الاثنين، سبتمبر 03، 2012

شريعة الحرق


 شريعة الحرق

أحمد عبد اللطيف


(1)
     يُحكى أن حسن البنا كان أديباً، كتب قصصاً ونظّم أشعاراً، فلمّا أسس جماعة الإخوان، حرق كل ما كتب. يُحكى أيضاً أن سيد قطب أول من كتب عن الأديب المصري النوبلي نجيب محفوظ مقالاً نقدياً، غير أنه، بمجرد أن انضم لنفس الجماعة، تبرأ من كتاباته الأدبية. بأي معنى، إذن، يمكن أن نقرأ وجهة النظر الإخوانية في الثقافة إن كان المؤسسون للتنظيم يغسلون ثيابهم من الأدب سبع مرات إحداهن بالتراب؟

(2)

     في بدايات التسعينات، بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل بعامين، وقد بدأت حملة تكفيره بالفعل، انتشرت  بالمدرسة الأزهرية التي تربيت فيها، بفصولها وجدرانها الداخلية وحماماتها وميضاتها، صوراً مرسومة للكاتب مصحوبة بعبارة "نجيب محفوظ.. الأرنب المحفور" وفوق صور أخرى عظمتان متقاطعتان وعبارة "خطر الموت"، وهي نفس العبارة التي كانت تُكتَب على علب الكهرباء في الشوارع ليتفادى المارة الاقتراب منها لأنها، كما نعرف، تصعق بلا رحمة. الرسومات في الحقيقة، وتعليقاتها، لم تكن نتاج خيال تلامذة المرحلة الإعدادية والثانوية، وإن كانت تعبّر عن موقف الكثيرين منهم، بل هي مجهود خاص من المدرسين "الشيوخ" التابعين بالضرورة للفكر الأزهري أو الإخواني أو السلفي، والذين كانوا لا يكفون عن وصف كاتبنا بأنه كافر ويحرضوننا على كراهيته وتشويهه ما استطعنا. ولم يكن الأمر خاصاً برأي أفراد بعينهم، وإنما رأي جماعات إسلامية فيما يخص الأدب عموماً، لذلك لم ندرس في مناهجنا أعمال نجيب محفوظ ولا طه حسين، أسوة بتلامذة المدارس الحكومية في ذلك الوقت. هل هو الصراع الأبدي بين الدين والأدب؟ أم رجال الدين والأدباء؟ وهل استخدام الأدب لنفس مجاز الدين يشكّل، في رأيهم، خطراً كبيراً على الدين؟

(3)

     في حادثة لا تُنسى، أطلق الشيخ السلفي عبد المنعم الشحات حكماً على أعمال محفوظ، وصفها بأنها "تحض على الفحشاء"، وفي ندوة بجريدة أخبار الأدب عقب الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها الإسلاميون نجاحاً ملفتاً، قال الشيخ نادر بكار، المتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي رداً على الشحات بأنها "ليست كذلك تحديداً لكنها خارج الأدب الإسلامي". وفي نفس الجلسة، تحدث الشيخ محمود خليل، الإخواني الذي يعمل مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم، بأن الإخوان ليس لديهم برنامج ثقافي، لكنهم ليسوا ضد الأدب الإسلامي! ووصف أدبَ الكاتب نبيل فاروق بأنه أدب مناسب ورفيع( نبيل فاروق كاتب روايات مسلسلة للجيب، وأشهرها سلسلة رجل المستحيل!) بوضع هذه الأجزاء بجوار الهجمات الإسلامية على روايات مثل "وليمة لأعشاب البحر" والمظاهرات التي خرجت من الأزهر للتنديد بنشر هذه الرواية(وكنت حينها طالباً بالجامعة وشاهداً عليها)، وتجاهل الرئيس الإخواني لفئة المثقفين وعدم التلويح للثقافة أصلاً في خطاب جماهيري توجه به لكل فئات المجتمع، يمكن أن تكتمل الصورة: الإخوان ضد الثقافة، والمثقفون في خندق الأعداء.   


(4)

     الملتحم بالفكر الإسلامي، أو المتابع الجيد لتصريحات رجال الدين، يعلم جيداً أن الأزهر والإخوان والسلفيين ليسوا إلا ثلاثة أصابع تنتمي لنفس اليد، وأن الاختلافات بينهم طفيفة في مقابل إتفاقهم على الخوف من الكتابة والثقافة بشكلها الأعم: الثقافة رفاهية؛ الثقافة تطرح أسئلة أجاب عنها الدين؛ الثقافة تهدد الإسلام. التصريحات السرية والعلنية ليست صادقة تماماً، فالثقافة، كما تعلمون، تجادل الدين وتنزع الغطاء عن الكهنوت وتعريهم. بهذه الطريقة يمكن أن نفهم ضراوتهم في النضال ضد الكتابة خصوصاً، فهي، في نهاية الأمر، ما تفند أقاويلهم وأحاديثهم وتقابل منطقهم الهش بمنطق أكثر صلابة، ليس بتقديم إجابات في معظم الأحيان، بل بطرح أسئلة تهز ملكوتهم المزيف.
    

(5)

     التاريخ أكثر صدقاً على أية حال، وقراءته توفّر الكثير من الجهد المبذول في التوقعات والتحليلات، وتاريخنا مكتظ بالتكفير والذبح والقتل وحرق الكتب، واضطهادنا للفكر التنويري الذي يخص حتى تنفيض الغبار عن الدين نفسه، خير مثال لما نحن عليه. هل يمكن أن يكون الإخوان أقل تطرفاً من مسلمي الأندلس؟ هل سيسمحون بإعادة نشر كتب ابن رشد والغزالي ونصر حامد أبو زيد وضمها للمناهج التعليمية؟ هل سيسمحون في ذروة انتصارهم، بعد أن تهدأ الأمور ويحققون نمواً اقتصادياً(إن حدث) بتداول "أولاد حارتنا" "الشعر الجاهلي" "وليمة لأعشاب البحر" "الإسلام وأصول الحكم" "نقد الخطاب الديني" والكثير غيرها من الكتب التي تطرح أسئلة حول الدين ورجاله. أعتقد أن مجرد طرح السؤال عليهم غير مسموح به، فهم لا يحتملون النقد ولا سماع ما يخالف ما يعرفونه سلفاً.

(6)

     منع مقالات لمثقفين كبار من الجرائد القومية مؤخراً لانتقادها لأداء الإخوان، ليس إلا تلويحة، أو كما يسمونها في كرة القدم "كتف قانوني". الأمر ليس غريباً، لنكن منصفين، ففي عهد الرئيس المخلوع كان ولاء هذه الجرائد للنظام، وهامش الحرية كان متوافراً في الجرائد المستقلة. غير أن المتوقع من سلطة جاءت بالانتخاب، وبعد ثورة عظيمة راح ضحيتها الآلاف، أن تمنح بلا مقابل حرية مطلقة للكُتّاب، حرية تبدأ من التعبير وإلغاء القيود على الصحافة وتمر بالإبداع والفكر. لكن ما حدث كان العكس، فالسلطة الإخوانية أضيق صدراً من سلطة الديكتاتور، وهو ما يعني أننا في مرحلة انتقالية من الدولة البوليسية للدولة الفاشية. وإذا كان الرئيس الإخواني لا يحتمل النقد لذاته في مقال صحفي، كيف من الممكن أن نتوقع تقبّله لنشر كتب تتناول تاريخ الجماعة الملوث بالخيانات والصفقات
(7)

      بعيداً عن سيرة الجماعة والمرشد، فمعركة المثقفين قد بدأت بالفعل في مواجهة تيار يعادي حرية الإبداع، ويفعل كل ما يستطيع لوضع بنود في الدستور المصري يحجّم من هذه الحرية، ويفرض قيوداً من قبيل "عدم المساس بالذات الإلهية" "طبقاً لأعراف المجتمع" "بما لا يخالف القانون". الغريب في الأمر، وما لا ينبغي أن يمر بسلام، كون الأزهر هو المرجعية الدينية في الدستور..فكيف لدولة تطمح إلى  المدنية أن تكون مرجعيتها مؤسسة دينية تتمتع بقدر كاف من التطرف. فالأزهر، كمؤسسة، تعادل الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة كهنوتية، تلك التي ثار عليها مارتن لوثر في العصور الوسطى بثورة إصلاحية استهدفت حصر المسيحية في الكنيسة وإقصاءها عن الحياة العامة، وهي الخطوة التي كان لابد منها بعد أن أصبحت الكنيسة عدواً للعلم وأصبح القساوسة محض محتالين يستغلون تدين الناس في فرض سلطانهم وسيطرتهم على الدولة بمواطنيها. كان لزاماً على التنويريين وقتها أن يثوروا من أجل إقامة "عصر النهضة" المؤسس في حقيقته على العدل والمساواة، وهما قيمتان مسيحيتان، ما يعني أن الثورة الإصلاحية، كما هو معروف، لم تكن ضد المسيحية، بل ضد رجال الدين الذين استغلوها من أجل مصالحهم.  المفارقة الآن أن أوروبا تثور في العصور الوسطى على الكهنوت المسيحي لإقامة دولة حديثة، بينما نلجأ نحن في القرن الواحد والعشرين للكهنوت الإسلامي كحائط صد ضد الدولة الدينية! أكرر: الأزهر والإخوان والسلفيون ثلاثة أصابع ليد واحدة، والثقافة المصرية محاصرة بينها.    
          
(8)

    الاجتماعات التي عقدها المثقفون مؤخراً في مقهى ريش بوسط القاهرة تعكس قلقهم، وهو القلق المباح والضروري في ظل أغلبية إسلامية تكتب الدستور ومحاولة جادة لأخونة الدولة في كافة القطاعات. والاقتراحات التي قدمها البعض جديرة بالتنفيذ، منها عمل وقفات في ميدان طلعت حرب بشكل منتظم ورفع صور لكُتّاب وتنويريين وفنانين، وإعداد طلبات للدفاع عن حرية الإبداع في الدستور، وحرية التعبير في الصحف، وإلغاء تهمة إهانة الذات الرئاسية. الوقفة الأولى جاءت بثمرة، والاستمرار في الضغط قد يأتي بثمار أخرى. في المقابل، التخاذل في الدفاع عن حرية الفكر والإبداع ستكون نتيجته واحدة: سيتكفل الإخوان بحرق كتبنا، مثلما حرق مؤسس جماعتهم كتاباته لأنها رجس من عمل الشيطان. 

مقال منشور بالسفير اللبناني بتاريخ 1 سبتمبر 2012

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...