الأحد، ديسمبر 16، 2012

خطبة نوبل 2012... للصيني مويان


مويان الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 2012

 حاكي حكايات

ترجمة: أحمد عبد اللطيف
                                                      
     أعضاء الأكاديمية المحترمون، السيدات والسادة:

     ربما تعرّفتم  بفضل التليفزيون والإنترنت على قريتي ومسقط رأسي، منطقة دونجبي بجاومي، البعيدة جداً عن هنا. وربما شاهدتم أبي، رجلاً في التسعين، أو أخوتي، وزوجتي، وبنتي، وحفيدتي التي تبلغ من العمر ستة عشر شهراً. مع ذلك، في هذه اللحظة المجيدة جداً، لا أفتقد إلا إلى شخص واحد، أمي. ويمكننا أن نراها الآن. عندما انتشر خبر فوزي بجائزة نوبل في أرجاء الصين، هنأني الكثيرون، غير أنها الوحيدة التي لم تستطع أن تفعل ذلك.

     ولدت أمي في عام 1922 وماتت في 1994. كانت رفاتها مدفونة في حديقة خوخ بشرق قريتي. والسنة الماضية، وبسبب تشييد خط سكة حديد يعبر بهذا المكان، اضطررنا لنقل قبرها لمكان آخر بعيد عن القرية. انتبهتُ عند فتح القبر أن الصندوق الذي يضم الرماد قد اندثر، وصار جزءاً من الأرض. ولم يسعنا إلا أن نقبض على قليل من التراب كذكرى لوضعه في المقبرة الجديدة. شعرتُ، بداية من تلك اللحظة، بأن أمي كانت دوماً جزءاً من الأرض، وأنني عندما أقف فوقها لأقص الحكايات، أعرف أن أمي تنصت إليّ.

     أنا آخر أبناء أمي.

     إحدى أولى ذكرياتي معها كانت عندما حملت الزجاجة الحرارية الوحيدة التي كنا نمتلكها لأملأها بماء ساخن من المطعم العام. ولأنني كنت جائعاً وخائر القوة، لم أستطع تحمل ثقل الزجاجة، فكُسرت. ولأن الخوف تملكني جداً، اختبأت في كومة قش طول اليوم دون أن أتجرأ على الخروج. وحل الليل، وسمعت أمي تناديني بلقب العائلة. فخرجت من هناك متوقعاً ان تزجرني أو تضربني؛ إلا أنها لم تفعل، بل على العكس ملّست على رأسي وأطلقت تنهيدة طويلة.

     وأقسى ذكرى كانت اليوم الذي رافقتُ فيه أمي لنجمع القمح المتساقط في حقل تملكه الدولة.  جاء حارس الحقل، فهرب الجميع ركضاً بأقصى سرعة، إلا أمي التي  هرولت بالكاد بقدمين ملفوفتين بضمادة. فأمسك بها الحارس الذي كان طويلاً جداً وقوياً وسدد لها لكمة في وجهها. لم تستطع أمي أن تتحمّل الضربة فتهاوت على الأرض. الحارس أخذ منا القمح الذي جمعناه وانصرف وهو يصفر كأن شيئاً لم يكن. بينما ظلت أمي تنزف من فمها وهي جالسة على الأرض، ورُسم على وجهها يأس لا يمكنني أن أنساه طيلة حياتي. وبعد ذلك بسنوات طوال، عندما صار الحارس الشاب مسناً وحل الشعر الأبيض محل الشعر الأسود كاملاً، رأيته بالصدفة في السوق. أردتُ أن انقض عليه لأضربه كثأر، غير أن أمي منعتني وسحبتني من يدي وقالت بسكينة:"يا بني، السيد الذي ضربني والسيد الذي تراه ليسا نفس الشخص الآن".

     ثمة ذكرى أخرى لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتي، كنا ظهيرة حفل منتصف الخريف، واستطعنا بعد صعوبات كثيرة أن نصنع مكرونة باللحم والخضار؛ وكان نصيب كل منا قطعة صغيرة. وعندما كنا على وشك الأكل، اقترب شحاذ مسن من بيتنا. أخذتُ قطعة وعدة شرائح من البطاطس الجافة وأعطيتها له، مع ذلك غضب وقال:"أنا رجل عجوز، وأنتم تأكلون المكرونة باللحم وتهبونني القليل من البطاطس الجافة، يا لقلوبكم الباردة". أغضبتني كلماته فدافعت:"نحن لا نأكل المكرونة باللحم إلا عدة مرات في العام. وكل واحد فينا لا يأخذ إلا القليل، ما يملأ بالكاد نصف معدتنا. ولم يتبق منا إلا البطاطس الجافة، إن كنت لا تريدها، فاذهب إلى الجحيم!". حينها زجرتني أمي. ثم قامت وأخذت نصف ما عندنا وأعطته كله للسيد.

     أكثر الذكريات التي سببت لي ندماً كانت في يوم رافقتُ فيه أمي لنبيع الكرنب الصيني. بالصدفة، حصّلتُ عشر سنتات زيادة من رجل مسن. جمعتُ الحصيلة كلها وذهبتُ للمدرسة. وبانتهاء اليوم الدراسي عدتُ للبيت، فشاهدتُ أمي، وهي المرأة التي نادراً ما تبكي، تأن بحزن مفجع. كانت الدموع تكسي وجهها. لم تنهرني أمي، بل تركت الكلمات تهرب برقة:" ابني، أي خزي جلبته لي!".

     في طفولتي، أصيبت أمي بمرض رئوي. كان الجوع والمرض والإرهاق سحب أسرتنا لعمق هاوية يأس قاتمة. وكل يوم كان يتضح أمامي تنبوء فظيع، كان يبدو لي أن أمي قد تنتحر في اي لحظة، وكلما عدت إلى البيت من العمل، وعند دخولي من الباب، كنت أصرخ باسمها بصوت عال. وأهدأ بعد أن تجيبني وأكمل يومي؛ وفي حالة عكس هذه، كنت أضطرب، وأبحث عنها في كل ركن، بما فيها الغرفة الخارجية وغرفة المطحن لأجد أي أثر لها.  وذات مرة، بعد أن مشطت كل الأماكن الممكنة، لم أتمكن من العثور عليها، هكذا جلست في الطرقة وشرعت في البكاء بكل قوتي. في تلك اللحظة تحديداً، رأيت أمي قادمة من بعيد ومعها حزمة حطب. عبّرت لي عن ضيقها من بكائي دون أن أستطيع أن أشرح لها كم أنا مشغول عليها. شعرتْ أمي بسر قلبي وقالت:"يا بني، لا تشغل بالك، حتى لو فقدت كل مباهج الدنيا، ولم يحن يومي، فلن أرحل للعالم الآخر".

     أنا قبيح بالوراثة منذ ولدتُ، وكثيرون من أبناء قريتي كانوا يسخرون مني في وجهي؛ وبعض زملاء دراسة أشرار ضربوني حتى لهذا السبب. ذات يوم عدتُ للبيت، وبدأت أبكي بحزن كبير، فقالت أمي:"يا بني، لست قبيحاً. أنت ولد طبيعي، كيف تقول إنك قبيح؟ إضافة لذلك، لو ظللت شاباً بقلب أبيض وصنعت الخير، حتى لو كنت قبيحاً بالفعل، ستصير ولداً جميلاً". عندما انتقلتُ للمدينة، بعض أشخاص قد تلقوا تعليماً جيداً كان يسخرون مني بالنكات الحمقاء حول وجهي، أحياناً من وراء ظهري وأحياناً أخرى أمامي. في تلك اللحظات، كنت أستحضر كلمات أمي، فتهدئني، وأنتبهتُ أنني أنا من يتحتم عليه أن يطلب منهم المعذرة.
     كانت أمي أمية، لذلك كانت تحترم بشكل مفرط كل من تلقي تعليماً. كانت حياتنا مليئة بالصعوبات، ولم يكن بوسعنا توفير ثلاث أكلات عادية يومياً، غير أنني كلما طلبت منها شراء كتاب أو ورق، لم تكن تتأخر. كانت امرأة جادة في العمل، وتكره الشباب الكسالى، لكنني كلما كرست وقتاً لقراءة الكتب ونسيت عملي، كانت تلتمس لي عذراً.   

     ذات مرة جاء حكاء إلى سوق قريتنا. فهربتُ من الأعمال التي كلفتني بها أمي وذهبت للسوق لأسمع الحكايات. نهرتني أمي على ذلك. وبالليل، عندما بدأتْ في تجهيز المعاطف الشتوية تحت ضوء مصباح الزيت الخافت، لم أستطع السيطرة على نفسي وقصصت عليها الحكايات التي تعلمتها خلال اليوم. في البداية، لم تكن لديها رغبة لسماع أي كلمة لأن الحكاء كان لا يبدو لها مهنة عادية وأن الحكائين ليسوا إلا ثلة من الرجال الثرثارة والمهرجين؛ إضافة لذلك، فالحكايات التي يحكونها لا تقدم أشياءً مفيدة. مع ذلك، جذبتها رويداً رويداً الحكايات التي بدأت في روايتها. بعد ذلك، كلما أقيمت الاحتفالات، لم تكن أمي تكلفني بأي عمل؛ أعطتني بذلك إذناً ضمنياً بالذهاب لسماع الحكايات. ولكي أكافيء كرمها وأيضاً لأزهو بقوة ذاكرتي، كنت أقص عليها كل التفاصيل الخاصة بكل الحكايات التي سمعتها طوال اليوم.

     بعد فترة قليلة، لم يعد يشبعني حكي الحكايات التي يحكيها الحكاء كما هي، هكذا شرعت في خلق تفاصيل أثناء القص. وبهدف أن تروق لأمي، كنت أضيف مقاطع وأحياناً أعدل النهايات. مع الوقت لم يقتصر المستمعون على أمي وحدها، بل انضم لها أختى وخالاتي، وشكّلت جدتي جزءاً منهم. أحياناً كانت أمي تعبر عن قلقها بعد سماعها للحكاية. كان يبدو أنها توجه كلامها لي لكن أيضاً ربما توجه لنفسها. "يا بني، أي مهنة ستمتهن في المستقبل؟ أتريد أن تعمل في حكي الحكايات؟"

     أدركتُ قلق أمي لأنهم في قريتنا لم يكونوا يحترمون الولد المتكلم، فأحياناً ما يجلب المتاعب لنفسه والمشاكل لعائلته. في قصتي "الثور" أحكي عن ولد  مرفوض في قريته لأنه يتحدث كثيراً، إنها حكاية صباي. كانت أمي تذكرني بتكرار أن أتحدث قليلاً لأنها تتمنى أن أكون ولداً هادئاً وكريماً، وصامتاً. مع ذلك، برهنت أنني أتمتع بقدرة لغوية وميل كبير للحديث، وهو ما كان يمثّل خطورة واسعة. وكانت قدرتي على حكي الحكايات يسبب لأمي بهجة. يا للمعضلة التي كانت تعيشها! 

     يقول المثل الصيني:"من الممكن ن تغير عائلتك الملكية، لكن من الصعب تغيير شخصيتك"، ورغم أن أبويّ قد ربياني بكثير من العناية، إلا أنهما لم يستطيعا تغيير كوني أحب التكلم. وهذا ما أعطى معزى ساخر لاسمي مو يان، الذي يعني "لا تتحدث".

     لم أستطع أن أنهي دراستي وتحتم عليّ أن أترك المدرسة لأن حالتي الصحية، في طفولتي، كانت حساسة جداً؛ لم أكن أستطيع بذل مجهود كبير ولم يسعني إلا رعي غنمنا  بمرج مهجور. وعندما كنت أسوق البقر إلى المرج ونعبر من أمام باب المدرسة، كنت أرى زملاء الدراسة يلعبون ويدرسون فأشعر كم أنا وحيد وبائس. بداية من تلك اللحظة أدركت الألم الذي من الممكن أن نسببه لأحد، حتى لطفل عندما يقصونه من وسط الجماعة التي يعيش بينها.

     أطلقت الماشية في المرج وتركتها ترعي بحرية. تحت سماء بلون أزرق كثيف تبدو كمحيط لا نهائي، في هذا المرج الأخضر الرحب لدرجة أنه لا يمكن الوقوف على حدوده في أي اتجاه، لم يكن هناك إلا أنا ولم يكن يُسمع لأحد إلا زقزقة العصافير. كنت أشعر بأنني منعزل جداً، كأن روحي قد هربت مني ليبقى جسدي فارغاً من الداخل. كنت أرقد أحياناً في المرج ناظراً إلى السحاب الذي كان يطفو فوقي بكسل وتأتيني صور كثيرة غير واقعية وبلا مغزى. كانت تنتشر في قريتي حكايات عن ثعالب قديمة قد تتحول لنساء جميلات. لهذا كنت أتخيل أن واحدة من تلك الجميلات قد تأتي وتصطحبني بينما أرعى الماشية، لكنها لم تظهر أبداً. مع ذلك رأيت ذات مرة ثعلباً  بلون أحمر لافت يقفز من فوق شجيرات بمواجهتي. وقعتُ على الأرض جراء الرعب. واختفى في الحال، غير أنني بقيت في مكاني جالساً ومرتعشاً خلال وقت طويل. وأحياناً كنت أجلس مقرفصاً بجانب ثور لأنظر لعينيه ذات اللون الأزرق السماوي وانعكاسي فيهما. وأحياناً كنت أحاكي زقزقة العصافير وأحاول التحدث معها؛ وأحياناً كنت أدع أسرار قلبي لشجرة. إلا أن العصافير لم تعبأ بي، ولا الأشجار. وبعد سنوات طوال، عندما أصبحت كاتباً، ضمّنت رواياتي كل الخيالات التي راودتني في صباي. وأشاد الكثيرون قدرتي على التخيل. وبعض هواة الأدب سألوني عن السر وراء كل هذا الخيال. حينها كنت أجيبهم بابتسامة مُرّة.

     كما قال جدنا الحكيم لوازي:" في السعادة تختبيء المصائب؛ وفي المصائب تكمن السعادة". وخلال مراهقتي عانيت آلاماً كثيرة، مثل ترك المدرسة، الجوع، العزلة ونقصان الكتب. إلا أنني فعلتُ ما فعله كونجون شن، وهو كاتب كبير من جيل سابق: قراءة ما يمكن في المجتمع والحياة فكلاهما معاً يشكل كتاباً كبيراً غير مرئي. وما حكيته في البداية عن السوق واستماع الحكايات هو الصفحة الأولى في كتاب حياتي.

     بعد أن تركتُ المدرسة، نفيتُ نفسي مع البالغين وبدأت مرحلة طويلة من "القراءة بالأذن". من مئتي عام، كانت يعيش في مسقط رأسي حكّاء عبقري: السيد سونجلينج بو. كثيرون من أهل قريتي، بمن فيهم أنا، أصبحنا ورثته. وفي الحقل التابع للحكومة، وفي مزرعة الإنتاج، وفي سرير أجدادي، والعربة المرتجفة التي يجرها ثور، سمعتُ مئات الحكايات عن الأشباح والأروح، مئات الاساطير التاريخية، حكايات مثيرة مرتبطة بشكل وثيق بالطبيعة القروية والتاريخ العائلي، وقد أثارت فيّ شعوراً واضحاً بالواقع.

     لم أكن أتصور أبداً ان تلك الاشياء قد تفيدني في المستقبل كمواد خام لكتاباتي. في تلك الفترة لم أكن سوى هذا الولد الذي تدهشه الحكايات والكلمات التي تستخدم في الحكي. في تلك الفترة كنت، بالطبع، مؤمناً. كنت اعتقد أن كل شيء له روح. وعندما كنت أصادف شجرة عالية وكبيرة، كانت تراودني الرغبة في إن أعبر لها عن احترامي. وعندما كنت أرى عصفوراً، كنت أنشغل بمتى سيصبح كائناً بشرياً. وعندما أرى رجلاً غريباً، كنت أشك إن كانت روح حيوان دخلت في جسد بشري. وكل ليلة مع عودتي للبيت من مكتب مزرعة الإنتاج، كان يهاجمني خوف مروع. ولكي أطرده، كنت أغني بصوت مرتفع وأنا أركض للبيت. في تلك الفترة كنت أبدأ في المراهقة، وصوتي يتغير، والأغاني الفظيعة التي كنت أغنيها بصوتي الخشن كانت عذاباً لجيراني في القرية.

     خلال الواحد وعشرين سنة التي عشتها في قريتي، كانت أطول رحلة قمت بها إلى كينجاتو بالقطار. في تلك الرحلة تُهتُ تقريباً بين الواح خشب إحدى ورش النجارة. وعندما سألتني امي عن الطبيعة هناك، أجبتها بأنه للأسف لا شيء هناك سوى ألواح هائلة من الخشب. لكن بفضل هذه الرحلة، اتضح لي أنني يجب أن أخرج من القرية وأرى العالم خارجها.

     في فبراير 1976 اكتملت في كل شروط الالتحاق بالتجنيد، فحملتُ معي أربع مجلدات عن "التاريخ الموجز للصين" التي اشترتها لي أمي بمال ذهبها الذي باعته، وخرجت هكذا من منطقة دونجبي بقرية جاومي، المكان الذي أحمل له كل المشاعر، الإيجابية والسلبية، لأبدأ مرحلة هامة في حياتي. يجب أن أعترف أنه لولا التقدم الكبير وتطور المجتمع الصيني خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، بسبب الانفتاح والإصلاح، ما كان هناك كاتب مثلي الآن.

     كنتيجة للملل العسكري، دخلت في موجة أدبية جديدة وفي الانفتاح الفكري في ثمانينات القرن الماضي. حينها لم أكن إلا هذا الولد الذي يروق له سماع الحكايات وترديدها، هكذا قررت البدء في الحكي بقلم رصاص. مع ذلك، تعثرت في البداية في صعوبات كثيرة لأنني لم أنتبه إلى أن تجربة حياتي في القرية خلال اكثر من عشرين سنة كانت كنزاً. كنت أظن أن الأدب تسجيل اللحظات العذبة وتذكر الناس النبلاء، كنت أعتقد أنه ببساطة وصف الأبطال والصور الاجتماعية المثالية، هكذا رغم نشري عدة أعمال، لم تتمتع بالجودة.

     في عام 1984 اجتزت امتحان القبول والتحقت بكلية الآداب بأكاديمية الفنون التابعة لجيش التحرر الشعبي. وبفضل ملاحظات ومساعدات أستاذي الجليل، الكاتب الشهير هوزهونج كسو، تمكنت من تجهيز عدة حكايات وروايات قصيرة، مثل "الماء الخريفي" "البحر الجاف" "الفجل الأحمر غير المرئي"، "ذرة رفيعة حمراء"، إلخ. في الماء الخريفي، ظهر لأول مرة اسم قريتي: منطقة دونجبي بجاومي، وبداية من تلك اللحظة، شعرت بأنني فلاح متجول عثر في النهاية على الحقل الذي كان يبحث عنه، كاتب تائه وجد في آخر المطاف نبع إلهامه الخاص. يجب أن اعترف انني في عملية إبداع منطقة دونجبي بقرية جاومي في أعمالي، ألهمني كثيراً كل من الامريكي ويليام فوكنر والكولومبي جارثيا ماركيز. لم أكن حتى ذلك الحين قد قرأت أعمالهما بتدقيق، لكن روحهما المبدعة وسخاءهما أثارا حماستي كثيراً. لقد جعلاني أفهم أنه على كل كاتب أن يكون له خصوصيته. كل شخص يجب أن يكون متواضعاً مع مرور الأيام، مع ذلك يجب أن يكون متغطرساً وقاطعاً في إنتاجه الأدبي. اتبعت خطوات هذين الأستاذين خلال سنتين، لكن بعدهما انتبهتُ أنني يجب أن أبتعد عنهما. وقد عبرت عن هذا في مقال لي:"هذان الأستاذان مثل فرن ملتهب وأنا مثل قطعة من الثلج، لهذا لو اقتربت أكثر منهما سأتبخر". في رأيي، التأثير الذي نتلقاه من كتاب آخرين ينجم عن التشابه الروحي الذي نخبئه داخل أعماق قلوبنا، كما نقول في الصين:"الروحان المتشابهتان تتفاهمان سريعاً". بالتالي، حتى ولو لم أقرأهما بعناية، فمن خلال صفحات قليلة كنت أستطيع أن أفهم ما فعلوه، أستطيع أن أفهم كيف فعلوه، وبعدها يتضح لي ما يجب أن أفعل والطريقة التي أفعل بها.
     ما فعلته كان بسيطاً جداً، حكاية الحكايات على طريقتي. وطريقتي هي نفس طريقة حاكي الحكايات بسوق قريتي، حكايات أعرفها جيداً؛ أحكيها بطريقة حكي أجدادي أيضاً وعجائز قريتي. بكل صراحة، عندما أحكي حكاياتي، لا يمكنني أن أتخيل من سيكونون قرائي. ربما قاريء مثل أمي، أو مثلي. حكاياتي هي تجارب الماضي، كما هي تجربتي في "بحر جاف" هذا الولد الذي يضربونه بقسوة، وفي الفجل الأحمر غير المرئي، هذا الولد الذي لا يتحدث منذ بداية العمل لنهايته. انا مثل هذا الولد، ضربني أبي ضرباً مبرحاً ذات مرة لانني ارتكبت خطأ. أنا أيضاً من كلفوني بمنفاخ أثناء تشييد جسر. بالطبع، كلما كانت الخبرات فريدة، كلما أمكن ضمها في متن رواية، لكن الروايات يجب أن تكون خيالية وخلابة، فلا يصح كتابة تجارب لا جدوى منها. أصدقاء كثيرون أخبروني أن "الفجل الأحمر غير المرئي" أفضل رواياتي. بخصوص هذا الرأي، لا ارفضه ولا أقبله، لكن على أية حال الفجل الأحمر غير المرئي هي أكثر الأعمال التي تحمل بصمتي وتبرز مغزاها العميق. هذا الولد صاحب البشرة الغامقة الذي يتمتع بقدرة لا تقارن لتحمل كل أنواع الآلام ولديه قدرة أخرى فريدة بإدراك تغيرات الحياة الصغيرة، هذا الولد هو روح هذه الرواية. ورغم أنني صنعت شخصيات اخرى كثيرة بعده، لا أحد يقارن بهذا الولد لأنه بشكل عملي الصورة الكاملة لروحي. بمعنى آخر، من بين كل الشخصيات التي يصنعها الكاتب نفسه هناك دائماً شخصية أعلى من الأخريات؛ هذا الولد الصامت من هذا النوع، لا يتحدث غير أنه قادر على تحريك كل الشخصيات وملاحظة الأحداث المبهرة التي تحدثها الشخوص في مسرح مثل جاومي.

     الخبرات الشخصية محدودة. وعندما انتهت هذه الحكايات لم أجد من وسيلة أمامي إلا قص حكايات الآخرين. حكايات أقاربي وجيراني، والحكايات التي حكاها لي عجائز القرية عن أسلافي، والتي دخلت رأسي كأنها جنود تجتمع لتسمع أمراً. توغلت كلها لداخلي على أمل أن تكون مكتوبة بيدي. جداد من أبي، أبواي، أخوتي الأكبر مني، أعمامي، زوجتي وابنتي، كلهم ظهروا كشخصيات روائية. بالطبع أدخلت عليهم تغييرات أدبية ليكونوا أكثر معنى وليصيروا صوراً شعرية حقيقية.

     في روايتي الأخيرة "ضفدعة"، تظهر صورة خالتي. وبعد إعلان فوزي بنوبل ذهب صحفيون كثيرون إليها ليحاوروها. في البداية، تمتعت بصبر جم وأجابت على الكثير من أسئلتهم، لكنها لم تستطع تحمل المضايقات كثيراً فاختبأت في بيت ابنها، الذي يعيش في عاصمة مقاطعتنا. كانت خالتي الموديل الحقيقي الذي اشتغلت عليه أثناء إعدادي للرواية؛ مع ذلك، تختلف الشخصية الروائية كثيراً عن خالتي. فالشخصية قوية جداً كأنها عضو في مافيا، بينما خالتي ظريفة جداً ومبتهجة، زوجة كاملة وأم ساحرة. خالتي الحقيقية تمتعت بحياة سعيدة جداً حتى الآن، بينما خالتي الروائية، عندما شاخت، عانت من الأرق الناتج عن جرح نفسي عميق وكانت ترتدي ثياباً أسود كل الأيام كأنها شبح يتجول بالليل. ينبغي أن أشكر خالتي الحقيقية على تسامحها لأنها لم تغضب بعد أن عرفت أنني قد وصفتها بهذه الطريقة؛ أقدر كذلك ذكاءها لأنها استطاعت فهم العلاقة المعقدة الموجودة بين الشخصيات الأدبية والواقعية.

    عندما ماتت أمي، خنقني الألم وقررت أن أكتب كتاباً عن حياتها. أشير إلى "نهود كبيرة ومؤخرات عريضة". ولأنني كنت أعرفها جيداً طيلة حياتي وكنت ممتلئاً بمشاعري ناحيتها، أنجزت المسودة الأولى لهذه الرواية في خمسمائة الف كلمة خلال ثلاثة وثمانين يوماً.

     في "نهود كبيرة ومؤخرات عريضة" تجرأت واستخدمت تفاصيل كنت أعرفها عن حياتها؛ مع ذلك، فيما يخص تجاربها العاطفية، اخترعتُ جزءاً منها وراكمت تجارب الأمهات من سنها في قرية جاومي. ووضعت في إهداء الكتاب العبارة التالية:"إلى روح أمي"، مع ذلك، فهذا العمل في الواقع مهدى إلى كل أمهات هذا العالم. وهذا أحد طموحاتي، مثل طموح أن أمتص الصين والعالم فتكون جاومي صورته المصغرة.

    هناك طرق مختلفة لإلهام الكُتّاب، وكتبي أيضاً لها منابع إلهام متعددة. بعض الكتب استلهمتها من أحلامي، كما حدث في "الفجل الأحمر غير المرئي"، وبعض آخر من الواقع، كما حدث في "رقصات الثوم". أياً كان مصدر الإلهام، التجارب الشخصية لا غنى عنها ولها تأثيرات هامة، حيث تزود العمل بفرادة أدبية. على العمل الأدبي أن يتمتع بشخصيات مختلفة مرسومة بشكل جيد بصفاتها الخاصة، بحيث تبرز لنا كلماتها اللامعة داخل بنية روائية فائقة. أريد أن أتحدث قليلاً عن "رقصات الثوم". لقد رسمت في هذا العمل شخصية هامة جداً: حاكي حكايات. لكنني استخدمتُ الاسم الحقيقي لصديق في الواقع حكّاء، هكذا يجب أن أعتذر له. بالطبع، ما يفعله في الرواية متخيل. لقد حدثت هذه الظاهرة في مرات كثيرة من أعمالي: عندما أبدأ في كتابة رواية أريد أن أستخدم أسماءً حقيقية لأنقل شعوراً حقيقياً، ومع ذلك، عندما أنجز الرواية يكون من المستحيل تغيير هذه الأسماء. في أحيان كثيرة، الأشخاص الحقيقيون الذين استخدم اسماءهم في اعمالي يبحثون عن أبي ليشكوا إليه. أبي لا يعتذر لهم فحسب، بل يهدئهم ويشرح لهم قائلاً:" العبارة الأولى في ذرة حمراء رفيعة عن أبيه ويقول فيها: أبي نجل قاطع طريق شرير. وإن كنت أنا لم اعبأ بما قاله، فلماذا يجب أن يصيبكم الحنق؟".

          عندما كتبت روايات من نوع "رقصات الثوم"، اقصد الروايات الواقعية، المعضلة الكبيرة التي واجهتني لم تكن الخوف من مواجهة الظلمات الاجتماعية ونقدها، بل كيف يمكنني أن اسيطر على الشغف العارم والغضب حتى لا أضل طريقي صوب السياسة ولا أبتعد عن الأدب. لا أريد أن أكتب تاريخاً للأحداث الاجتماعية. فالروائي جزء من المجتمع، ومن الطبيعي أن يكون له آراؤه الخاصة وأفكاره؛ مع ذلك، عندما يتصدى للكتابة يجب أن يكون عادلاً، يجب أن يحترم الشخصيات كما يحترم الشخصيات الواقعية. وكلما تحقق هذا الشرط، من الممكن أن يتمخض الواقع عن أدب ويتفوق عليه، من الممكن أن ينشغل بالسياسة لكنه يعلو عليها.

     لقد منحتني الفترات الزمنية الطويلة والصعبة التي عشتها تفاهماً كبيراً للبشرية. أعرف ما هي الشجاعة الحقيقية وما هي الرحمة النقية. أفهم أن في القلب البشري مكان لا يمكن تعريفه بالخير أو الشر؛ أنه مظهر رمادي يهب الكاتب احتمالية كبيرة لصنع عمل جليل. وكلما اختار بشكل صحيح ووصف بشكل حيوي هذا المكان الرمادي والملتبس، استطاع عمله أن يكون أكثر جودة، فيتجاوز حدود السياسة، ويصبح أدباً حقيقياً.

     لا يريحني الحديث عن أعمالي بلا توقف، لكن حياتي ورواياتي وجهان لعملة واحدة، ولو لم أتحدث عن أعمالي، لا أدري عن أي شيء من الممكن أن أتحدث هنا. وبالتالي، اسمحوا لي أن أواصل حديثي.

     بالنسبة لأعمالي الأولى، ولأنني حكّاء حديث، قررتُ أن أموّه بها. لكن، بداية من "محنة الصندل" قررت أن أغير أسلوبي. إن وصفنا أسلوبي السابق على أنه أسلوب حكاء لا يفكّر في القراء، فبداية من هذا العمل تخيلت أنني في ميدان أحكي حكايات لجمهور بكلمات آسرة. هذه الطريقة كلاسيكية في الإعداد لروايات وكذلك كلاسيكية في الروايات الصينية. هكذا تعلمت أساليب الروايات الغربية الحديثة، واستخدمتُ أساليب سردية مختلفة أيضاً، لكن في النهاية، لجأت إلى التقاليد. بالطبع، العودة إلى التقاليد ليست هذا فحسب. "محنة الصندل" والروايات التالية هي مزج التقاليد الصينية والتقنيات السردية الغربية. والروايات المجددة نتاج لهذا النوع. لم أصهر فقط التقاليد بالتقنيات بل أيضاً السرد وفنون فولكلورية أخرى. على سبيل المثال، "محنة الصندل" كانت محاولة لمزج الرواية بالأوبرا المحلية، كما يحدث في رواياتي الأولى، التي تغذت بالفنون الجميلة والموسيقى وحتى الأكروبات.

     أخيراً، اسمحوا لي أن أقدم لكم عملاً آخر لي:"الموت والحياة يستنزفاني". استلهمت عنوان هذا الكتاب من أشعار بوذية. حسب ما قالوه لي، ترجمة هذا العنوان سبّبت للمترجمين من بلدان مختلفة مشاكل، نعم ليست كبيرة لكنها جديرة بالاعتبار. لست متخصصاً في البوذية وفهمي للشعر البوذي سطحي، غير أن السبب الذي لأجله اخترت هذا العنوان لروايتي إعجاب أكنه للأفكار البوذية. وإحدى النقاط الاساسية لهذا الفكر الفهم الحقيقي للكون. يرى البوذيون أن الكثير من الصراعات البشرية بلا معنى. ويبدو العالم الحالي للبوذيين قاتماً جداً. بالطبع، لم أكن أنوي كتابة خطبة دينية في هذا الكتاب؛ ما كتبته تناول مصير ومشاعر الكائن الإنساني، والحدود التي تحده، والتسامح، والجهود والتضحيات المطلوبة لتحقيق هدف شخصي والحصول على السعادة. الشخصية ذات الوجه المائل للزرقة والذي كان يصارع التيار التاريخي هو البطل الحقيقي في قلبي. والشخص الواقعي الذي يتوافق مع هذه الشخصية كان فلاحاً يعيش في قرية بجوار قريتنا. في صباي، كنت أراه يعبر باستمرار من أمام باب بيتنا، دافعاً عربة كارّو تصدر ضجيجاً غريباً وطفيفاً. حمار أعرج كان يجر العربة، وزوجة الرجل كانت من تسحب الحمار. كانت مجموعة العمل الملفتة هذه غريبة جداً وخارجة عن السياق في مجتمع تلك الفترة. وفي نظر أطفال مثلنا، كانوا كائنات مضحكة تسير ضد التطور التاريخي؛ حتى أننا كنا نلقيهم بالحجارة لنعبّر عن اعتراضنا عليهم. وبعد سنوات طوال، عندما شرعتُ في كتابة حكاية عنهم، بزغت هذه الشخصية بوجهها المائل للزرقة، بهذه الصورة، في عقلي. وكنت أعرف أنني، عاجلاً أم آجلاً، سأكتب عنه كتاباً، وأنني سأقتسم حكاياته مع كل العالم. مع ذلك، لم يحدث ذلك قبل 2005، عندما كنت في زيارة معبد بوذي وراقت لي الأسوار التي كانت تمثل "المراحل السبع لعجلة الكارما العظيمة"، حينها جاءت اللحظة لأفهم ما الطريقة الأنسب لحكاية حكاياته.

     حصولي على جائزة نوبل فرض مفارقات كثيرة. فكرت في البداية في أنني بطل هذه التناقضات؛ مع ذلك، انتبهتُ قليلاً قليلاً إلى أن البطل شخص آخر مختلف لا علاقة له بي. وتحولتُ إلى مشاهد دراما بينما أشاهد الآخرين يمثلون على نفس خشبة المسرح. شاهدتُ البطل، الفائز بنوبل، يقدمون له الورود، لكنهم أيضاً يرجمونه بالحجارة وبالماء الوسخ. كنت أخاف ألا يحتمل. مع ذلك، هرب من الورود والحجارة، نظّف نفسه من بقع الماء الوسخ وخرج بهدوء ليلقي على الجمهور خطبة.

     لأنني كاتب، فالكتابة أفضل طريقة للتواصل مع الجمهور. وكل ما ينبغي أن أقوله موجود في أعمالي. الكلمات التي تخرج من الفم يحملها الهواء، بينما الكلمات المكتوبة تبقى للتاريخ. أتمنى أن تستطيعوا قراءة أعمالي بصبر، رغم أنه ليس من حقي بالطبع  أن أجبركم على قراءتها. ولو كنتم قد قرأتموا بالفعل، فلا أستطيع أن أغير آراءكم التي كونتموها عنها لأنه لا يوجد كاتب في هذا العالم يستطيع أن يشبع كل القراء خاصة في زمن مثل الذي نعيش فيه الآن.

     لا أريد أن أقول شيئاً آخر، لكن بوضع المكان واللحظة في اعتباري أشعر بأنني يجب أن أقول، هكذا سأحدثكم بالطريقة الوحيدة التي أعرفها.


     أنا حاكي حكايات وسأظل أرغب في حكي الحكايات لكم.

     في ستينيات القرن الماضي، عندما كنت في الصف الثالث بالمدرسة، نظمت مدرستنا زيارة لمعرض حول المعاناة. تحتم علينا أن نبكي حسب أوامر المعلم. ولأظهر للمعلم كم أنا مطيع لم أرغب أن أجفف دموعي من وجهي. في نفس الوقت، رأيت بعض زملاء الفصل يبللون في الخفاء أصابعهم بأفواههم ويرسمون خطين من الدموع على وجوههم. في النهاية، من بين كل الذين يبكون، سواء عن حق أو نفاقاً، اكتشفت زميلاً بلا دمعة ولا حتى يغطي الوجه بيديه ليتصنع الحزن، بل كانت عيناه مفتوحتين على الآخر وبانطباع مدهوش، كأنه لا يفهم. بعدها، وشيت بهذه الحادثة للمعلم، وبالتالي قررت المدرسة أن تعطيه رسمياً درجات سلبية ولفت نظر. وبعد سنوات طوال، عندما اعترفتُ لمعلمي بمدى الحزن الذي تركه في هذا الحدث، واساني بقوله إن أكثر من دستة من التلامذة ذهبوا ووشوا به أيضاً. مات هذا الزميل منذ عشر سنوات، لكن كلما تذكرت هذه الطرفة، أشعر بأسى عميق. تعلمت من هذه التجربة درساً عظيماً: حتى لو بكى كل العالم، علينا أن نسمح بوجود أشخاص لا يريدون البكاء. وما دام هناك من يتصنعون الدموع، علينا إذن أن نشعر بتسامح خاص ناحية من لا يبكون.
 
     عندي حكاية أخرى لكم. منذ أكثر منذ ثلاثين عاماً كنت أعمل بالجيش. وذات ليلة، عندما كنت اقرأ كتاباً في مكتبي، دخل ضابط قديم، وألقى نظرة على الكرسي المواجه لي، وهمس لنفسه:" حسناً، لا يوجد أحد هنا". نهضت في الحال وتجرأت على الصياح فيه:"ألا ترى أنني هنا؟" غضب هذا الضابط العجوز واحمّر وجهه، وانصرف بخجل. شعرت بالرضا عن نفسي خلال وقت طويل، واعتبرت نفسي رجلاً شجاعاً؛ مع ذلك، بعد سنوات طوال، شعرت بندم عميق.

     اسمحوا لي أن أحكي لكم حكاية أخيرة حكاها لي جدي منذ سنوات كثيرة: كان هناك ثمانية عمال بناء خرجوا من قريتهم الأصلية للبحث عن عمل. وليحموا أنفسهم من عاصفة على وشك الهبوب، دخلوا معبداً مهدوماً. حدث برق ورعد فأضيئت السماء المظلمة، واخترقت أصوات غريبة باب المعبد وبدت هدير تنانين. ماتوا جميعهم من الرعب، وشحبت وجوههم. قال أحدهم:" إنها علامة عقاب إلهي. لابد أن بيننا أحد فعل فعلة شريرة. من هذا الملعون؟ فليخرج الآن. فليخرج ليتلقى العقاب السماوي وحتى لا يمتد الحظ السيء إلينا". بالطبع، لم يكن أحد يريد الخروج. فاقترح آخر:" بما أن أحداً لا يريد الخروج، فلنلق بقبعاتنا إلى الخارج، والقبعة التي لا تعود سيكون صاحبها هو الشخص المقصود. وسنطلب منه حينها أن يرحل". وافق الجميع وألقوا بقبعاتهم إلى الخارج. قبعة واحدة بقت في الخارج وعادت بقية القبعات للداخل. أراد البناءون السبعة طرد الشخص صاحب القبعة التي بقت في الخارج. رفض الولد قبول هذا القرار. فأخذوه الشباب السبعة في تلك اللحظة وطردوه بالقوة. أظن أنكم عند هذه النقطة من الحكاية قد خمنتم النهاية: في نفس اللحظة التي طردوه فيها، تقوض المعبد ومات السبعة أولاد.

     أنا حاكي حكايات.

     منحوني جائزة نوبل لحكاياتي.
    وبعد حصولي على الجائزة حدثت حكايات كثيرة مبهرة ستكون جزءاً من حكاياتي القادمة وتجعلني أؤمن بوجود العدل والحق.
 
     سأواصل في المستقبل حكي الحكايات

     شكراً لاستماعكم!

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...