامة دولة حديثة، بينما نلجأ نحن في القرن الواحد والعشرين للكهنوت الإسلامي كحائط صد ضد الدولة الدينية! أكرر: الأزهر والإخوان والسلفيون ثلاثة أصابع ليد واحدة، والثقافة المصرية محاصرة بينها.    
          
(8)

    الاجتماعات التي عقدها المثقفون مؤخراً في مقهى ريش بوسط القاهرة تعكس قلقهم، وهو القلق المباح والضروري في ظل أغلبية إسلامية تكتب الدستور ومحاولة جادة لأخونة الدولة في كافة القطاعات. والاقتراحات التي قدمها البعض جديرة بالتنفيذ، منها عمل وقفات في ميدان طلعت حرب بشكل منتظم ورفع صور لكُتّاب وتنويريين وفنانين، وإعداد طلبات للدفاع عن حرية الإبداع في الدستور، وحرية التعبير في الصحف، وإلغاء تهمة إهانة الذات الرئاسية. الوقفة الأولى جاءت بثمرة، والاستمرار في الضغط قد يأتي بثمار أخرى. في المقابل، التخاذل في الدفاع عن حرية الفكر والإبداع ستكون نتيجته واحدة: سيتكفل الإخوان بحرق كتبنا، مثلما حرق مؤسس جماعتهم كتاباته لأنها رجس من عمل الشيطان. 

مقال منشور بالسفير اللبناني بتاريخ 1 سبتمبر 2012

السبت، سبتمبر 01، 2012

ما قاله ابن إلياس سراً


ما قاله ابن إلياس سراً


أحمد عبد اللطيف

     ويسألونك عن مصادر أموال الإخوان، قل هي من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. ويا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدى لكم تسوءكم. وثلاثة من كن فيها تذوقت حلاوة الإيمان، أن تطيع المرشد ومكتب الإرشاد فلا تشرك بهم أحداً، وأن يكون فتات الإخوان خير لك من الدنيا وما فيها، وأن تخرج من الدنيا كما ولدتك أمك من أجل أخيك الإخواني. ويحكى أن إعرابياً اقترب من القصر الجمهوري وقال عندي مظلمة، ألا تدلوني على ديوان المظالم؟ فابتسم الحارس الأنيق في وجهه وقال: يا عبد الله ألا تعلم أن الشكوى لغير الله مذلة؟ وأن الله يأتي بصاحب المظلمة يوم القيامة فيأخذ من حسنات ظالمه ليضعها في كفة حسناته فيصير من أصحاب الجنة؟ فقال الإعرابي والله أعرف والله أعرف والله أعرف، قالها ثلاثاً فوقع ميتاً من العطش، فلما تحرى الفرزدق والجبرتي وابن هشام اكتشفوا أنه لم يشرب الماء من أيام عدة، وأن النور مقطوع عند أهله من شهر سبعة، فعادوا ورددوا قوله تعالى:"قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً". فلما سمعهم الحراس سجنوهم وعذبوهم بتهمة سب الذات الرئاسية، فما كان من الذات الرئاسية إلا أن قالت ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فلما أمطرت السماء قال ادعوا ربكم يهبط علينا من فومها وعدسها وبصلها، ثم طلب من بنك النقد الدولي قرضاً، فسأل أحد المارة: ما الربا يا عم الفقيه؟ قال أن يقترض منك أخوك أردباً من القمح ويعيده لك أردباً ونصف، وأحل الله البيع وحرم الربا. فتعجب الرجل وسأل عن فوائد قرض البنك الدولي، فنظر إليه الفقيه باستخفاف وقال: إنها المصاريف الإدارية يا أبا جهل، ألم تسمع من قبل عن المصاريف الإدارية؟ طأطأ الرجل رأسه وسار بألم في خصيتيه من جراء الجهل، وقال اللهم إني اعوذ بك إن كنت عصياً. ثم بلغني أيها الملك السعيد ذو العقل الرشيد أنه في البدء قُسّم الخلق إلى ثلاث: إخوان ويسار وليبراليين، فلما انتُهي من الخلق سأل اليسار والليبراليون في نفس واحد: من هؤلاء؟ فقيل: إنهم الإخوان. قالوا وما الإخوان؟ قال من تجوعون ليشبعوا، ومن تتعرون لتستروهم، ومن إذ عملتم ثورة ركبوها وصوروا رئيسهم على حصان ووضعوه على غلاف مجلة أكتوبر. قالوا ثم ماذا يحدث؟ قال إذا وقعت الواقعة ليست لوقعتها كاذبة. فأدرك شهر يار الصباح، وسكت عن الكلام المباح. ويحكى في الأثر، أنهم لما اتزنقوا في الجواب عن مصادر أموالهم قالوا ربي احلل عقدة من لساني ليفقهوا قولي أو ارسل معي أخي خيرت. فظل الجمع منتظراً حتى فنت الأرضون وتشققت السموات وطلعت الشمس من المغرب، ولا يزالون يتلجلجون ويتلعثمون، حتى سأل ملك اللسان: ماذا بكم، واقترب منهم ليسمعهم يقولون: ال س ع و د ي ة ق ط ر ا ل س ع و د ي ة ق ط ر .. فسمع الجواب من لم يطرح السؤال، ومن طرح السؤال مات بفضوله. ثم في البدء كان الكلمة، ثم صار الدولار. أفإن وصلتم للسلطة انقلبتم على عقبيكم؟  

مقال منشور بأخبار الأدب 1 سبتمبر 

الثلاثاء، أغسطس 28، 2012

مقال: ملائكية يهوذا



ملائكية يهوذا
                                  
                                                                أحمد عبد اللطيف

      في قصة صلب المسيح الشهيرة، ربما لا يتذكر أحد، ولا يذكر حتى في الحوارات العابرة، أن يهوذا الأسخريوطي رد الأموال إلى اليهود وندم ندم التائب عقب صلب المسيح.  لقد أدرك الرجل بعد فوات الأوان أنه ما من شيء يُسكّن ألم الضمير مثل المغفرة، فتخلى عن كل شيء لينالها.
     تطرح القصة القديمة سؤالاً أبدياً حول التسامح، عودة يهوذا بقلب مكسور في مقابل إعراض القوم عنه. كما تطرح الأخطاء البشرية التي لا يمكن التسامح فيها، حيث يصير حينها خطيئة أخرى. ماذا لو رحبوا بتوبة يهوذا وأخبروه، على جهل بقيمة التسامح، أن الله يغفر الذنوب جميعاً؟ وماذا لو طوت كتب التاريخ هذه الصفحة مع الاكتفاء بالإشارة إلى أن بشراً قد أخطأ وتاب فحسب؟
     ربما يستطيع أكثر الناس تسامحاً أن ينظر في العلاقات الإنسانية الفردية بعين الرحمة، ففردية العلاقات تخلق هذه المساحة من الخطأ والعفو. غير أن الخطايا الكبرى، التي تطعن العدل في مقتل، ليست فردية في معظم أحوالها. لذلك، فالذين يعرفون قيمة العدل، بنفس القدر الذي يعرفون به التسامح، يثير فيهم العفو الرئاسي عن الإرهابيين كثيراً من الأسئلة، فكيف ينال الحياة من يفرض الموت على الآخرين؟ وكيف لا ننزلهم منزلة يهوذا، الذي اكتفى بالوشاية فناله ما ناله؟ إلا إذا كان الجواب بأن هذا هو الإسلام كما يرونه، فيضاف ذلك إلى "تحقيق العدالة الاجتماعية بالحب"، و"عدم المساس بالذات الإلهية" في دستور يدافع عن حقوق المواطن.
     السؤال المحير الآن: هل وجود رئيس إخواني سيمنع وقوع حوادث إرهابية؟ ولو وقعت، هل سيُقبض عليهم ليمتثلوا أمام القضاء ومن ثم دخول السجون؟ الإجابة على السؤال الأول بالإيجاب سيضع الإخوان في مأزق، لأنه يعني أنهم شركاء للقتلة أو متواطئون، وهو ما يتنافى مع سلميتهم التي يدعونها. وفي حالة الإجابة بالنفي سنستخدم علامة التعجب أمام الإفراج عن إرهابيين من الممكن ان يعودوا للترهيب، إفراج سيشجع جماعات أخرى على القتل باعتباره مباحاً، ولن يتم معاقبتهم بالطبع أسوة بزملائهم.
     حكاية يهوذا الأسخريوطي، أشهر وأهم الحكايات التي أسست لقيمة العدل والتسامح، احتفظت لنفسها بالخلود. المفارقة هنا أن البشرية صنعت من الواشي أيقونة للشر والغدر لأنه تسبّب في قتل فرد، على أهميته ونقائه يبقى فرداً، في حين يطالبنا الرئيس الإخواني أن نعفو ونصفح عمن قتلوا أفراداً أيضاً أبرياء، لنمحي بذلك صفحة خزي من التاريخ، متناسياً أن القتلى لم يرتكبوا خطئاً سوى أنهم دفعوا فاتورة ثقتهم في أن الأعزل لا يضار دون أن يدركوا أن يد الإرهاب لا تطال إلا العُزّل.
     أخيراً، فإن التاريخ أثبت أن موت يهوذا لا يعني اختفاؤه للابد، بل يعني تكاثره ذاتياً ليغرق العالم بيهوذات جدد، غير أنهم، وهذا هو الجديد، لا يندمون، بل ويكرّمون في آخر المطاف. وبوضع صورة بجوار أخرى، نلتفت لملائكية يهوذا.    


منشور بجريدة اخبار الأدب 
      

د. جابر عصفور يكتب عن عالم المندل


كاتـب شـاب يعـد بالكثيـر
بقلم: جابر عصفور
جابر عصفور
762
عدد القراءات


أحمد عبد اللطيف كاتب واعد في عالم الرواية‏,‏ حصلت روايته الأولي صانع المفاتيح علي جائزة الدولة التشجيعية في الرواية لهذا العام‏.‏ وقد صدرت روايته الثانية عالم المندل
 منذ أشهر معدودة عن دارالعين التي نشرت روايته الأولي التي أصبح لها حضورها اللافت بما نشرته من روايات متميزة.
وقد جذبت رواية عالم المندل اهتمامي النقدي وأثارت إعجابي بها, بالقياس إلي رواية أحمد الأولي التي تنطوي علي بعض مزالق البداية, فنيا, رغم عمق منظورها الفلسفي, والجاذبية الخاصة لرمزيتها الكثيفة, وتعدد أبعاد الدلالات الكنائية لشخصياتها وأحداثها في آن. أما رواية عالم المندل فقد جاء مجالها الزمني وطبيعتها السردية أكثر تحديدا, ومن ثم استطاع أحمد السيطرة علي موضوعها من ناحية, والبراعة في تصوير الشخصية الوحيدة التي تنبني عليها روايته القصيرة التي تتميز بتدفقها الذي جعلني أقرأها في جلسة واحدة من ناحية أخري. وتبدأ الأبعاد الرمزية في الرواية في التكشف من عنوان عالم المندل الذي هو دال يقودنا مدلوله إلي دلالات فوق واقعية, تشير أولاها وأهمها إلي عالم السحر الشعبي الذي يوهم المتأثر به أنه يري ما لا يري في الواقع الفعلي, ويسمع ما لا أصل له في الحقيقة, فالمندل هو عملية من عمليات السحر الشعبي التي أظن أنها في طريقها إلي الاندثار, إن لم تكن قد اندثرت بالفعل. ويلجأ فيها بعض أبناء الطوائف الشعبية الفقيرة إلي بعض من يدعون المعرفة بالسحر في حالات السرقة, كي يعرفوا من سرقهم, وكيف وأين ذهب بالمسروقات, فيقوم مدعي معرفة أسرار السحر الشعبي بالاستعانة بصبي أو فتاة لم يصلا إلي سن البلوغ, ويضع فنجانا علي الكف المفتوحة للصبي أو الصبية, وفي الفنجان سائل يشبه الزيت, وهو موضوع علي ورقة بها تعويذات سحرية, وعلي جبهة الفتي أو الفتاة تعويذات مشابهة في ورقة. ويطلب الساحر من الفتي أو الفتاة تركيز نظرهما علي سطح السائل داخل الفنجان. وبعد تعويذات معينة, وعمليات إيحاء نفسية, يتخيل الفتي أو الفتاة رؤية مشاهد تحدث وتتعاقب علي سطح الزيت الموجود في الفنجان وذلك تحت تأثير الوهم والإيحاء اللذين يدفعان الطفل البريء أو الطفلة إلي توهم مشاهدة وقائع وشخصيات متخيلة في حقيقة الأمر. ولقد مررت شخصيا, بهذه التجربة في صباي البعيد في مدينة المحلة الكبري. ويبدو أن أحمد عبد اللطيف مر بهذه التجربة أو شهدها أو سمع بها في أحد الأحياء الشعبية في مدينته الإسكندرية, فتوقف عند دلالة المندل وعندما ننتقل من الدلالة الحقيقية لعنوان الرواية إلي دلالاتها المجازية, في سياق القراءة, فإننا ننتقل من عالم الواقع إلي عالم الوهم الذي ينطلق فيه اللاشعور, متحررا من كل شيء, فتبدو الرواية كلها بمثابة حلم من أحلام اليقظة الغسقية, إذا جاز استخدام هذا التعبير, وندخل إلي العوالم الشعورية واللاشعورية لبطلة الرواية التي هي شخصية غير سوية, أفقدها توازنها النفسي القمع المتعدد الأبعاد, والمتواصل عبر تاريخها العائلي الخاص والاجتماعي العام, فهي جمع بصيغة المفرد للأنثي المقهورة في بعد من أبعادها الرمزية, إن تاريخها العائلي يبدأ بقمع الأم التي تملأ خيال ابنتها بصور الرعب من العالم في حكايات مرعبة لم تتوقف ويوازي ذلك وجه أنثوي لا يتميز بالجمال, بل يفتقده افتقاد الصحراء الماء. ويزيد علي ذلك عقدة إلكترا التي انغرست منذ الطفولة في علاقتها بالأب الذي اختطفته منها الأم التي أوهمتها بأنها تعيش بالفعل في عالم من القتلة والسفاحين وآكلي لحوم البشر. وأضيف إلي ذلك ما يتسرب إلي لاوعي البطلة من اضطهاد ذكوري, وتمييز ضد الأنثي لا يتوقف قمعه إلي الدرجة التي تدفع لا وعي المقموع بالتعويض عن ذلك باستعادة أهم ملامح الذكورة في الذكر القامع.
هكذا تبدأ رواية عالم المندل وتنتهي في أفقها الرمزي, يحركها مبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع. والزمان الروائي الذي ينبسط السرد ما بين أوله وآخره لا يزيد علي أربع وعشرين ساعة, والبطلة التي تستعيد تاريخها المقموع تطلق العنان لتمردها الداخلي في تيار متدفق من اللاشعور الذي يتفجر بمبدأ الرغبة, فلا يبقي علي شيء في الماضي إلا ودفعه إلي سطح الوعي الكتابي. وما دمنا في رواية تعتمد علي تيار الوعي, فمن المنطقي أن يتحرك الزمن الروائي حركات بندولية ترد الماضي علي الحاضر, وترد الحاضر علي الماضي في حركة سياق الزمن, كاشفة عن حزمة الأسباب التي جعلت هذه البطلة علي ما هي عليه, ولا بأس لو رأينا ما يدعو إلي تذكر الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية, فكاتب الرواية متخصص في الأدب الإسباني, وترجم عنه ما يشمل أربع روايات لخوسيه ساراماجو, فضلا عن ماركيز, وكلاهما حاصل علي جائزة نوبل. ولا شك أن اطلاعه علي العوالم بالغة الغني للرواية والقصة القصيرة في أدب أمريكا اللاتينية قد دفعه إلي معرفة أسرار عالم الرموز ودهاليز القص في عوالم التحول لبورخيس. أو عوالم الوهم لساراماجو, أو عوالم التبدلات في كتابات ماركيز وعوالمه المخايلة. وقد تركت هذه الثقافة آثارها الخفية في تلافيف عالم المندل وصانع المفاتيح وأكسبت أحمد عبد اللطيف الروائي جسارة إنطاق المسكوت عنه من اللاوعي الأنثوي المقموع,.
ويتوازي تيار الشعور المتدفق, لغة, مع موجات اللاشعور علوا وانخفاضا, فنقترب من اللغة الشعرية أحيانا علوا, ونهبط إلي أدني درجات العامية مفردات وكتابة في آن. وكما يحدث في كل رواية من روايات تيار الوعي, يمضي التيار في تدفقه, متصاعدا كالموسيقي التي لابد أن تصل إلي الذروة( الكريشندو) التي يكون بعدها الصمت أو نقطة الختام. هكذا تصعد تداعيات البطلة المقموعة, حضورا ووعيا, إلي أن تشارف الذروة, فتخرج البطلة إلي شرفة غرفتها, مسلمة نفسها تماما إلي عالم وهمي, يحملها بجناحيه, مبتسمة ابتسامة امرأة أمسكت أخيرا بزمام حياتها, فتتوهم أنها قادرة علي الطيران. وبالفعل تندفع من الشرفة إلي الهواء, فترتطم بالأرض, ولا تشعر في ذروة توهمها بتحطم أضلعها. فقد ذاقت لحظة السعادة التي منحها لها الطيران, وكان آخر ما رأته جوادها الأسود يبتسم لها أخيرا, فترسل له قبلة. ويتوقف تدفق تيار الوعي مع نقطة الختام في هذه الرواية التي لابد من تهنئة كاتبها الذي يعد بالكثير في عالم الرواية الذي ينوس, فعلا, بين عالم المندل وعالم الواقع, حيث لابد من إقامة توازن رهيف, يسمح بالتداخل بين العالمين, واستبدال أحدهما بالآخر.

منشور بجريدة الأهرام، الاثنين 27 أغسطس 2012

الاثنين، يوليو 16، 2012

أرجوك راقبني





     مر عام بعد المائة الأولى على تأسيس الرقابة على الإبداع، دون أن نحتفل بالمئوية كما ينبغي بجلال الحدث. انشغلنا في الثورة وتوابعها، ولم نوفِ الرقابة حقها. كيف فاتنا أن نحتفل بها برفع شعار "أرجوك.. راقبني"؟ وكيف لم نتعرف على الرقباء ونجري معهم حوارات صحفية لنعرف كيف بفطنتهم استطاعوا الحفاظ علينا من شرور شياطين الإبداع؟ إنها أخطاؤنا المتكررة، صفات الحارة التي آفتها النسيان.
     فات وسائل الإعلام المرئية والمقروءة أن تنبّه الشعب لميلاد الرقابة، وأن تعدّد مزاياها، أن تعرض الأفلام وتنشر الروايات الممنوعة لنعرف  كيف أنقذنا الرقيب من الوقوع في الخطايا وحجب عن عيوننا المناظر الجنسية البغيضة والكلام قليل الأدب والأفكار التي تهز الإيمان أو تدعو للتفكير الذي يجلب المآسي. الرقابة العظيمة، يمر عليها مائة عام وعام دون أن يشير لها مدحت شلبي في برنامجه الشهير عن كرة القدم، ودون أن يشيد بها توفيق عكاشة على قناته مرتفعة المشاهدة. لكن، يمكننا الآن، في الأيام الأولى من عامها الجديد، أن نتذكر معاً أهم ما قدمته للإنسانية، ليس فقط في مصر خلال أعوامها المائة، بل في العالم كله، وفي فترات تاريخية مختلفة وتحت سلطات متنوعة، إنها أحداث تملأ ملايين الصفحات البيضاء بالحبر الأسود. الرقابة العظيمة حرقت كتب ابن رشد المارقة، وأنقذت الأندلس حينها من الكفر والزندقة؛ منعت تدريس كتاب "أصل الأنواع" لداروين في الجامعات الأوروبية في القرن العشرين، لأنه يتعارض مع الكاثوليكية؛ حرمت نشر رواية "قابيل" لساراماجو في إيطاليا لأنها تقدّم رؤية جديدة للحكاية؛ سجلت قائمة طويلة من الكتب المحظورة في العصور الوسطى، لا لشيء سوى الحفاظ على استقرار المجتمع. غير أن هذه الرقابة كانت ضعيفة مقارنة برقابتنا، الفرعونية كحضارتنا القديمة، هكذا نجدها لا تكتفي بالحفاظ على المستقر فحسب، بل وتراعي مشاعر القراء. الرقابة المصرية حافظت، طوال تاريخها ودون ملل أو كلل، على الذات الإلهية وحرمة الجنس وقدسيته من الابتذال، وعلى صورة الرئيس والسلطة، وبنفس المنطق حافظت على صورة رجال الدين، وهذه من القيم المصرية التي ناضلت من أجلها. والأزهر بدوره أدلى دلوه، فأصدر بياناً بتكفير فرج فودة ترتب عليه اغتياله، وكفّروا أسامة أنور عكاشة وسعوا لتفرقته عن زوجته في أروقة المحاكم، فقط لأنه قال رأياً مخالفاً في عمرو بن العاص. وقصة نصر حامد أبو زيد معروفة، لا داعي لتكرارها، ومنع كتاب جمال البنا "مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث" ورواية "سقوط الإمام"لنوال السعداوي، و"وليمة لأعشاب البحر" ومن قبلها "ولاد حارتنا" خير مثال على حرص الرقيب على صون رهافة الحس المصري والمحافظة على "الأخلاق الإسلامية".
     الرقيب، إذن، أب ونحن أبناء، رئيس ونحن نفس الأبناء، أم مرضعة ونحن الرُضّع، فصفتنا كابن يحتاج البزازة لا تتغير أبداً مع اختلاف شكل الرقيب، الذي ارتدى من قبل الباريه والآن يطلق اللحية، ويجرنا وراءه كمعزة تجر فردها ليأكلا من حشائش الأرض. 
    الآن، في الأيام الأولى من العام الأول بعد المائة، ومع انتقال الرقابة من الدبابة إلى السيف، قررتُ كروائي متمرد يعترض على الأشكال التقليدية، أن أرفع شعار: "أرجوك.. راقبني" لأنني ببساطة سأقدم للرقيب المتحفظ كل ما يستحق مصادرته.  

أحمد عبد اللطيف (منشور بجريدة اخبار الأدب عدد 12 يوليو 2012)      

الأحد، يوليو 08، 2012

سارق الفانتازيا الذهنية




صانع المفاتيح
              سارق نار الفانتازيا الذهنية

د. أماني فؤاد

من رؤية فنية واضحة ومفتوحة بوسع الآفاق، تنطلق رواية "صانع المفاتيح" للمبدع أحمد عبد اللطيف، والحاصلة حديثاً على جائزة الدولة التشجيعية لعام 2012. مع هذا العمل، يمكن أن نحلّق فى عوالم مفارقة، حيوات أوجدتها "الفانتازيا الذهنية" المعنية بحلم الممكن لا الكائن، والقادرة على دمج العلائق بين الواقعى واللاواقعى، بين الحقيقة والحلم، عوالم تخلخل الحدود وتجعلها فى حالة من الاندماج المنسجم، ربما نشعر بالغرابة، لكن المؤكد أنه سيتملكنا الشغف، عالم من الدهشة يصنعه تقديم الأفكار المتمردة فى تقنيات شكلية مميزة.
 يعتد عبد اللطيف بمفهوم "الخلق الفنى"، الخلق الذى يلامس الواقع ليسرق ناره، كما تقول الأسطورة اليونانية، حيث يأخذ النور والوهج ثم يرتفع بهما إلى السماء. يبرع فى هدم المتحفي ليعيد صياغة عناصره وتركيبها على نسق آخر، مستعيناً بملكات خيال منطلقة، فتتخلق عوالم مغايرة، قادرة على خلق الصور، وهو ما تعنيه الفانتازيا فى اللاتينية، حيث يتجلى الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج، ولا يعنى هذا قطيعة مع الواقع بل طرح إبداعى يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره. هكذا نرى "صانع المفاتيح" رؤيةً وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة وسبق، لا اقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية خاصة فى ظل هذه الثقافة الكونية المتسارعة.
 انطلاقاً من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث الحكائى العربى الذى اعتمد على منطق الفانتازيا، ودراساته للغة الأسبانية وأدب أمريكا اللاتينية، وترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب، تشكلت لدى الكاتب رؤية فنية خاصة للإبداع، لا متأثراً أو مقلداً بل مبدعاً مبتكراً، مغموساً حتى النخاع فى العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعه المصري، خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار وتناسبها مع الواقع الثقافي الخاص.
 يحتفى الكاتب في "صانع المفاتيح" بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التصوف فى الجانب المعرفي، ويبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعده عن مركزية العقل البشري أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازله بتشكيلات فنية ومنطق معرفي آخر، يتتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤى وتقنيات تصنع عوالم من الجدل الثري، ويقع نص "صانع المفاتيح" فى محيط تعريف "الفانتازيا الذهنية"، أى القدرة على تجلية تقاطع الواقع بالخيال. كما  يرتكز على الثقافة الشعبية التى تحتفي بالأحلام وتفسيرها ونبوءات العرافات ويمتح من الموروثات الدينية والأسطورية والملحمية، وكلها آليات تشكل بامتياز "تيار الواقعية السحرية" فى الأدب. ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ فى "صانع المفاتيح" وعمله الأحدث"عالم المندل" القائم في الأساس على الحلم والمندل وقراءة الكف، رغم أن كلاً منهما له عالمه شديد الخصوصية.
يعتمد الروائى على فكرة فانتازية وليدة التجاوز، فصانع المفاتيح الذى سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التى شوهت قريته لاستشراء الفساد فيها، يصنع مفتاحاً يغلق به سمع الإنسان، ويتطور الأمر وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان، لم يرتض هو أن يصنعها، لكن صبيه وفّرها لأهالى القرية فأصبحت قرية أقرب إلى الموتى. يوظف من أجل تنمية هذه الفكرة الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الروائى، ويتكئ على الخيال الذى يقع علي الواقع، يسائله ويضعه تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة، تخلق صوراً جديدة للعالم، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير ما عهدها الإنسان. اللافت للنظر أن بمقدور الروائى صناعة عجينة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغالها بعناية فائقة، مازجاً بين عناصرها دون أن يشعر قارئه أن هناك انفصالاً ما بين الفكرة الفانتازية والعالم الواقعى الذى تتعاطى معه ويوفر لتشكيله النصى خبرات تكنيكية وآليات تكوين على نحو مميز. هذه البنية الفانتازية تحوي جانباً متخيلاً يأخذ خيطاً عجائبياً بجانب الخيوط والمحكيات الأخرى الواقعية أو الاجتماعية التاريخية، كما أنها ليست بنية تناصية. يضفرها المبدع مع محاور نصه، فلا يظهر الفصل بين فوق الطبيعى والطبيعى، بين الغرائبى الخارق وقوانين العقل فى بناء العوالم الحكائية والدلالية والمعرفية. فالواقعى والمتخيل، المادى والروحى، الألفة والغرابة، الطبيعى والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً على أوضاع مجتمعية مستعيناً ببنية الفانتازية الرمزية.
تتلخص محاور العمل الرئيسية في ضيق صانع المفاتيح بكل ما يسمع من انحرافات المجتمع، يصنع المفاتيح التى تغلق الحواس، يعتريه الشعور بالراحة نسبياً هو ومن استخدم المفاتيح من أهل القرية، يتأمل الخلق والوجود، ثم يبني مدرسة للأطفال في نظرة استشرافية للمستقبل، يثور الشباب على قرية لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، تهيمن القوى المسيطرة على الأمر ويسجن صانع المفاتيح. يتداخل هذا المحور المتخيل بالعمل مع محاور النص الأخرى وأحداثه وشخوصه التى تشبه أو توازي ما يمكن أن نراه بالواقع، وتعد هذه المحاور المضفورة مع الفانتازي تناسُل مولودات نصية وحكائية وتصورات وأحداث، وتوليف عناصر مع أخرى، ومن هنا يتجلى الدمج التام بين الفانتازي والواقعي فى النص وهو ما يحقق ما أطلق عليه "الفانتازيا الذهنية"، فالنص لا يعتمد على بنية منفصلة استهوت المبدع، لكنه يعتمد على مفهوم خاص للفن وزوايا جديدة لتناوله.
يطرح عبد اللطيف في "صانع المفاتيح" وكذلك في"عالم المندل" سؤالاً إشكالياً: هل الفانتازيا لعبة فنية، تجريب يمارسه الفنان ويتكئ فيه على الغرائبية لخلق عالم مدهش؟ أم أن الفانتازيا رؤية فنية وتقنيات شكلية لا تنفصل عن أزمات الإنسان والكشف لمناطق الغيبوبة التى وقعت فيها الحضارات البشرية تحت الأساطير والنصوص التي أخذت صفة التقديس؟ أتصور أنها رؤية فنية وإبداعية خلقت آفاقها المتسعة، وكان حضورها أكثر زخماً بعد انهيار الأنساق الفلسفية المتسقة، وتقوض التيارات الأدبية ذات الملامح. فى ظني أن عبد اللطيف يقدمها كنهج إبداعي يشير إلى أزمة القيم العميقة ومقولاتها التى صارت تحت طائلة التفكيك اتجاهاً يعوّل على الثقافات الخاصة بموروثاتها الفلكلورية وروحانياتها المميزة. الفانتازيا فى الرواية الجديدة لا تحكى العالم وإنما تناوشه، وتعريه، وتختزله، وتدمر التصورات الذاتية عن العلائق والأشياء والبشر، لتفتح عوالماً بديلة يتحاور فيها الخيال والعقل والواقع، إن صح أن هناك واقعاً، خارج ذواتنا وعقولنا ووجداننا، وهو ما تحقق بوضوح في "صانع المفاتيح".
تجلت الفانتازيا وتنوعت معالجاتها فى أدب أمريكا اللاتينية ودارت حول تكوين الديكتاتور وكشف ممارساته، عبرت عن الطغيان العسكرى، عرّت أوضاع سياسية واجتماعية طالت الشعوب قهراً بلا رحمة أو هوادة، ومن خلالها أوجد ماركيز وفوينتس ويوسا وساراماجو عوالماً تكشف هذا الواقع الرديء، وبعثت توقاً إلى إمكانات أخرى ومعطيات أكثر تحرراً. وفى "صانع المفاتيح" كان الفساد والانحدار الأخلاقى والقيمي محركين استدعيا فانتازيا النص، وفى "عالم المندل" كان القهر الاجتماعى وتحكم الخرافة والشعوذة فى مقدرات المجتمع والأفراد هما ما أوجدا هذا الحلم الحقيقي الذى عاشته الفتاة التي صارت ذكراً بيولوجياً، إنه السعى إلى المستحيل، الذي يناوشه دائماً الفنان الحقيقي.
***
يتملك عبد اللطيف هاجساً بفكرة التحوّل، ففي "صانع المفاتيح" تتحول القرية إلى مدينة، وتتحول الشخصيات من السمع إلى الصمم ومن البصر إلى العمى ومن الكلام إلى البكم، وفي "عالم المندل" تتحول الفتاة إلى ذكر، وتصير إناث المدينة رجالاً ويصبح الرجال إناثاً. يبرز الكاتب فكرة التمرد على المستقر، يتعامل معه على مستويين: فعل إبداعه الخاص ورؤيته للفن، فهو أولاً يعلو بمفهوم التحول المستند على قدرة الإنسان المبدع على الخلق أو الصنع، على تغيير الثابت وسلطة المستقر الراسخ ليخلق عالماً آخر من المحتمل أن يكون، كأنه فنان بروح متصوف، يعيد هندسة الكون ويلهو بحنكة فى عناصر تكوينه، ومن منطقة الخلق الفني وقدرته على التجريب يغوص بالواقع ويرتفع به ليعيد فنياً ترتيب وصياغة ما قد يبدو فيه عشوائياً. ثانياً، يخلق نماذجاً بشرية فى النصوص قادرة على فعل التحول والتمرد على ما هو كائن، نماذج من شأنها أن تفعل، تغير موازين القوى حتى ولو على مستوى التخيل أو الرمز. يقول عبد اللطيف فى مدونته: "كتابة الأدب – أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد، بل يتطلب خيالاً لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية، الطول والعرض والعمق، وهو ما يعنى ببساطة: الكائن، ليس بوصفه جسداً، بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً". تضافر هذا الوعى لديه مع المفهوم الخاص الذى آمن به للسرد، مفهوم لا يستند على كلاسيكية الحكاية ولا المحاكاة، بل خلق نماذجاً من شخوص منحوتة من الداخل غالباً، خاصة وأن بعضهم يتمتع ببعض مزايا وسمات الشخصية التراجيدية أو الملحمية. تتميز شخوصه فى "صانع المفاتيح" باحتوائها على المناطق الحائرة، القلقة، الشخوص ذات الأبعاد المتعددة، ذوات بشرية يحتدم فيها الصراع ويتناوب بين الغرائز والأطماع والقيم الإنسانية.
بين الواقع والملحمة، يقدم الكاتب شخصية صانع المفاتيح ويهبها بعض الملامح الأسطورية بداية من اسمه ومهنته وقدرته على الخلق دون مثال والتحكم فى الحواس البشرية، كما تتبدى طقوسه وثقافته شديدة الثراء، تتراوح بين عالم مادى أرضى، وعالم صوفى متعال من خلال مناجاته لله وقراءته لمؤلفات ابن عربى، وتأملاته فى الجبل، انفصاله عن العالم عن طريق غلق السمع، ثم رغبته فى بناء مدرسة لتعليم أطفال القرية والخروج بهم من الطبيعة الحيوانية. يهيئ الكاتب لشخصيته منذ أولى فقرات الرواية طقساً غرائبياً يدخله حثيثا في المفارق نسبيا، ذلك حين يحكى أنه يمشى نائماً، ويحلم بعوالم سريالية، وتتنبأ له إحدى العرافات بالغنى ثم الموت محبوساً. كما يرسم له طفولة مفارقة، فهو معجز لكنه إعجاز يخالف ما تواتر عن المعجزات وقت ولادة الأنبياء والصالحين يقول: "عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت، ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً، ولا جاء وقت الحصاد قبل أوانه، مع ذلك فرح أهل القرية فرحاً جماً". كأنه بذلك يرمى بسهامه مفككاً لمقولات النصوص والموروثات الدينية في سردية حديثة. ويصور سبق الطفل فى قدراته وملكاته فى النمو، وجمال خلقته، ثم يبرز به جانباً عاطفياً حين تعلق بقطة وعشقها، لكنها ماتت فيتحول لطفل متوحش، إلى أن يستقيم سلوكه مرة ثانية، ويعود إلى طبيعته السمحة حين يفهمه والده أن قطته بالجنة.
ملامح متعددة يوفرها الكاتب لبطله الرئيسي، تجعل منه ذاتاً أرضية وسماوية فى اللحظة ذاتها، كما يحمل المبدع الشخصية ظلالاً متعددة، وفى كل ظل هناك إحالات لعدد من الأنبياء أو بعض المتصوفة، وطريقة سلوكهم، وهو ما يمنح الشخصية الجانب الأسطورى وملامح المقدس، ليس على شاكلة السابق لكن أقرب إلي شخصية أرضية ذات صفاء، ويعد هذا التكوين النفسى والتاريخى للبطل متسقاً مع الحدث الفانتازى الذى أقدم عليه.
الشخصيات الأخرى تتضمن جانباً فنياً وفكرياً متجرداً نزقاً، ف "لاللي" يتبدى كلاعب ماهر يحرك العالم وكأنه يتحكم بعرائس الماريونت، يلهو بضعف البشر وشذوذهم، بجهلهم ومرضهم، بجانب ما يحتشد به من رغبة فى الاستحواذ والأطماع، ولا يعدم القارئ أن يجد لديه جانباً إنسانياً خيراً خاصة مع الدكتور فى بداية حياته. و"الدكتور"  يمارس نزع قرنيات أعين المرضى النفسيين، ويبيعها لمن يستطيع أن يدفع، كما يحاول أن يجد له منطقاً يبرر به أطماعه، فتستحوذ عليه أحلام معذبة ويعاني من وسواس التطهر المتكرر بعد كل عملية يجريها، ويرفض مضاجعة زوجة البواب لأنها، كما يقول الدكتور، المتعة الوحيدة للرجل المسكين. يستيقظ ضميره فيرى جانباً خيراً بداخله، طمسه فى السابق إحساس بالدونية والفقر والعوز، فيتزوج من جميلة لعلمه أن الجميع قد طاله التشوه بصوره المتعددة. هكذا نلاحظ اهتمام الكاتب برسم الشخصية: ثقافتها، ومعطيات بيئتها، وكهوفها النفسية، وما يستجد عليها من متغيرات، كما يضع يديه بمهارة على نقاط التوتر فى الشخصيات وزوايا التحول، وهو ما يميز شخصيات نصوصه فهى فاعلة وإن بدت مقهورة، شخصيات لا ترضخ للكائن، تتطلع للتغيير حتى وإن بدا فانتازياً فهو أول الغيث.
يطول التحوّل أيضاً المكان، فالقرية مكعب متعدد الأوجه، يبرز أحدها أحياناً ليجعلها قرية صغيرة حقيقية واقعية، ووجه آخر يبرز فيه بنيتها بين القرية والمدينة، وأتصور أنه من خلاله يشير إلى التحولات التى حدثت للمجتمع المصرى الزراعى المستقر، ووجه ثالث يشير إلى مكان ملحمى أسطورى، ووجه رابع دينى مقدس. وأرى أن تشكيل المكان على هذا النحو الملحمى الأسطورى والمقدس يتسق مع فانتازية النص ويمثل ركناً ركيناً فى الوصول بالفكرة محور العمل إلى طبيعتها الفنية الخاصة.
***
يحتدم في "صانع المفاتيح" صراع الكاتب فيما يختص ببعض الأساطير الدينية والرغبة فى تفكيكها، يخوض فيما يبدو مقدساً وهو معنياً بتفكيك المقولات، خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها. يقول عن "الدكتور": "وهو صغير، بدأ يعتقد أن الله لا ينظم الأرزاق، بل إنه يلقيها من سمائه، ومن يسبق يأخذ" ص55، ثم يكمل فقرته فى لباس ساخر، كما أنه يقرن صناعة المفاتيح والانتهاء منها بقصة الخلق التوراتية، وبدلاً من تمام الخلق فى ستة أيام ينهى يوسف المفاتيح فى ستة أشهر، ثم يصعد إلى الجبل للتأمل، وكأن الإله أراد أن يستريح بعد الخلق فى العهد القديم، وأتصور أن الروائى يشير إلى الجانب الفنى فى الموروث لا الفكرى. على مستوى آخر وفى كثير من تقنيات السرد، يتكئ على المقولات المقدسة، وعلى المذكور فى نصوص العهد القديم والجديد، والتناص مع كثير من نصوص القرآن، كما يصدر نصه بالآية القرآنية "صمٌّ بكمٌ عمىٌ" وهى ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص. إن تفكيك المقولات الدينية ودحضها فكرياً، ثم استخدام التقنيات الفنية والتشكيلية التى تتناص مع الموروث الدينى فى إنماء النص والتطور به لهو موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين المبدع ومعتقداته الفكرية، وبين ما يستقر بوجدانه وثقافته التى تراكمت وشكَّلت فى لا وعيه العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً فى تخلق نص حيوي لا يدعي يقين، لكنه يثير تساؤلات ويترك قارئه فى فضاءاتها.
 يبنى أحمد عبد اللطيف ويهدم، يبنى "صانع المفاتيح" الأسطورة البسيطة الأرضية، ويهدم أساطيراً أخرى كثيرة اكتوى بها البشر طويلاً، وتصبح اللغة أداته الطبيعية لإيجاد صيغ أسلوبية ناصعة تصيب الهدف بدقة، لغة تعرف مقاصدها وتذهب إلى عمقه دون مراوغة. تتبدى أساليب الروائى ناجزة حتى وإن تنوعت الأحداث والأفكار وجاءت واقعية أو متخيلة أو وقائع حلمية، وهو ما يكشف عن رؤية وثقافة ناضجة عند المبدع. وهو أيضا ما يأخذ بيد قارئه لكشف حالة الشخوص الفكرية.
وتظل منطقة الصدمة والتساؤل في كتابته، غرائبية الفن وأشكال طرحه، هاجس عبد اللطيف الذى أتصور أنه معني بتنوع نصوصه من حيث المحتوى وتقنيات أدائه، بل والتوحد بهما معاً وهو ما يمكن أن نراه فى روايتيه ومشاريعه الروائية القادمة.

 أخبار الأدب. 8\7\2012



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...