الأحد، ديسمبر 20، 2009

مدينة العشق الوهمية

أتعلمين كيف يشيدون مدن العشق الوهمية ؟


    أول ما يفعلونه، يا حبيبتي ، هو إقامة أسوار . ظناً منهم أن هذه أولي سبل الأمان لساكنيها ...أسوار عالية قدر المستطاع ، بسبائك من الذهب والفضة ،ولا مانع من إضافة بعض النحاس والحديد ليكتمل الجمال مع طلوع الشمس المشرق . بعدها يتم التشييد الداخلي ، حيث قصور من الذهب الخالص ، وأرضيات الرخام ،ولوحات لبيكاسو وسلفادور دالي ، وسجاجيد عجمية تريح السائر ، وعدد لا بأس به من حمامات السباحة ..ربما يحلمون أيضاً أن يصنعوا لهم شمساً خاصة ، تعمل وقت الليل يجانب القمر ، ليزداد المنظر ألقاً ...أما السكان ، وهم عشاق بالضرورة ، فلابد أن يرتدوا أبهى ما لديهم من ملابس ،وزينات ، وأساور ، ولا مانع من الوصول لارتداء الاستبرق الأخضر تشبهاً بأهل الجنة المزعومة ... يجب أن يكون العشاق ، رجالاً ونساءً ، أجمل ما يكون ، ومن الضروري بالتالي استخدام كريمات لتفتيح البشرة ، ولإخفاء الهالات السوداء ، ووضع ماسكرا تليق بحورية . لابد أيضاً من شفاه حمراء ، وعيون مرسومة كامرأة فرعونية ، وشعر ينعم به من يلمسه ، ولابد من اختراع وسائل اغواء ، عمليات سيليكون مثلا ، ملابس تبرز المفاتن... العشاق ايضاً لا يكفون عن استخدام الحقن والعقاقير ، بعضها لخلق عضلات ، وبعضها لحسن المجامعة . ومنهم من يستخدم مساحيق النساء ...


  في صباح كل يوم ، تجد العاشقات والعشاق يتجولون في مدينة العشق الوهمية بأنف تقارب السحابات ، منتفشي الريش كطواويس حقيقية ...وفي الظهيرة يمسكون الشوكة والسكين بعجرفة ، يتظاهر كل منهم بأنه الأفضل علي الدوام .حديثهم لا يكون في العشق قدر التفاخر بما يملك ...في مدن العشق الوهمية ، التجمل ، وليس الجمال ، هي الوسيلة الوحيدة للاستمرار ...
ولأنها وهمية سريعا ما تسقط ، تتهاوى ، تنهار أمام ريح قوية ، أو عاصفة رقيقة ...لم يعلم سكان مدينة العشق الوهمية أن الكذب حل مؤقت يحل جميع العقد . وأن الصدق هو النجاة حتى ولو كان مؤلماً ، لذلك ، عندما شيدوا قصر مدينتهم شيدوه بالذهب ،رغم أن البناء لا يكون إلا بالطوب المحروق أو الحجارة الجيرية . وأن الطوب في حاجة لمادة لاصقة ، لكنهم استكبروا علي استخدام الأسمنت . نسوا ، أو تجاهلوا ، أثناء تشييدهم مدينتهم ، أن يبنوا أنفسهم أولاً ، بلبنات من الصدق والوضوح والصراحة ، فصاروا يبنون حولهم ، لا داخلهم ، قصورا ذهبية . لم يعلموا ، أو علموا وتناسوا ، أن الأسوار تبنى بمفردها لو صدقوا . وأن العشق وحده أقوى من كل الأسوار .
 مدينة العشق الوهمية كان يجب أن تختفي ولا يذكرها أحد ، وإن بكى ساكنوها على أطلالها ، فلن يعيد لهم ذلك شيئاً .لأن أحدهما رأى عورات الآخر أثناء تبوله ، ودون إرادة منه ...لأن أحدهما اشتم في الآخر الرائحة الكريهة التي حاول طول الوقت أن يداريها عنه . الثقة ضاعت مع العاصفة ...لأن مدينة العشق الوهمية مثل جنة آدم ...






الأحد، ديسمبر 13، 2009

وداعاً أبي

قال : أنت تؤمن بالمستحيل . قال : الناظرون إلى السماء يتعرقلون في الأرض . قال : لن تغير العالم . قال : لا تصدق إلا عقلك . قال : لن تهنأ بجوار امرأة ملتوية .قال : لا تطلب أكثر مما تعطي . قال : لا تترك الأبواب مواربة والنهايات مفتوحة . قال : لآخرون يصفقون عندما تنجح ، لكنهم لا يصنعون نجاحك . قال : افعل ما تريد مهما كلفك الأمر . قال : لا تبك إلا أمام امرأة تعشقك . قال : لا تقل إلا ما تعتقد ، ولا تعتقد قبل أن تفكر . قال : لا تصدق كل ما يُقال . ________________________________ أبي ، وداعاً ( 4 ديسمبر 2009)

السبت، أكتوبر 17، 2009

نوبل الآداب /2009 / هرتا مولر

جذور هرتا مولر المقتلعة .

ترجمة : أحمد عبد اللطيف

( أخبار الأدب ، بتاريخ 17/10/2009)

في بيت متواضع يحمل رقم 353 بالشارع الرئيسي بقرية نيتشيدروف ، ولدت هرتا مولر . بيت أخضر ، مشيد بالطوب اللبن ، يبدو أنه يقاوم إرادة الزمن نفسها، وحوله تجد الكلاب والقطط المزدرية ، هذه الحيوانات التي كتبت عنها هيرتا أنه من الصعب التمييز بينها . كما كتبت في " الأراضي السفلية " أنه "خلف البيت يترقرق جدول مياه ، ويُقهر الحصى ، وتُقمع الحجارة " . وفي القرية الصغيرة المحتضرة ، ذات الألف نسمة والشوارع الضيقة ، حيث يسود البرد والريح فيجمدان الدم حتي في الأيام المشمسة ، مثل يوم أمس ، نشأت نوبل الآداب لعام 2009 . هنا تربت كحفيدة لمزارعين وتجار فقدوا ممتلكاتهم مع وصول النظام الشيوعي ، وكابنة لعضو في WAFFEN SS ، ولأم منفية في حقل عمل بأوكرانيا . هنا مازال بيتها القديم قائماً ، ضد إرادة مواد البناء . من هنا هربت من مخالب الشمولية ، التي صارت موضوعها الرئيسي في أعمالها، سنة 1987 ، رحلت نحو حلم حرية ألمانيا الغربية لتنتسب لأقلية جيرمانية من السوافيين . الأقلية الألمانية وصلت هنا منذ أكثر بقليل من ثلاثة قرون للعمل في الحقل خلال احتلال الإمبراطورية النمساوية- المجرية لرومانيا ، ووجد مولر وعائلته أنفسهم متروكين لحظهم المرتبط بتاريخ أوروبا الوسطي في رومانيا تشاوشيسكو . وصرح عمدة نيتشيدروف أمس خلال نزهتي معه بالقرية ، التي تقع علي بعد 30 كيلومتر من تيميسورا ، غرب رومانيا ، أنه" تبقي سبعون بيتاً ألمانياً كأطلال في هذه القرية ، لم يهتم بها المجلس المحلي. لا يمكن بيعها وليس لدينا ميزانية لترميمها . وهذا البيت بالتحديد تم تأمينه عندما انتقلت هرتا إلي ألمانيا ، وبعدها بيع لألمان آخرين قرروا الرحيل وصار الآن قسماً في مدرسة" . سائراً في شوارعها ، ومنتبهاً للحنو الطفيف في العيون الجافة ، يفكر الغريب في حكم وينديش ، أحد أبطال " الإنسان تدرج العالم الكبير" هنا كانت النهاية ، منذ قرر الهجرة يري النهاية في كل شيء . السكان القدماء قليلا ما يتكلمون عن الماضي المؤلم ، والأمر ينطبق علي التصوير . أكثر ما يصيبونه قولهم إن تشاوشسيكو باع نوبل لألمانيا بمبلغ 8.000 مارك . هي صيحة تنتشر هذه الأيام في كل رومانيا ، وإضافة غير متوقعة إلي قائمة جرائم الديكتاتور . النظام التالف للإرادة كان يبدل تأشيرات سفر المهاجرين الساكسونيين مقابل أموال ألمانية . وكانت هذه صورة أخري لطرد "الأجانب" أما السعر فيحدده تصنيف كل فرد ، حسب مصادر تقصت في أرشيفات الفترة الشيوعية . وكانت هذه حالة مولر ، وهكذا تركت نيتشيدروف حتي لا تنظر للوراء . تقول هرتا في " كل ما أملكه سأحمله معي " وهي روايتها الأخيرة ، " أريد أن أرحل من غطاء هذه القرية التي لأحجارها أعين " " لم يكن خوفي الشديد ، بل ضيق صدري الخفي ، فقط أود أن أرحل لمكان حيث لا يعرفني أحد ". وبشكل ما حققت ذلك . قليلون هنا من يتذكرونها ، أما من كان بإمكانهم التذكر فماتوا أو عادوا لألمانيا . بالاضافة لذلك ، فهي ليست قرية من القري التي يحترمها القرن الواحد والعشرون ، فهي قرية زراعية لا زالت جيادها تجر عرباتها وآبارها تحتفظ بمياه (بها عشرون بئراً ). حفنة من الناس الذين شاركوها طفولتها لا زالوا يقيمون في نيتشيدروف . تقول أوجينيا دراجان ، زميلة دراسة قديمة ، " بعد حصة الألعاب تعودنا علي مذاكرة الرومانية . وكانت هرتا تشعر أنها لا تجيدها ، فكنت أساعدها " . لا أحد كذلك يذكر زيارتها الأخيرة لقريتها سنة 2005 ، حين اقترحت عليها السلطات المحلية تبديل اسم مدرستها لتحمل اسم مولر ، فرفضت بشدة ، كانت حينها في تيميسورا لتوقع روايتها . قالت وقتها " لا أريد أن يرتبط اسمي بشيء غير الكتابة " ، طبقا لما ذكرته أنيليس إيفان ، المدرسة بمدرسة نيتشيدروف . وأخيراً صرحت مولر لجريدة رومانية أن " المخابرات الرومانية سرقت مني حياتي خلال شبابي ، ومازالت تسرقها حاليا باحتكار الوقت المفروض للكتابة ". لقد عانت التعذيب والرعب والضيق بالتحكم . وعندما هاجرت اكتشفت أن أعز صديقاتها أيام الطفولة صارت تتعاون مع المخابرات ، مثل آلاف الأطفال والمراهقين الآخرين . تقول " علي الأقل وجدت جواباً لإحدى أسئلتي المؤلمة " . وكتبت حينذاك أن جيني ، زميلة المدرسة ، كانت تشكل جزءً من الحب والخيانة المرتبطين بالجهاز السياسي ". كانت مهمتها التحقق من أنشطتها اليومية ، منذ اليقظة للمنام ، من أين وماذا تشتري . وقالت مترجمتها للرومانية ، نورا لوجا ، "الشرطة في أعمال هرتا ليست مجرد جهاز ، وإنما تلبسها كل صفات الشر البشري ، بداية من الذل والتحرش ، ونهاية بالخوف والتعذيب والموت" . والآن تأتي الأكاديمية السويدية لتقدر أعمالها ، لتصفها بالتذكار الحقيقي للإرادة الإنسانية ، وهذا يكتسب في حارات نيتشيدروف معني عظيماً . منطق يسحق التعسف الديكتاتوري . فحتي لو كانت أصول مولر مقتلعة من رومانيا ، ومن ذاتها، إلا أنها تقول "رومانيا ما بعد الشيوعية لم تخلع قناع الرعب الشيوعي . مازالت الوشاية هي الخيانة الكبرى ، ومحاولة التلصص أقسي ما فيها " .

waffen ss : قوات العاصفة النازية

الأربعاء، سبتمبر 23، 2009

الفضيحة الإسبانية/ خوان جويتيسولو


 ترجمة : أحمد عبد اللطيف

المؤسسات الاسبانية الرسمية والاكاديمية تتفادي الحديث عن المئوية الرابعة لأبشع أحداثها التاريخية : طرد مئات الآلاف من المواطنين ذوي الأصول المسلمة سنة 1609 العبودية والإبادة وخصي الذكور أو التهجير كانت الوسائل المستخدمة في معاملة الموريسكيين . شخصية ريكوتي ، كانت الصوت الذي أعطاه سربانتس لاسبانيا التي كانت تطلب حرية الضمير . تتعاقب في تاريخ كل الدول الأحداث المخجلة مع الأحداث المشرفة . ومن الأحداث المخجلة في تاريخ إسبانيا بكل وضوح تأتي المئوية الرابعة لطرد الموريسكيين في عهد الملك فليبي الثالث . وبعيدا عن هيئة التراث الاندلسي والمؤرخين ، التزمت المؤسسات الأسبانية الرسمية والأكاديمة الصمت الوقور الذي يعكس بالطبع الشعور بعدم الراحة . لا شك أن ما حدث من سنة 1609 ـ 1614 لحدث مخزي أدي إلي ما قامت به أوروبا في القرن الماضي من تصفية عرقية دموية . وكانت الاجراءات " الوقائية " التي وصفها دوق ليرما بالتعاون القطعي مع التدرج الكنسي برئاسة البطريرك ريبيرا ، تهدف إثارة جدل سياسي ـ ديني ينبغي علينا تذكره : 1499 ، تنصير المسلمين الغرناطيين بالقوة من قبل الكاردينال ثيسنيروس ؛ 1501ـ 02 ، أمر عال من نفس الرجل ليختار مسلمو مملكة قشتالة بين النفي أو التنصير : وهكذا صار المسلمون الأندلسيون ، بكل بساطة ، موريسكيين ؛ 1516 ، تم إجبار الموريسكيين علي التخلي عن طريقة ملبسهم وعاداتهم في خلال عشر سنوات ؛ 1525 ـ 26 ، تم اصدار فرمان من ملوك أراجون وبالينثيا بالتنصير ؛ 1562 ، حرمت جماعة مكونة من رجال الكنيسة والمحلفين وأعضاء بالمهنة المقدسة علي الغرناطيين استخدام اللغة العربية ؛ 1569ـ 1570 ، نشبت ثورة ألبوخاراس وحروب غرناطة ...وبناء علي النية المبيتة لسحق الموريسكيين ، استهدفت سياسة فليبي الثاني بعثرة الغرناطيين واستوطانهم في قشتالة ومورثيا واكستريمادورا ، بعيدا عن الشواطيء الجنوبية والغارات التركية المحتملة .

هناك ذبذبات كثيرة وتغيرات في الأهداف كانت تعكسها التناقضات الموجودة بين التدرج الكنسي الذي لاقي قليلا من الإحترام من قبل الأخلاق المسيحية العالمية وبين المصالح من قبل نبلاء الجزيرة الأيبيرية ، والتي من أجلها كان طرد العاملين في أراضيهم يعني تدمير الزراعة . وكما نعلم من كتب التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر ، كانت الحرب الصليبية السياسية ـ الدينية تخفي في كواليسها مناظرة خشنة . فبينما كان البعض يعارض الطرد ويدعون لمرحلة تمهيدية يتم فيها التمازج التدريجي ، كانت عناصر الأسقفية الأكثر قسوة تميل نحو المقترحات الأشد حزما : العبودية ، الإبادة الجماعية أو خصي الذكور ونفيهم إلي جزيرة لوس بكالاوس التي تسمي الآن تيرا نوفا. واعترض أحد الأساقفة المقدسين علي تهجيرهم لأقرب ضفة افريقية ، وسانده أغلب أعضاء مجلس الدولة ، مقدما حجة معصومة : بما أن الموريسكيين سيكفرون بالعقيدة المسيحية عند وصولهم للجزائر أو المغرب ، فإنه من الإحسان أن يرحلوا في مراكب مثقوبة فبذلك يغرقون وتنجو أرواحهم .
في النقاش الذي واجه لعدة عقود "الحمامات والصقور" ـ ومعذرة علي عدم تسلسل تواريخ الأحداث ـ اعتمد هؤلاء علي ريشة هواة الدعاية البلاغية مثل الراهب خايمي دي بيلدا ، جونثالث دي ثييوريجو ، الراهب ماركوس دي جوادالاخارا ، و بيدرو أثنار دي كاردونا ، وهو علي رأسهم ، من أجل إنهاء الوجود الاسلامي الذي بدأ بالغزو سنة 711، وبشكل حاسم ، واعلان اسبانيا الكاثوليكية تحت إمرة ليرما وفليبو الثالث ، بلا أي استثناءات . وبالاضافة للزعم ذات الطابع الديني ، كان هناك أيضا في أرض المبارزة الطبيعة الديموجرافية : الخطر الذي تفرضه زيادة الموريسكيين السكانية في مقابل ركود أو سقوط المسيحيين القدماء في عباءة العزوف عن الزواج ورهبنة السيدات في الأديرة ، فضلا عن الحروب في فنلندا والهجرة لأمريكا الجنوبية ، التي عاد الحديث عنها اليوم بألسنة متطرفي الهوية الأوربية ، والتي تم تلخيصها بشكل ساخر في " لغة الكلاب " .
كانت مشكلة الموريسكيين وعلاجها هدفا للعديد من الدراسات الموثقة في النصف الثاني من القرن الماضي ، والتي قام بها مؤرخون متعددون منهم أميريكو كاسترو ، دومينيجيث أورتيث ، خوليو كارو باروخا ، مرثيدس جارثيا أرينال ، بيرنارد بيثنت ، لويس كارديلا ، ماركيث بييانويبا ، والقائمة طويلة . وبفضل هؤلاء ، نعرف الانعكاسات التي قد نسميها اليوم وطنية ، لهؤلاء الذين عارضوا مرسوم الطرد منذ أربعة قرون . ولا شك أن أغلبهم كان يشكل جزءا من المسيحيين الجدد من أصول يهودية ، ولا غضاضة في قول ذلك ، وكان دفاعهم عن الموريسكيين كان من أجل مصلحتهم أيضا، حيث كانوا يناهضون القوانين المسيحية القليلة التي تتحدث عن نقاء الدم . وكان نتيجة توقف التجارة والعمل وعزة النفس أمام شرف المسيحيين القدامي الأسود ، أن تأخرت إسبانيا عن الركب ودخلت في مرحلة انحطاط وأجازات تاريخية طويلة ، امتدت طول قرنين ووصلت للبلاط الملكي ب قادش ، رغم سياسات أوليفارس والوزراء اللامعين في القرن الثامن عشر التي اتسمت بالرصانة . وجاء كتاب جونثالث دي ثييوريجو ، " عن السياسة الضرورية والترميم النافع لجمهورية اسبانيا " ، الموجه للملك ، والمتضمن نفس فكرة العنوان التجديدي ، وكتاب " تاريخ تمرد وعقاب الموريسكيين " ل لويس دي مارمول و كارابخال ، وهو الكتاب الذي يذكر بالتراجيديا الانسانية التي استطاعت اعاقة وضع القوانين ، أقول جاء هاتان الكتابان لابراز التيار الفكري الايرسموسي الذي ينتمي إليه أنصار الاعتدال في المجتمع الاسباني المغيب.
في عمل صدر قريبا وانتهيت من قراءته لنزاهة مؤلفه ، " المسلمون والموريسكيون والأتراك عند ثربانتس " ، يحلل فرانثيسكو ماركيث بييانويبا هذه الفترة بوثائق لم ينشر أغلبها من قبل لعالم الانسانيات بيدرو دي بالينثيا ، وهو تلميذ وحواري لبينيتو ارياس مونتانو ، المتخصص في الثقافة العبرية . وفي عمل آخر له ، " بحث حول الموريسكيين في اسبانيا" ، وهو كتاب ظل مجهولا حتي نشر 1979 ، ولم يصل ليدي إلا متأخراً ، يناقش الأسباب المنطقية للطرد ، من وجهة نظر الزمن الذي وقعت فيه الأحداث . فاليهود الذين تنصروا ، مثل أرياس مونتانو ، كان عدوا للطبقة الكنائسية والأيديولوجية الثالوثية ، وضد " الاهانة التي حرمت الموريسكيين من أرضهم وعدم معاملتهم بنفس بالمساواة والعدل مثل المواطنين الاخرين والطبيعيين " . وكما فعل الراهب لويس دي ليون ( وتذكروا " أجيال المواجهة لن تنتهي ابدا")، ناهض بيدرو دي بالينثيا قوانين الكاردينال سيليثيو ، ودعا لسياسة الزواج المختلط بين الموريسكيين والمسيحيين القدامي من أجل " اقناع مواطني الجمهورية أنهم جميعهم إخوة من نفس الدم والسلالة ".
إن منظر الآلاف من الرجال والنساء المعمدين و هم يفارقون أبناءهم بينما يتوسلون الرحمة من الله والملك ويطالبون برغبتهم في البقاء في وطنهم بلا فائدة ، كان شديد الصعوبة لدرجة لا تحتمل علي المسيحيين الصادقين . فتلقي بكل حزن وشفقة عدد قليل من ذوي الفكر هذه الظروف الوحشية التي فيها تم الطرد والمذابح ، وأطلقوا صيحات الكراهية والغضب ، التي حولها أشخاص مثل جاسبار دي أجيلار إلي أناشيد مآثر .
لجأ أغلب الموريسكيين إلي المغرب ، بثروات ضئيلة ، والبعض أنشأ فيها ما سمي بجمهورية ساليه ، علي الأمل الكاذب بالعودة ذات يوم إلي اسبانيا بعد استرضاء الملك .أما سكان وادي ريكوتي فقد سمحوا لهم بالهجرة الارادية من الحدود الفرنسية والتوجه لبلدان أوربية أخري خلال فترة أربعة أعوام . رغم أن فليبي الثالث قد أصدر أمراً بالتهجير الجماعي سنة 1614. إن حادثة الموريسكي ريكوتي ـ في لقائه مع ابن بلده سانتشو بانثا ـ في الجزء الثاني من الكيخوتيه ، سمح لثربانتس ، مايسترو فن الدهاء ، بأخذ صوت من كانوا ضحايا ، بصدمة همجية .
يقول الموريسكي :" خرجت من قريتي ودخلت فرنسا ، ورغم أنهم هناك رحبوا بنا ، أردت أن أري كل ما يمكن رؤيته . عبرت لايطاليا ووصلت لألمانيا وهناك بدا لي أنني أستطيع أن أعيش بحرية أكبر، لأن أهلها لا ينظرون للآخرين بكبرياء كبير : كل منا يعيش كما يريد ، ففي أغلب أرضها يعيشون بحرية ضمير ". حرية ضمير! وبدون قصد ، وضع صاحب الكيخوتيه إصبعه في الجرح . وبينما كان حراس المهنة المقدسة المستيقظين كانوا منتبهين ، مرت عليهم هذه العبارة دون أن ينتبهوا لها . ملحوظة : الموريسكيون هم المسلمون الذين اعتنقوا المسيحية في الظاهر بعد إقامة محاكم التفتيش في إسبانيا وإعلان اسبانيا دولة كاثوليكية .

الجمعة، أغسطس 28، 2009

عما هو إنساني في أدب ساراماجو

عما هو إنساني في أدب ساراماجو

في حفل تكريم ساراماجو سنة 2007 ، ألقت الكاتبة الكولومبية الشهيرة لاورا ريستريبو نصا رأينا من المفيد نقله للعربية ، يتناول تحليلا لأهم ملامح الرواية الساراماجية ، الملمح الإنساني . ولاورا ريستريبو تعد من ابرز الوجوه الحالية في الثقافة الكولومبية ، فهي صحفية و روائية كتبت أكثر من عشر روايات و نالت العديد من الجوائز داخل كولومبيا وخارجها ، ولعل أهم تلك الجوائز جائزة الفاجوارا عن روايتها " هذيان " وجائزة سور خوانا إنيس عن "صحبة حلوة " .

هذا الشيء الذي يسمي ذاتنا

ترجمة : أحمد عبد اللطيف

في بلدة " بارّانكا " البترولية الواقعة في الغابة الكولومبية ، والتي عانت ما عانته من الحرب و العزلة ، ذهبت أبحث عن بعض المعلومات حول الأحداث الواقعة فيها ، فدخلت المكتبة العامة ، وسألت عن المكتبيّ الذي أخبروني أنه رجل دقيق واسع المعرفة بما يخص تلك البلدة . وبينما كنت أحادثه ، دخل مجموعة أطفال صاخبة ، من الأولاد والبنات ، تتراوح أعمارهم بين العاشرة و الثانية عشرة ، جاءوا أيضا لغرض مماثل ، سؤال المكتبي عن النساء الشهيرات في الحياة الكولومبية ، حيث عليهم البحث في ذلك وتقديمه للمدرسة كواجب مدرسي ، وهي فكرة شبيهة لما قام به السيد جوزيه في رواية " كل الأسماء " ، عندما سجل في ورقة أكثر من مائة شخصية شهيرة ، الفرق الوحيد يكمن في ان بحث الأطفال يقتصر علي النساء دون الرجال . بدأوا في توجيه أسئلتهم للمكتبي عن الوزيرات ، ممثلات السينما ، فتيات الموضة ، وأخيرا أجابهم متصنعا أنه يسمعهم وسط ضجيجهم : إن المشهور ليس هذا الشخص الذي يلقي خطبا ، ولا هذا الذي يظهر في الصحافة و التليفزيون ، وإنما المشهور هو هذا الذي يهب الآخرين أسباب السعادة ، وبالتالي عليكم أن تنسوا الوزيرات و الممثلات و فتيات الموضة ، و عودوا إلي أحيائكم وقابلوا مدرساتكم و أمهاتكم و جداتكم وطبيبة المستوصف ، والتقوا بأختكم التي تدرس في الجامعة ، بالأخري التي تعمل لأنها لا تستطيع الدراسة ، وفي تلك النسوة ستجدون ما تبحثون عنه ، فهن جديرات بأن يكنّ شهيرات بلدنا ، لأنهن يهبننا أسباب السعادة .

بهذا المعني يعد هذا المكتبي أيضا جديرا بالشهرة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا أنه تم إغتياله بعد ذلك بقليل برصاصات المؤيدين للعسكر ، وما حدث له حدث لكثيرين من أهل البلدة . وبنفس المعني تعد مشهورة تلك المرأة التي وهبت للسيد جوزيه ، مؤلف "كل الأسماء" ، أسباب السعادة ، بل و أسباب الحياة أيضا . ويعد مشهورا ايضا جوزيه نفسه ، حوزيه ساراماجو ، الاديب و الإنسان ، فهو سيد بمعني الكلمة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا هذا التناقض الذي تحدث عنه ذات مرة قائلا " كُتّابي المفضلون سَفَلة بقدر كونهم إنسانيين " . ولعل أبرز ما نلاحظه في ساراماجو أنه يعيش ما يكتبه ويكتب ما يعيشه ، بعيدا عن هذا التناقض ، كما أنه واضح في حياته كما في كتاباته ، وهو نفسه مثل شخصيات رواياته ، يبدو كأنه أثر واضح للبشرية أمام العيون المتذبذبة الشرهة .

و لعل أهم خصائص الرواية ، الرواية الناضجة ، هو تركيز الميكروسكوب الروائي علي الكائن البشري لنتعرف من خلاله علي أنفسنا ، علي هذا الكائن ، علي معني ما نفعله ، ولماذا جئنا لهذه الأرض ، وليس من السهل معرفة ذلك ، حتي أننا ننسي هذا السؤال عدة شهور ، أو ننساه دائما ، وفي وسط هذا الشرود ، تقع في يدنا رواية تجعلنا نتبع آثارنا لنصل لذاتنا ، مثل الكلب يتبع قطعة الملابس ليصل للمجرم . هذه رائحة بشرية ، هذا ما يسوقنا إليه العمل الساراماجي ، فنسير وراءه ، نتبع خطاه ، ندخل في أزقته ، نري هالته المضيئة ، نواجه شراسته في الحق ونشعر بحجم ألمه ، بعيدا عن المجاملات و التملق وأراجوزات الكتابة ، والسير وراء المدعين . إن الشخصية التي يقدمها لنا هذا الكاتب تحمل في حامضها النووي الكائن البشري ، بصمته ، دمه ، أو كما يقول ريكاردو رييس في عام موته : " علامات إنسانيتنا " . حينئذ تؤدي كتابته للقاء هذا الرجل وهذه السيدة التي تم انقاذهما من الشرود ، أو بمعني ادق الإلتقاء مع أنفسنا ، صفحة بصفحة ، فنشعر شعورا حميميا ، مريحا ، يجعلنا نلتقي بأحزاننا ، فتهرب من مآقينا الدموع . و الحقيقة أنني كلما قرأت " إنجيل المسيح " أبكي بكاءا حارا ، ونفس الشيء يحدث مع " الكهف " وساعتها أسأل نفسي كيف تستطيع روايات هذا الرجل أن تصل لأقصي أعماق ذاتي ؟ ، فتأتيني الإجابة التي لا تتغير أبدا : لأنه رجل صادق ، يتميز نثره بالصدق وشعره بالجمال ، فيعود بنا إلي البيت ، بيت الإنسانية ، بيت الرجل و المرأة ، هذا المكان الذي تقبع فيه روحنا ، حيث يقترب كل منا من نفسه ، ويكتشف الركن الذي يناسبه في القصة ، فعودتنا للبيت تشبه عودته هو في " الذكريات الصغيرة " للبيت الجميل ، الأكثر حميمية وعمقا ، هذا البيت المدقع فقرا لجديه لأمه ، أو البيت الآخر الموجود في " حصار لشبونة " حيث يصير الحب ممكنا والسرير ينتظرنا بملاءات نظيفة . وفي البيت قد تجد أنواع الكلاب المختلفة ، فقد تجد الكلب لقيط ، أو ثابت ، أو الكلب الذئب الذي يخيف زيزيتو ، أو ربما تجد الكلب العطوف الذي ابكاني في " البصيرة " وهو كلب الدموع .

أشار ساراماجو ذات مرة ، في الإشارة إلي إيما بوفاري ، دون كيخوتيه ، جوليان سوريل ، أن هناك شخصيات أدبية أكثر حياة من شخصيات نعرفها في الواقع . والحق أنه أصاب ، فنفس الشيء يحدث مع جوزيه ، في انجيل المسيح ، هذا النجار المحمّل بالأحلام و الذنوب ، و جوزيه الآخر في كل الأسماء ، الذي عثر في الحب علي خيط ارديانا الذي وجب أن يسحبه من متاهة البيروقراطية و بئر العزلة ، والطفل جوزيه في الذكريات الصغيرة ، حيث يجلس علي ضفاف النهر ليصطاد الصور و الأصوات و الروائح و الذكريات و المشاعر ، فيظهر صدي هذا في رواياته .

إن الرواية الساراماجية تأخذنا دائما إلي ما هو إنساني ، بعيدا عن روايات البيست سيلر وسوق التسلية التي ظهرت وازدهرت في ظل الديمقراطية اللايت ، تلك الديمقراطية المعكوسة في " البصيرة " . ووسط هذا التردي يأخذنا ساراماجو لأدب عظيم ، أدب يتميز بالكرامة ، فلو نظرنا لمجمل شخصياته سنجدهم كالقبيلة الواحدة التي يشترك أفرادها في صفة الكرامة . فسلوكهم بدءا من الافعال التقليدية ، " يتبول ، يأكل ، يشرب ، يعمل ، يستريح " تكتسب كرامة وعظمة لأنه يعيد خلقها ، هذا الخلق الذي يسمح له أن يجمع اجزاءهم المتناثرة . أما رؤيته هو لهذه الشخصيات فهي بعيدة كل البعد عن الرؤية الجزئية ، فتتميز بالشمولية ، كما لو كان عندما يكتب عنها لديه عقيدة راسخة أن كل شخصية تمثل في الواقع قصة الإنسانية جمعاء ، رجلا كان أم إمرأة . أما قصص الحب عنده فهي قصة الناس أجمعين ، قصص خالدة خلود روميو وجوليت ، فمن ينسي دومينجو وسارة في " ثورة الأرض " ، أو جيرونيمو و جوزيفا في " الذكريات الصغيرة " .

وبرغم أن بطله رجل ، إلا أن صورة المرأة في عمله صورة مضيئة ، فهي دائما الحكيمة ، الكريمة ، المتفتحة ، الواقعية . كما أنه لا يبذل جهدا ليجدها ، فهي تقفز دائما في رأسه ، " عندما أبدأ في كتابة رواية ، لا أقول لنفسي إنني يجب أن أخلق امرأة بارعة ، فهي تظهر وحدها من الأحداث التي أرويها " . وعلي كثرة النسوة في أعماله ، تعد أعظمهن ماريا في " إنجيل المسيح " ، تلك الأم التي يجب عليها أن تحتمل في صمت الحب و الألم الذي تشعره نحو وليدها ، إنها إمرأة صغيرة تنضج فوق نيران الواقع ، تودع إبنها بلا إبتسامة وبلا وعد بالعودة ، . " لم تصلني اخبارك ـ قالت ماريا أخيرا وحينها هربت من عينيها الدموع ، كان ابنها البكري يجلس أمامها ، فتي طويل القامة ، بملامح وجه إكتملت رجولته ولحية نابتة ، وبجلد أسمر كما لو قضي حياته تحت الشمس ، بوجهه للريح و لرمل الصحراء ـ " .

إن هذه المرأة التي تحمل إبنها ميتا بين ذراعيها لشديدة الشبه ببلدي ، بقارتي ، بهذا العالم الثالث الذي أنتمي إليه ، بأفريقيا كاملة ، وصولا للعراق و فلسطين و لبنان ، فكلهن أمهات تهبن أولادهن الحياة ليأتي الموت ليقصف أعمارهم . أمهات يدفنّ أبناءهن بدلا من حدوث العكس . إن الموت عجوز فوق سريرك صار حلما صعب المنال .

ساراماجو أيضا كاتب كلاسيكي عندما يخلق رجلا يسيطر علي إرادته الخاصة وعلي ضميره ويمتلك بين يديه زمام أمره ، إنه الرجل الذي يعارض الظلم و يحرك إرادة المقاومة و التغيير ، برغم أنه لا يحقق ذلك دائما . وبينما يقع الرجل دائما تحت التهديد ، يهاجم ساراماجو بشراسة ما يلغيه ، ما يؤذيه ، ما يستعبده ، وهو في ذلك كاتب شجاع ، في الحياة و العمل ، يضطرنا أن نظل بعينين مفتوحتين أمام ضغائن السلطة ، التي قال عنها إنها فاسدة ، وإن السلطة المطلقة لفساد مطلق ، لكنني أضيف أن السلطة لا تحتاج أن تكون مطلقة لتصير فسادا مطلقا . ولعل لهذا السبب نجد فكرة الحصار بارزة في أعماله ، ففي "العمي" نجد العميان محاصرين كما لو كانوا يعانون من مرض معد ، وفي " حصار لشبونة " يموت المسلمون محاصرين ، وفي " البصيرة " تحاصر العاصمة لأنهم أدلوا بأصوات بيضاء ، وفي " ثورة الارض " يحاصر الفلاحون بالفقر من قبل الإقطاعيين ، وفي " الكهف " يجد الفخاري نفسه محاصرا من المركز التجاري . وهكذا نجد الذين يفرضون الحصار ويشدون أحباله في صورة كائنات قبيحة ، غير إنسانية ، فهم يحيكون الكوابيس ويخلقون المتاهات .

وأخيرا ، قد نجد عنصرا بين العمل الكافكاوي و الساراماجي ، هو التشاؤم . والحقيقة أنه ليس تشاؤما ، إنما الواقع المحزن الذي يغزونا فينطبع في صفحاتهم ، صفحة وراء أخري ، لكن الحق أن هناك فرقا شاسعا بين كافكا و ساراماجو ، فالأول يخلق شخصيات تختنق وحدها وتكافح وحدها ضد ما يخنقها ، بينما نجد في شخصيات الثاني روح التضامن و التعاون من أجل المقاومة . هل هو المعتقد السياسي ؟ ، نعم بالطبع ، إنه المعتقد السياسي المطبوع في كل أعماله .كما أن شخصيات ساراماجو تبذل ما في وسعها للحفاظ علي نفسها مخلصة لمبادئها ، وهو ما يجبرها علي التحرك ومكافحة عالم كابوسي ، فيعطيها ذلك طابع المغامرة . بينما لا نجد ذلك عند كافكا ولا تيار ما بعد الحداثة .

السبت، أغسطس 22، 2009

حوار مع ساراماجو

سارماجو : مازلت صبيا أتعلم . ترجمة أحمد عبد اللطيف يقولون عنه إنه أكثر من كاتب ، لكنه يقول عن نفسه إنه مازال صبياً يتعلم المهنة ، وهي الجملة التي رددها من قبل عند تسلمه لجائزة نوبل منذ احد عشر عاماً ، ليكون بذلك أول برتغالي يحصل عليها . إنه ساراماجو ، أو زي ، كما كان جده يناديه ، الذي قال عنه هارولد بلووم ، أكثر النقاد صرامة ، إنه " أستاذ ، الأستاذ " ، ووصفه بأنه " أكثر كتاب العالم موهبة وأحد آخر الكتاب العظام " . وكرجل موهوب كتب روايته الأخيرة " رحلة الفيل " وهو علي فراش الموت ، وحقق بها إنتصارا للغة والخيال والفكاهة ، المرتبطة بالموت .
في أحد أيام الكريسماس الماضي ، ركز ساراماجو في عينيه ، ففوجيء باتساعهما الغريب ، حتي أنهما أكلتا وجهه . كانتا تنظران إليه باستغراب ، بفضول ، بدهشة ، وتقولان له : أمازلت هنا ، أمازلت هنا .
هذا ليس حدثاً في رواية القرين ( التي ترجمت للعربية بعنوان الآخر مثلي ) ، وإنما هي فترة كان فيها ساراماجو قرينا لنفسه ، شاهدا علي صراعه ليعود للحياة ، وكان قرينه رجلاً ناعماً ، فصحح له هلاوسه : لا ، ليس لك عينان جاحظتان، بل هما في حجمهما الطبيعي ، ما تغير هو المحيط بهما . وكان القرين يعرفهما جيدا ، لذلك قال : إنهما نجمتان مضيئتان في وسط الخراب . إنه تعبير شاعري لساراماجو ، هذا الرجل الذي أنعش السرد العالمي الجديد ، وليس فقط السرد البرتغالي ، عندما نشر روايته " العمي " عام 1995 ، لكن ثورته الحقيقية بدأت قبل ذلك بكثير ، عام 1980 ، برواية " ثورة الأرض " ( التي ستصدر قريبا بالعربية ) .
لقد فقدت عشرين كيلو يا زي ، لقد كنت دوما نحيفا مثل جدك جيرونيمو ، لكن عشرين كيلو كثير . كان طولك 180 سنتيمتر ، ووزنك 71 كيلو ، الآن صار وزنك 51 كيلو فقط ، أمازلت تعتقد بالتفاح المشوي ، الذي كانت جدتك تصنعه لك! القرين كان يعلم كل شيئ ، كان يعلم أن جيرونيمو ، الذي عاش في ازينياجا ، كان يودع الحياة عندما خرج لمعانقة أشجاره بالحديقة ، جيرونيمو ، الذي علّم حفيده حكاية القصص عندما كان ينام بجواره تحت شجرة التين ، دخل التاريخ من أوسع أبوابه عندما حفر الحفيد اسمه عند تسلمه لجائزة نوبل :" أكثر الرجال الذين عرفتهم في حياتي حكمة كان رجلا لا يعرف القراءة والكتابة " ، نعم ، كان القرين يعرف كل شيئ ، حتي ما قالته جوزيفا يوم وفاة جده كان القرين مطلعا عليه :" لا أخاف من الموت ، لكن الدنيا جميلة ، والموت يبث في الحسرة " .
يعيش ساراماجو في السنوات الأخيرة حالة صحية متردية ، حيث سقط فريسة للمرض ، إلا أن التفاح المشوي يقويه ، لذا لم يتوقف عن الكتابة ومازال مستمراً بشكل بطولي ، كما لم يتوقف عن السفر في أنحاء العالم ، ليعلن ادانته للعولمة " التي هي شمولية جديدة " وربما يستخدم عبارة كارل ماركس في العائلة المقدسة " إذا كانت الظروف تشكل الانسان ، فمن الضروري أن نشكل الظروف بشكل انساني " ، إنها هلاوس ساراماجو ، كما يقول بعض الوقحاء .
في سنة 2005 نشر ساراماجو رواية " تقطعات الموت " ، لم تكن تجريدا ، فالموت كان حاضرا بجسده ، ويمكن ملامسته . يقول ساراماجو " المؤلف هو خالق شخصياته ، وفي الوقت نفسه احدي مخلوقاتها " . وشخصية الموت تحولت من شيئ غير مرئي لشيئ مرئي ، ولم تكن لعبة ، يتذكر ساراماجو ، فقد كان قاب قوسين من الموت ، ولم يكن يربطه بالحياة سوي خيط هزيل ، حيث كان جسده مستسلما . " أعتقد أنهم لم يودوا أن تكون نهايتي في المستشفي ، وأنا أشكر لهم ذلك ، لكن الموت لم يداهمني ، وكنت مدركا لما يدور حولي ، وأشعر انني علي حافة الانتقال للعالم الآخر ، وبعد ذلك قلت لهم لا تحدثوني عن الموت ، فأنا أدري به منكم ، فلقد رأيته رؤي العين " . ورغم استسلام الجسد ، كان قلبه ينبض بقوة ، وعقله يخزن ما يحدث حوله . ورغم أن ساراماجو يُعرف بأنه الرجل الصامت ، إلا أن أعماله تغلب عليها روح الفكاهة ؟
ـ جاءت الفكاهة متأخرة ، فما كتبته وأنا في الثالثة والعشرين لا فكاهة فيه ، وأعتقد ان أساس الفكاهة يكمن في معرفة الذات ومعرفة الآخرين ، كما أن الفكاهة ابداع مجهد .
ـ بعد أن نشرت " ثورة الأرض " قلت " أنا لا أكتب من أجل شرح وجهة نظري ، بل لأنني أكتب كما أتنفس ، كما أتحدث " . ربما ساعدتك الكتابة علي اجتياز الأزمة .
ـ بالطبع . فالكتابة عكازي الذي استند عليه لانتقل من حالة لحالة ، نعم لم أكن أتحرك من سريري ، لكنني كنت أشعر بنفسي محمولا بين كفي الكتابة . كان عقلي مدركا لطبيعة حالتي ، وكان لديه المقدرة لقبوله ، والتعامل كما لو لم يحدث شيئ . وشعرت في هذه اللحظات بكم هائل من الصفاء ناتج عن قربي من الموت .
ـ في هذه الرحلة يفكر الانسان في حياته ، ويعيد حساباته ، لهذا قال بورخس :" لقد ارتكبت أفظع كبيرة في حياتي ... أنني لم أحيا سعيداً "
ـ هذه عملية عقلية تبتدع بعد ذلك ، ولم يحدث ذلك معي . لقد عدت للحياة بشكل طبيعي وبصفاء تام حدثتك عنه .
ـ يقولون إن ساراماجو لم يبع نفسه ابدا . ألا تشعر أنك قد تنازلت ذات مرة من أجل الحصول علي شيئ ، كجائزة مثلا ؟ ـ أبدا ، لم ابع نفسي أبدا ، لا ماديا ولا رمزيا . أما نوبل فهي تأتي علي شيئ تم عمله بدون الالتفات لنتيجته .
ـ وماذا عن الكراهية بين الكتاب ، خاصة عندما يكونون جيرانا ، وفي هذا السياق يقول جين شابلين " الكاتب لا يقرأ لزملائه ، بل يراقبهم " .
ـ لا أجد تفسيرا لهذه المسألة . لا أعرف . فعندما ظهرت كان كل شيئ في مكانه ، الشهرة ، الحب ، الكره ، ولم أكن قريبا من الأوساط الثقافية .
ـ في رواياتك هناك شخصيات لا يمكن نسيانها ، لأنهم مدهشون ، وينتمون لما يسمي الواقع الذكي . لا تقل لي انك لم تعشق بليموندا في رواية " مذكرة الدير " .
ـ بليموندا ... قد تكون تجسيدا لنساء كثيرات عرفتهن في حياتي ، انها امرأة بسيطة . لكنني عشقت حقا زوجة الطبيب ، في " العمي " و " البصيرة " . هذه حقيقة .
ـ يبدو من أعمالك أنك صديق للنساء أكثر من الرجال ؟
ـ هذه حقيقة أخري .

الخميس، أغسطس 13، 2009

قصة : صورة رجل فارس

فرانثيسكو أيالا

ترجمة/ احمد عبد اللطيف

لستُ أدري كيف وصل بنا الحديث في هذا اليوم إلي تناول سيرة أجدادنا . كان أصدقائي يتحدثون عن عظمة وأمجاد وبطولات آبائهم السالفين ، يتحدثون بغطرسة إستعراضية مليئة بالمبالغة ، لكنهم لم يتفوهوا بأكاذيب خيالية . وكنت أنصت إليهم ملتزماً الصمت ، رغم أنه ليس لديّ ما أخجل منه ، لكنني دوماً أشعر بحياء يمنعني من الحديث عن نفسي أو عائلتي ، بل وحتي عن كل ما يمت لي بصلة حميمة. كنت أستمع صامتاً ، حتي سألني صديق لي ، وماذا عن جدك؟ ماذا كان يعمل ؟ فأجبته بأنه " كان فارساً". حينئذ نظر إليّ الجميع باندهاش وأجروا جميعا وبالتناوب ذكر الألقاب التي حصل عليها أجدادهم، والوظائف البارزة التي شغلوها في زمنهم . حكي أحدهم أن جده كان نائبا في مجلس بلدية أنتيكيرا ، وحكي الآخر أن جده كان رئيساً للمحكمة الإقليمية بقرطبة . وكان جد ثالثهم وصيفاً في البلاط الملكي . وهكذا أجداد بقية الأصدقاء قد شغلوا وظائف شبيهة . هل كانت تراودني فكرة أن أقول لهم إن جدي كان فارساً من فرسان المائدة المستديرة ؟ ابتسمتُ بوجه بشوش أمام هذه الأضحوكة ، وقلت " لا شيئ من هذا " . أم أنه كان واحداً من هؤلاء الفرسان الأثرياء الذين يعيشون من أملاكهم بلا عمل ؟ لا شيئ من هذا ، حقا كان جدي يعيش في الفترة التي كان فيها يُكتب علي مظاريف الخطابات "مالك أراضي" بلا كتابة لاسم ما، لكنه لم ينتسب لهذه الطبقة الثرية الفارغة. كان جدي رجلاً وقوراً ، له طريقه في الحياة ، كما أنه كان عصامياً وليس أرستقراطياً . كان نبيلاً ولكن بشكل آخر . كان طبيباً وأستاذاً بالجامعة ، واستطاع أن يحقق مكانته الاجتماعية بمجهوده الشخصي ، لكنه فوق كل ذلك كان فارساً . أنا لم أتعرف عليه في حياته ، لم تتح لي الفرصة لذلك ، لأنه قد مات قبل مولدي بعام واحد ، لكنه ترك في عائلتي هالة من الإحترام له والإعجاب به والتكريم لذكراه . هذه الأشياء تسمح لي الآن أن أتذكره ، كما لو أنني قد تعرفت عليه في حياته وعاشرته أمداً طويلاً ، والفضل في ذلك يرجع لأمي لأنها الباعثة لهذا الإحترام ، فقد ملأت طفولتي وغذتها بالحكايا الكثيرة عنه .

حكت لي ذات مرة ، وكنت صغيراً آنذاك لكنني كنت مدركاً ، قصة مرتبطة بسيدة كنا نعرفها ونتبادل معها الزيارات (وكانت الزيارات بين المعارف في تلك الفترة تمثل طقساً إجتماعياً هاماً بكل معاني الكلمة ، حيث علي الجميع أن يلتزم بمواعيد الزيارة وإيقاعها وقواعدها ووقارها ) .

السيدة التي أتحدث عنها كانت صديقة لأمي ، ولم تكن زياراتنا لها واجباً اجتماعياً فحسب ، بل أكثر من ذلك بكثير ، فهي سيدة عانس ، ظهرت عليها علامات الشيخوخة ( أو هكذا كان يبدو لي من منظوري كطفل)، وكانت ثاقبة الذهن متقدة الذكاء ، سعيدة ومبتسمة دوماً وحنوناً مع الأطفال . ولعل أهم ما كان يميزها ذاكرتها التي تشبه جوهرة منقوشاً عليها رسومات واضحة ، كتلك التي اعتادت أمي أن تعلقها فوق فستانها الساتان الرمادي ذي الخرز الكهرماني الأسود . خرز أسود لامع يشبه عينيها الدقيقتين . والصداقة بينها وبين عائلتي كانت قد بدأت منذ زمن بعيد .

الحكاية التي روتها لي أمي ذات يوم عن هذه السيدة ، وروتها بكل ثقة فيّ لعلمها أنني سأحفظ سرها ، كانت كما يلي :ـ

منذ زمن بعيد ، عندما كانت هذه السيدة في الثامنة عشرة ، استدعي أهلها جدي ، وكان طبيباً وصديقاً للعائلة ، ليستشيروه في وعكتها الصحية التي بدأت منذ وقت قريب ، حيث بدأت الصبية تعاني من التقيؤ والدوار والعصبية الشديدة . ذهب جدي حينئذ إليها وأجري كشفه ولخص تشخيصه في عبارة واحدة " إذا كانت متزوجة فهي أعراض حمل ، وإن لم تكن كذلك فأنا لا أعرف سبباً لما تعانيه " . كان جدي فارساً قادراً علي تغليف العبارات الثقيلة التي تتطلبها طبيعة عمله بألفاظ محترمة ومقنعة . عندما حكت لي أمي هذه القصة كانت تنظر لصورة جدي المعلقة في مكان بارز من الصالة . كانت الصورة كبيرة الحجم كتمثال نصفي في حجم طبيعي ، مأخوذة من آخر صورة له قبل موته ، وكنا نحتفظ منها بصور صغيرة ، لكن ، وبرغم البرواز العريض المصنوع من الأبنوس المحيط بها ، وبرغم أننا علقنا الصورة بعد وفاته ، إلا أنها لا تعطينا إنطباعا بأنها صورة لميت عندما نتأملها بدقة؛ فهي ليست كصورة تافيرا ، هذا الطائر الأمريكي الذي رسمه جريكو علي أنه أثر جنزي (وهو طائر لا أعرف عنه أي خبر حتي الآن) ، بل علي العكس من ذلك ، كانت صورة جدي تعطينا شعورا بالجدية والحيوية والعمق .

كانت أمي تنظر إليها ، فكنت أري في عينيها الزرقاوين شيئاً كأنه الموافقة علي موته ، موافقة حزينة ، نعم ، ومليئة بالألم الراسخ في أعمق قلبها . أثناء ذلك ، كنت أشعر بداخلي بإحساس بخيبة الأمل لأنني لم أتعرف عليه في حياته ، وأظن أن ما يجب علي الآن هو أن أعشق صورة قديمة ذهب صاحبها للعالم الآخر . التزمنا الصمت برهة ، بعدها سألت أمي عن نهاية القصة التي بدأتها عن هذه الفتاة ، ماذا حدث لها؟ كيف انتهي أمرها؟ أجابتني أمي بأن عائلة الفتاة عجزت عن معرفة مرتكب الجريمة هذه ، ذلك لأن الفتاة لم تعترف بشيئ رغم أن عائلتها استخدمت معها كل الأساليب الممكنة من توسلات ودموع ، وتهديدات وعقاب . ربما كان من المستحيل لصاحب هذه الجريمة أن يصحح خطأه عن طريق الزواج ، فربما كان متزوجاً ، أو راهباً ، أو رجلاً مجهولاً أو وضيعاً ، فيتسب زواجها منه في عار أكبر من العار الذي لحق بها .

قاومت الفتاة كل الضغوط التي فرضوها عليها بكل ما أوتيت من قوة ، وأخيراً وضعت وليدها لكنه جاء ميتاً . إنها فتاة باسلة وتعيسة ، لذا فمن الصعب مقارنتها بهذه السيدة العجوز المرحة ، حاضرة النكتة ، التي تزورنا وأعرفها منذ زمن بعيد . فلنعد مرة أخري إلي جدي ، فالصورة التي رسمت في أذهاننا عنه أنه ليس فقط الرجل المعصوم من الخطأ ، بل هي صورة فارس مليئ بالمزايا ، فارس بكل معاني الكلمة ، فهو الإنسان الجاد ، المخلص، البشوش ، المتفاني من أجل الآخرين ، وبالإضافة لذلك ، فهو رجل فيلسوف . لقد واجه هذا الرجل في حياته الكثير من المحن المؤلمة ، بلا شكوي ، وعاني منها في صمت ، وعليّ أن أحترم صمته وخصوصياته ، خاصة أنه كان متحفظاً ، لكنني أستطيع أن أخمّن بعضاً من همومه بأن أجمع التفاصيل المبعثرة من حكايات أمي ، بجانب بعض التخمين المبني علي الفضول وبعض الملامح المستنبطة من مجموعة صوره الفوتوجرافية الموجودة بألبوماته . يُخيل إليّ أنه كان ذا طابع منفرد ، وأنه كان يحيا داخل مسئوليته المقدسة . علينا أن نعترف أن هناك نوعاً من الهموم يجعل حياتنا كئيبة ويغلفها بالمرارة ، لكنها مع مرور الوقت تتحول لذكريات جميلة لو تعاملنا معها من منظور كوميدي . سأقتطف بعضاً من المواقف التي واجهها جدي مع زوج ابنته الكبيرة ، وهو رجل خيالي وعاشق للمسرح ومن أشد مناصري جوانيير ، ومن ألد أعداء روسيني وفيردي . عقد هذا الرجل الكثير من الصفقات الوهمية التي لم تأت سوي بالخسارة والديون، التي كان علي جدي أن يسددها دون أن ينبس بكلمة . كان هذا الرجل المتبجح ، المتظاهر بالأبهة ، بطلاً لحدث لا يمكن نسيانه ، فقد رأي ذات يوم أثناء تناول الغداء ، فأراً يسير بين قدميه ، فقفز فوق المائدة وأطلق صرخات مليئة بالرعب أمام اندهاش الحضور ، وكان يردد هذه العبارات " لا ، يا إلهي ، لا استطيع أن أحتمل كل هذا ، أنا لا أقاوم الفئران ، هذا فوق طاقتي ، احبسوني لو أردتم مع أسد ، نعم أسد ، لكن الفئران لا أحتملها ، لا أستطيع ..." ، ومنذ ذلك الحين استغل أخوالي، إخوة زوجته ، هذه الفرصة لينتقموا منه بسبب حماقاته المتكررة ، وأصبح ضحية لسخريتهم المستمرة لعدة أشهر . فمن حين لآخر ، وأثناء تناولهم الغداء ، يعيدون ذكر هذا الحدث المضحك حتي وضع جدي نهاية لهذه الدراما بأن وبخ أولاده بألفاظ رقيقة أمام زوج ابنته المهزوم ، وأوضح لهم أن له مستقبلاً بارعاً في ترويض الأسود في السيرك الأمريكي الكبير ، الذي سيزوره عما قريب . كان جدي يقول ذلك بكل جدية ، لذلك لم يتجرأ أحد علي أن يبتسم ، لكن ابنته الكبيرة ، زوجة هذا الدُن كيشوت المتصنع ، قطبت جبينها ، ناظرة في طبقها . امرأة مسكينة تلك المرأة التي فرضت عليها الحياة أن تعايش رجلا يشبه زوجها . لكنها كتوم لسر بيتها . كانت هذه السيدة ، كما ذكرت ، الإبنة الكبيرة لجدي ، بينما كانت أمي هي آخر ثمرة في عنقود طويل متعدد الثمار ، لذا كان يوجه عنايته وحمايته وشفقته بكل رقة لهذه الطفلة الصغيرة ، حتي أصبح مفهوماً للجميع أنه نوع من التفضيل . وانضمت هذه الطفلة إلي حفيدات أبيها اللاتي كن يلعبن في حديقة المنزل عند مولدها . مما لا شك فيه أن الأب كان يفكر في هذه الطفلة عندما ينظر إليها ويجدها بين حفيداته ، فيدور في خاطره أن قانون الحياة سيجعلها يتيمة خلال وقت قريب ، ولأنها لا زالت صغيرة كانت لا تحمل للحياة هماً ولم تواجه محناً ، بينما كان أشقاؤها يواجهون ما يواجهونه من مصاعب الحياة وبلاويها . كان الأب يركن إليها فيتحدث معها في أوقات فراغها ، ويحكي لها ما يتعلق بيومه . كان يكلمها هي فقط ، ويقدم لها ما استنبطه وتفكر فيه ويعلّمها بشكل غير مباشر كيفية التفكير الفلسفي . هكذا تربت أمي و سمت روحها ، ولحسن حظي وصلني جزء كبير من هذه التربية لأنه قد تكرر معي ما حدث معها . فأنا ابنها الوحيد ، لذا كانت تثق في وتعتقد أنني سأفهمها أكثر من الآخرين ، فكانت تروي لي تأملاتها وتبدي لي آراءها ، وتناقشني في كل ما يشغلها في الحياة ، كما تحكي لي أحزانها التي تجلبها لها تلك الحياة. حقاً كنت أنا حافظ سرها وموضع ثقتها ، وهذا يرضيني بشكل كبير.

تعرفت من شفتيّ أمي علي صفات جدي الشخصية . حكت لي من ضمن أشياء أخري أنه عندما ساد وباء الكوليرا وعم المدينة بأسرها وقضي علي حياة الناس موتاً ورعباً ، وجعلهم يبتعدون عن أقاربهم المصابين به ، كان جدي يزداد اقتراباً من الناس ليؤدي واجبه المهني ، وأنه تميز حتي أصرت الحكومة علي أن تكافأه بمنحه لقب نبيل . لكن جدي رفض لأنه يتعارض مع مبادئه الديمقراطية ، فهو رجل نبيل بطبعه . فهذا الفارس ، صاحب هذه الصورة ، لا يحتاج لشهادة مكتوبة لتدل علي نبله . أغمض عينيّ لتتحرك في مخيلتي صورته عندما كان يتنزه في حديقة منزلنا بصحبة شابة صغيرة ، هي أمي ، أتخيله رجلاً طويلاً ، نحيفاً ، بلغ من الكبر عتيا ( لقد ازداد نحافة في سنواته الأخيرة ) أتخيله بشاربه الأبيض الطويل المتساقط علي فمه ( ففي صورة سابقة كان قصير اللحية ، وكان يطلق علي شاربه اسم فابوريس) أتخيله بعينيه العميقتين الكامن فيهما حزن السنين . بعد أن تقدم العمر بجدي أحيل إلي المعاش وترك الجامعة وودع حياته العملية ، لكنهم كانوا يطلبونه لمساعدتهم في الأوقات العصيبة . ومن هذه الأوقات عندما عاد الوباء من جديد . لم يكن شنيعاً كالمرة السابقة ، لكنه كان خطيراً . لا أعرف تفاصيل هذا الوباء ، فثقافتي الطبية محدودة وكل معلوماتي عنه أنه وباء يهاجم الرئتين . علي أي حال ، كان جدي يستنفد كل طاقاته كلما طلبوه ليعتني بالمرضي . وذات صباح ، عاد جدي ليستريح علي أريكته ويتناول كأساً من النبيذ اعتادت أن تقدمه إليه أمي ، فسألته إن كان سيصطحبها كالعاة في عيد الربيع أم لا . كان الربيع قد أطل ومازال الوباء موجوداً ، لكن السلطات المحلية أمرت ألا يتوقف عرض العربات وألا يلغي الاحتفال ، وليتم ككل عام في مدينتنا وفي نفس التاريخ بلا تأجيل . " ربما فعلوا ذلك لكيلا يشعر الناس بالقلق الشديد ". حفل الربيع حفل كبير ، يعشقه كل الشباب وخاصة الصبايا ، لأن قلوبهن مفتوحة لكل ما يبعث فيهن السرور والبهجة والحرية . ربما كانت أمي تنتظر هذا الحفل لتضيئه بجمالها الرقيق ولتتلاقي مع من سيكون زوجها في المستقبل . روت لي أمي ، وهي حزينة حزناً يطفح منها ، كأنه جرح يُفتح من جديد كلما تذكرته ، أن جدي ، بعد أن صمت لحظة ، أجابها ب "لا" ، لأنه مشغول ومرهق ، كما أن جو هذا العام لا يسمح بالتنزه . ولأنني أعرف جيدا حمية الشباب ورغباتهم الشديدة ، أتخيل مضمون ما حملته عيناها الزرقاوان من خيبة أمل لم تعبر عنها كلماتها بدقة . لكن ما حدث في صباح اليوم التالي كان مفاجأة لم تكن تتوقعها . فأثناء تناولهما الإفطار ، أحاط ابنته بنظرة حادة ومؤثرة وحزينة ، وقال لها وهو يصب القهوة في فنجانه الفضي ( وكان يلاحظ باهتمام هذا السائل الغامق الذي ملأ به فنجانه ) إنه فكر جيداً في الأمر ، وإنه موافق علي أن يصحبها إلي حفل الربيع ، و سيعطي أوامره ليجهزوا الخيل في الساعة الخامسة لتذهب بها إلي العرض . وعليها هي أن تعد سلة الزهور كذخيرة لها لتشترك بها في الحفل ولتفوز بالطبع في معركة لا سفك فيها للدماء . قفزت أمي من مقعدها بكل سعادة عندما سمعت ذلك ، وتوجهت إلي جدي لتقبله في جبهته ، وشكرته بكل كلمات الشكر " أنت طيب جدا يا أبي ، تضحي من أجل سعادتي " . " قد يكون هذا العام هو الأخير الذي أصطحبك فيه لحفل الربيع يا ابنتي " همس لها بذلك . اكتسي وجهها بالحزن عندما سمعت العبارة الأخيرة ، " يا أبي ، لا تقل ذلك بالله عليك" . والتزمت الصمت وشعرت بالخوف ، ورغم أنها عجزت أمام خوفها ، إلا أنها قضت وقتاً سعيداً أثناء العرض ، وشعرت بالتسلية واستمتعت بالحفل في بعض اللحظات . ومن آن لآخر ، كانت تلقي نظرة خاطفة علي أبيها الكهل الذي جلس بجانبها ، فيبادلها النظر ويبتسم لها ابتسامة تبعث علي الطمأنينة . وبالفعل ، كان هذا العام عامه الأخير الذي اصطحب فيه ابنته لحفل الربيع والعرض التقليدي للعربات . في اليوم التالي سقط مريضاً ، ولم يطل مرضه فوافته المنية . ويوم الحفل ، عندما استيقظ من نومه كان يسعل ، واكتشف عندما بصق أنه قد أصيب بالوباء الذي دمر كثيرا من السكان . كان جدي يعلم جيداً انه سيذهب للعالم الآخر بعد أيام قليلة بسبب تقدمه في السن ، وقوة المرض . لذا لم يشأ أن يحرم ابنته الحبيبة من رغبتها البريئة .

آه ، عندما تكون المشاعر عميقة وصادقة وتصدر منها أفعال مليئة بالطيبة والتضحية ، يكون الألم أكبر بكثير من هذا الألم الذي ينتابنا عندما نواجه مشاعر باردة ولا مبالاة .

مازالت الدموع تسكن عيني أمي كلما حكت لي ذلك .

الأربعاء، يوليو 22، 2009

الجمعة، يوليو 03، 2009

ملكان ومتاهة / بورخس

خورخي لويس بورخس
يروي أهل الثقة ، والله أعلم ، أنه في أيام الدنيا الأولي كان هناك ملك لجزيرة بابل ، وأنه قام بجمع مهندسيه وسحرته وأمرهم بتشييد متاهة محيّرة وذكية ، تجعل أكثر الرجال فطنة يخشي دخولها ، وتجعل من يتجرأ علي ذلك أن يتوه في جوانبها . يروي أن هذه البناية كانت رائعة حقاً ، وأنها جمعت ما بين المتاهة والعجيبة ، وهي أشياء خاصة بالخالق لا بالمخلوق . وأنه بعد فترة من الزمن جاء أحد الملوك العرب في زيارة لملك بابل في قصره ، فاصطحبه الملك البابلي إلي هذه المتاهة وأولجه فيها وتركه بقصد المداعبة الظريفة ، فتجول الملك العربي بداخلها حتي تاه ، إلي حين مالت الشمس، وظل علي حاله هكذا متضرعاً إلي الله ومستغيثاً به ، ودافعاً الأبواب بلا جدوي ، إلا أنه لم يتفوه بعبارة إعتراض أو شكوي . حين أخرجوه ، أخبر الملك العربي نده البابلي أن لديه في السعودية متاهة أعجب من متاهته ، وأنه إن شاء الله سيريه إياها . عاد العربي إلي بلده ، فجمع رجاله ومرؤوسيه وغار علي المملكة البابلية فدمرها ، واستولي علي ثروات ملكها ، وحطم قلاعه ، وقضي علي رجاله ، بل وأسر هذا الملك نفسه وحمله فوق جمل وربطه وسار به إلي الصحراء ، وظلا في طريقهما طيلة ثلاثة أيام . بعدها قال له :
- يا ملك عصرك ، وفطين زمانك ، وداهية جيلك ، جئتك بابل فأدخلتني متاهة من البرونز ، ذات سلالم عديدة ، وأبواب كثيرة ، وحوائط لا عدد لها . الآن سأوريك متاهة أخري ، خلقها القدير المقتدر . متاهة أعظم من متاهتك ، بلا سلالم صاعدة ، ولا أبواب مغلقة ، ولا دهاليز منهكة ، ولا حوائط تعوق سيرك .
و همّ بفك أربطته وتركه وسط الصحراء .
فمات الرجل جوعاً وعطشاً .
العظمة لله الذي لا يموت .
ت / أحمد عبد اللطيف

الجمعة، يونيو 26، 2009

حوار مع يوسا

ماريو بارجاس يوسا : الآخر الذي لا نعرفه.
" دائما ما نستكين أمام المرأة " ترجمة : أحمد عبداللطيف
يوسا ، اكبر كُتّاب بيرو ، وأحد أهم كُتّاب أمريكا اللاتينية ، وكُتّاب العالم علي الإطلاق . هو المرشح الدائم لجائزة نوبل ، والصديق اللدود لماركيز . أهم أعمال " شيطنات الطفلة الخبيثة " " حفلة التيس " " حوار في الكاتدرائية " الخ . هذه المقابلة التي تمت منذ اكثر من عشرين عاما ، تبين مدي الفكاهة التي يتمتع بها يوسا وتكشف لنا حقيقة النوع الذي يثير خياله : الانثي . بالإضافة لحديثه عن اريكيتيبا ، مسقط رأسه ، وعن زوجته و اولاده و عن اللكمة الشهيرة التي سددها لجارثيا ماركيز. س: اي بيرواني يقرأ اي عمل لك سريعا ما يدرك اهميتك ، و حول الشخصيات المهمة تثار الاقاويل، فهم يقولون عنك مثلا انك في شبابك عندما كنت تعيش في باريس كنت تعمل كالنملة وكنت ترتدي البدلة والكرافت ، علي عكس الشباب البيرواني الذي كان يتمتع بحياة بوهيمية غير منظمة. هل كنت دائما شخصا رسميا ؟
ج : حسنا ، دائما ما كان اصدقائي يسخرون مني لارتدائي البدلة و الكرافت ايام السبت .اتذكر انني في معسكر لينو برادو كنت اخرج في نهاية الاسبوع بملابس مدنية و كنت أهوي الكرافت ، فدائما ما كنت رسميا في هذا الجانب . و من ناحية اخري كنت أعمل بجد ، هذه حقيقة ، و السبب بسيط جدا وهو أنني لا أستطيع أن أكتب بشكل أخر.فأنا لست من هذا النوع من الكتاب الذين يتمتعون بومضة إلهام تسمح لهم بالكتابة ساعات قليلة يوميا تحت وطأة هذا الضوء.أنا اعتقد أن الإلهام ، إذا وجد شيء بهذا الإسم ، فهو شيء ناتج فقط عن مجهود مبذول ، فكتبي التي نشرتها هي نتاج نظام صارم فرضته علي نفسي . س : من المعروف أن العمل الفني هو نتاج مشاعر جياشة ، لكنك ربما تكتب لأن "الدجاحة التي لا تبيض لا فائدة منها " ؟
ج : (يضحك ) إن هذا المثل يعبر جيدا عما يعني بالنسبة لي "الميول " فالميول كالإدمان . فالكتابة بالنسبة لي ليست وظيفة ، حسنا هي وظيفة من حيث اني أتكسب منها ، لكن حتي ولو لم يكن الأمر كذلك ، سأظل أكتب ايضا صباحا و ظهرا و مساءا، فأنا في حاجة إلي الكتابة لأتفاعل مع الحياة ، فالكتابة تعطيني التوازن ، وهي بالنسبة لي إحتياج ، ليس فقط فسيولوجي ، و إنما نفسي ايضا . س : إذن يمكن القول أن الكتابة هي رياضتك المفضلة ، أم ان لك رياضة اخري ؟
ج: نعم ، أحب رياضة الجري ، و دائما ما أحببت الرياضة لكنني لم أتفوق فيها ، ربما حققت شيئا في السباحة.
س : وعندما تجري ، هل يتعرف عليك الناس ؟
ج : نعم هذا ما يحدث لي هنا في بيرو : افقد حقوق المؤلف !. عندما كنت شابا ، كنت مجاملا بشكل ما ، لكن هذا تحول اليوم الي عقوبة . إن الشهرة شيء فظيع ، فأنت هدف للمراقبة ، و تفقد كلية خصوصياتك ، وهذا شيء غاية في الخطورة ، خاصة بالنسبة لي حيث اقضي وقتا كبيرا في الشارع ، فأنا يستهويني الخروج و الفرجة و الانصات ،و لأقوم بكل هذا لابد ان اكون مجهولا. س : بالنسبة لأعمالك ، لماذا لم تكتب ابدا عن اريكيبا ، قريتك ، اللهم إلا اشياء طفيفة في رواية "حوار داخل الكاتدرائية " و مع ذلك كنت كثير الكتابة عن بيورا و الغابة و حتي عن حي ميرافلوريس ؟
ج: لأنني و برغم حبي العميق لقريتي حيث ولدت عائلتي الا انني لم اعش بها تقريبا وكنت اذهب اليها زائرا ولي فيها بعض الذكريات العائلية فهي مكان تخيلته اكثر مما عشت فيه ، حيث انهم اخرجوني منه و انا صغير. س :اذن يكذب من يقول انك من داخلك ترفض ان يقولوا عنك انك قروي ؟
ج:انا فخور جدا باصولي سواء كانت قروية ام لا ، كما انني اقضي حياتي اكتب عن القرية . ولقد وجدت انت عملا عن بيورا و انا الان اكتب رواية تجري في ماتشيجينجاس وهي قرية اصغر من بيورا و اريكيبا. س: ماذا تفعل لو وجدت امرأة جميلة و جذابة و حاولت غوايتك ؟ اعتقد ان الفرصة قد اتيحت لك كثيرا ، أم انك تتجنب ذلك ؟
ج :اتجنبها قدر المستطاع ، فانت تعرف ان الرجل ضعيف ودائما ما يستكين امام المرأة. لكنني الاحظ انك تاخذني لطريق محفوف بالمخاطر، فانت تعرف زوجتي وتعرف أنها إمرأة قوية الشخصية وصارمة و انت بهذا تسبب لي مشكلة ، و أنا حقيقة اخاف منها . س : أتمني ان تجيبني علي هذا السؤال :ألا تشعر بالرضا عندما تسمع المرشحات في مسابقات ملكة جمال العالم يقولن أنهن يعرفن إعداد التورطة بالشكولاته ويردن أن يكن مضيفات بارعات و انهن يقرأن لماريو بارجاس يوسا ؟
ج : ( يضحك ) أنظر ،إذا كان هذا الأمر صدقا و لا يقولن ذلك لان يوسا هو الإسم الأقرب لأذهانهن ،لتواجده بالجرائد، إذن فأنا لا أشعر فقط بالرضا و إنما ايضا بغاية السعادة . فكون الفتاة جميلة لا يعفيها من التمتع بشيء من رهافة الحس ، و لو كانت جميلة وقارئة فهذا افضل بكثير . س : انت ادري بهذه الأشياء مني ،فأنا أعرف انك كنت أحد المحلفين في إحدي مسابقات الجمال !
ج : نعم ، في إحدي مسابقات ملكة جمال العالم كنت محلفا ،حيث وضعني خينارو ديلجا في هذه المغامرة . لقد أخذت الموضوع علي محمل الهزل، إعتقادا مني أنها تجربة مسلية ، لكن الحقيقة أنه عمل شاق . س : ستتم في هذا العام عامك الخمسين ، أليس كذلك ؟
ج : ( مقاطعا ) نعم ، لكنني لا أعتبر نفسي عجوزا، فكما يقول بيدرو كاماتشو في " خالتي خوليا و الكاتب التافه " : لقد وصلت لزهرة حياتي .لكنني الاحظ حركة السنين في شيء يضايقني كثيرا ، هو كم الأشياء التي اريد إنجازها ، و أنتبه الأن أنني لن لأستطيع الإنتهاء منها ، فمثلا أعرف أنني لن أستطيع أن اكتب كل الروايات التي أود كتابتها، فلديي مشاريع كثيرة و موضوعات غزيرة ، اكثر بكثير من السنوات القادمة التي اعيشها .لقد تحول هذا الأمر إلي ينبوع للضيق ، فالكاتب يحتاج لوقت ، لأن الكتابة عملية لا تتم سريعا، ربما لهذا السبب أصبحت ضيق الصدر وغير متسامح في بعض الاشياء ، فعلي سبيل المثال عندما أقرأ كتابا لا يعجبني أتوقف عن قراءته فورا قبل أن أنهيه، و لم أكن أفعل ذلك أبدا من قبل . س : لكن أن يعرف الكاتب ان قراءه لا ينتهون من قراءة كتبه، هذا شيء فظيع. لو حدث هذا معك ، هل سينتابك بعض الشعور بالفشل؟
ج : بعض الإحساس لا ، و إنما الإحساس التام بالفشل، فأنا اعتقد أن من واجبات الرواية أن تجذب القاريء وتمنعه أن يغلق الكتاب، و أنا عندما اكتب رواياتي أحاول تحقيق هذا المبدأ ، لكني علي يقين انني لا انجح دائما في ذلك. س : عندما تقول انك لن تستطيع الإنتهاء من كل مشاريعك الإبداعية وكتابة كل الموضوعات التي تدور في ذهنك، ربما يسليك بعض الشيء أن أحد أولادك سيمسك بعدك باللجام ، أم انه ليس لأحدهم ميولا ادبية؟
ج: ابني الاكبر كان له هذه الميول ، لكنه انشغل أكثر بالأمور السياسية و الإجتماعية والإقتصادية ،و الأن يهتم بالتاريخ و السياسة أكثر من إهتمامه بالأدب أما ابني الثاني فسيلتحق بالجامعة ليدرس العلوم الإنسانية ويتخصص في اللغة الفرنسية و الإسبانية ، وهو نوع من الدراسة المرتبط بالأدب.. أما ابنتي مرجانة، فلا اعرف لها شيئا حتي الأن ، فمازالت صغيرة ولا المح فيها أي ميول . كما أنني لا اعرف إن كنت احب أن يمتد العرق الأدبي لأبنائي أم لا ، لكن لو إمتد لهم سأساعدهم قدر المستطاع ، لكنني ربما أفضل أن تكون لهم قبلة أخري أكثر إستقرارا وأقل إخفاقا من الإبداع الفني ،لكنني مع أبنائي احاول دائما ألا اكون ابا متسلطا ، أحاول ان اساعدهم بطريقة ما ليتمكنوا من إختيار مصائرهم بانفسهم ويحققوا ما يريدوه هم لأنفسهم ، بدون اي تأثير قاطع مني، ففي إختيار الوظيفة و الميول لا أتدخل، ظنا مني أن أسوا ما يفعله الأباء بابناءهم هو تدخلهم هذا . انا رجل احترم جدا الأخرين و احاول الا افرض عليهم طريقة تفكيري وكينونتي . س : أنا لا استطيع ان أحجب سؤالا يدور في ذهني و اعتقد انك ستفهمني ، سؤالي يتعلق بالمنافسة الظاهرة بينك و بين ماركيز ، هل هي منافسة ناتجة عن الخلاف الإيديولوجي أم هي ناتجة عن اللكمة الشهيرة التي سددتها له قبل سنوات ؟
ج :بيننا لا توجد أية منافسة ،فانا لا أحترم فقط اعمال ماركيز وإنما ايضا أعجب بها، ولقد كتبت كتابا عن كتابه ذات الستمائة صفحة وظللت اعمل به لمدة سنتين ، و اعتقد أن إعجابي به و إحترامي له غير قابل للنقاش.أما الخلا ف فهو موجود ، ومنبعه مواقفه السياسية التي أرفضها ، لكن هذا لا يؤثر علي رؤيتي له ككاتب ومفكر و إعجابي بإنتاجه.وإذا كان بيننا خلاف عميق علي المستوي السياسي فمن التحضر مواجهته ، أليس كذلك ؟ إنه نوع من الحوار سيفيد أيضا قراءنا . اما بالنسبة للمنافسة فلا مجال للكلام في هذا الشأن ، فالمتحدثون فيه يتمتعون بعقول متأخرة أو هم كمن يبحث في القطه عن ثلاثة ارجل و هو يعلم أنها من ذوي الاربع س : إذن اليس موضوع اللكمة حقيقة ؟ ج: كان خلافا شخصيا ، ولا اود فتحه لكيلا أفتح مجالا للنميمة س : هل قرأت عمله الأخير " الحب في زمن الكوليرا " ج : لم أقرأه بعد ، فالكتاب يتنقل بين افراد أسرتي من يد إلي يد ،وقرأته زوجتي و أولادي ، وأنا في إنتظار دوري س: و ما رأي أسرتك فيه ؟ ج : هناك الكثير من التعليقات ، بعضهم شديد الحماس له ، وبعضهم أقل حماسا ، لكنني لن اقول من قال ماذا حتي لا اوشي بهم! س: هل انت راض عن كل كتبت حتي الان؟ ج : اعتقد ان الكاتب الذي يشعر بالرضا عن كل ما كتب كاتب مغرور جدا .لقد فعلت اشياءا كثيرة اردت فعلها ، لكني علي يقين أنني كان من الممكن ان افعل خيرا مما فعلت .لا ، لا اشعر بالرضا كلية ن وإلا سأكون ساذجا. .

الأحد، مايو 03، 2009

لعبة الوقت

لعبة الوقت قصة : خوستو نابارّو تنبأتْ لي عرافة أنني سأقتل أمي ، وعرفتْ أنني كنتُ ممثلاً سينمائياً ، كما تكهنتْ بسلاح الجريمة التي سأرتكبها ، ووصفته بأنه سلاح همجي ، فهو ليس سماً ولا حقنةً ، وهي أشياء تكشف خبرتي الطبية . صدقتْ العرافة فيما قالت ، فأنا كنتُ ممثلاً سينمائياً منذ سنوات طوال ، رغم أن أمي كانت تكره السينما ولم تشاهد في حياتها سوي فيلمين ، شاركت أنا في بطولة أحدهما وظهر أبي في الآخر . كنت ، منذ سنوات بعيدة ، الطفل الأسطوري الذي قام ببطولة فيلم " الطفل يسوع " ، الذي حقق نجاحاً منقطع النظير في اسبانيا وأمريكا الجنوبية وإيطاليا . حينها ، كانت أمي تصطحبني في التصوير ، كذلك في ليلة افتتاح العرض ، كما كانت تساعد عاملات المكياج . كانت تفعل كل ذلك مع أنها تكره التصوير والمكياج والسينما ، وإن شاهدتْ فيلمي فليس ذلك إلا من باب تأدية الواجب ليس اكثر ؛ لقد فرضت عليها الظروف أن ترافق جدي ، الذي كان يقيم معنا حينذاك ، ليري حفيده علي الشاشة . كانت أمي تعلم أنني لستُ وجهاً سينمائياً ، وكانت تقول لي دوماً إن المشاهدين لا يدفعون من أجل مشاهدة وجه مثل وجهي علي الشاشة ، بل يدفعون ليروا من لا يرونه في بيوتهم ، بينما وجهي القبيح السوقي يملأ كل البيوت . كان هذا هو رأي أم في ابنها الوحيد. ولم تكتف بذلك ، فوصفتْ صوتي بالخشن وتخيلتني بشارب ورأت قصبة ساقي معوّجة ، وحوّلت أفلام الأطفال المقدسة إلي أفلام شيطانية لا طائل من ورائها ، وتصورتْ " الطفل يسوع " رجلاً صارماً له شارب ووجه مثقوب بحب الشباب . وعندما قدم لي المنتجون عرضاً للقيام ببطولة فيلم ثان بعد نجاح الفيلم الأول ، رفضتْ أمي بشكل قاطع . "إنه من الخطأ والوهن قبول دعوة هؤلاء الرجال الذين يلتقطون صورا لأطفال المدارس اليسوعية دون إذن آبائهم" ، كما أنهم قد أخطأوا حينما اختاروني وجعلوا مني نجما سينمائيا ، فهم لم يركزوا النظر في أنفي ، التي كانت تصفها بالقبح والسوقية ، مثل بقية وجهي تماماً . وبررت موافقتها علي توقيع العقد الأول بأن المنتج سولانا كانت تربطه بأبي زمالة قديمة . كان أبي أيضا يعمل بالسينما ، لكن بلا إرادة منه ، وقد شاهدتْ له أمي فيلمه الأخير الذي ظهر فيه عدة دقائق ، بعدها وافته المنية . نعم ، تحملتْ الجلوس أمام الفيديو عدة دقائق لتشاهد فيلماً . أحضرت لنا شريط الفيديو من روما صديقة قديمة وبعيدة لأمي ، تسمي اسبيرانثا . وبالمناسبة فإن كل صديقات أمي بعيدات ، فعندما تشتد الصداقة بين امرأتين تتباعدان بطريقة تلقائية . كانت اسبيرانثا تزورنا باستمرار وتجلب لنا الأخبار المحزنة ، عن المرضي وحديثي الوفاة ، وتحكي لنا زيارتها للفاتيكان لتصيبها بركة البابا ، وأنها عادت بعد ذلك لتحضر الفيديو لتشاهد فيلماً عرض منذ خمسين عاما مضت . كان فيلما وثائقيا يدور حول التدخل الإيطالي في الحرب الأهلية الاسبانية ، التي حققتْ فيها مدينة مالقة بطولة التحرر بعد أن كانت سجينة الرعب الأحمر . كان الفاشيون بجيشهم الهزيل والمتحير ميتين في جلودهم من الخوف في وسط الميدان ، قبل بدء اطلاق النار . وقبل غزوهم للمدينة بشهور ، كان أبي جنديا في هذا الجيش ، أو هكذا كانت تعتقد صديقة أمي البعيدة . كان أبي مسلحاً في موقف الدفاع ، في ليلة من ليالي اغسطس سنة 1936 ، بعد أن قصف الطيران الفاشي مخازن البنزين القريبة من الميناء . يجب أن أعترف أن أبي لم يكن بطلاً ، بل كان مدعياً ، وهذا رأي أمي ، وانضم لقوافل الساسة اليمينيين لأنه يحب الاحتفالات . والخطب السياسية والمواكب الإنتخابية ، التي تدور في المحافظة ، هي خير مناسبة للعب القمار والغناء والتعرف علي النساء وشرب الخمور . بعد ذلك ، عندما كانت زوجتي التي تصغرني بخمسة عشر عاما والمصابة بحمي الثورة ، تهاجم الجنرال فرانكو وأتباعه والمتواطئين معه وعائلتي وخاصة ابي في المقام الأول ، كنتُ أحاول أن أشرح لها أن ابي لم يكن مجنداً فاشياً ، ولا هو بطل ، وأنني لا أحبه بطلاً ، بل هو رجل سكير يبحث عن رزقه بالحلال والحرام . كنتُ أكرر لها كلمات أمي المحببة لقلبها بالحرف الواحد ، أبي رجل مسرور ومحب للحياة ، عاشق للعربدة الدائمة . كنت أشرح لها أن أبي مات بسبب نقصان في شخصيته لم يمكن اكتماله ، وهذا النقصان هو ما دفعه ليترك أمي وحدها ويتنقل من مكان لآخر بحثا عن اصدقاء العربدة ، أياً كانت وظيفتهم ، ساسة فاشيين ، مؤسسي نقابات أو أحزاب زراعية ، حاملي بنادق ، أبطال . ـ أبوك لم يحمل بندقية في حياته ، لأنه كان يفتقر للافكار السيئة والعظيمة . كان مشهورا فقط في صالات الرقص . لقد فاض الكيل بزوجتي من عائلتي ، حتي من أبي الراحل . وأمي مثل زوجتي ، محقة دائماً ولا تخطيء . وتحققتُ مع مرور الوقت أن زوجتي ليست جديرة بثقتي ، فانفصلنا منذ أربع سنوات . كانت نظرات أمي لزوجتي كثيرة وجارحة ، نظرات تبحث عن العيوب وتخبيء الفضائل ، وتخرج دائمًا بنفس النتيجة الثابتة ، أن زوجتي لا تساوي شيئاً . كانت زوجتي لا تنبس بكلمة في وجود أمي ، لا تعرف سوي الصمت ، فتقول امي : ـ لا أعرف أصامتة لأنها لا تفكر فليس عندها ما تقوله أم أنها تفكر في شيء سيء لا تستطيع قوله ؟ لا أعرف فأحلي الأمرين مر . بالإضافة لذلك ، كانت توجد مشكلة الرائحة ، حيث تشم أمي رائحة غريبة في زوجتي ، ربما نوع من العطور أو الطيب . رائحة زوجتك كالعاهرات - كانت أمي تقول - مشاكلي معها لا عد لها ولا حصر ، فرائحتها منفرة . أعترف انني لم اشم قبل ذلك هذه الرائحة ، ولا أعرف احدا قد شم رائحة غريبة في زوجتي . لكنني كنت أري في مرات كثيرة كيف تعقد أمي حاجبيها وتسد أنفها بيدها بمجرد أن تمر زوجتي بجانبها ، بل وتجبرني أن أتشمم هذه الرائحة . - لكنك لم تشمي من قبل رائحة عاهرات! - بل شممتها في أبيك مرات كثيرات . استلمت أمي شريط الفيديو القادم لها من إيطاليا ورفضت أن تشاهده . في هذا الشريط اعتقدت اسبرانثا ، صديقة أمي البعيدة ، أنها قد تعرفت علي هوية أبي ، فهي قد رأته في عجالة ما بين سنة 35 و 1936 ، ثم وجدت صورته بعد ذلك معلقة علي الأبواب وحوائط بيت العائلة . لم ترغب أمي في مشاهدة الفيلم ، لأنه بدا لها مستحيلاً أن يصور أحد أبي قبل موته بساعات ، فالمغتالون أنفسهم ، الذين قتلوا أبي ، كما قالت أمي ، كسروا الكاميرات ليمسحوا آثار الجريمة . كان من الصعب اقناع أمي بالجلوس أمام شاشة التليفزيون ، لكن الواجب فرض نفسه . اعتقد أنها وافقت علي مشاهدة الفيلم كما وافقت علي التعرف علي الجثة داخل النعش . أخيرا جلست أمام التليفزيون كأداء واجب . كانت تحمل نفس الوجه بنفس الانفعالات التي ترسمها عندما كانت تقدم لي الفواتير أو الخطابات التي تأتي باسمي أو باسمها : وجه واع بكم القوة التي يستهلكها ، واع لنظرات الآخرين . ورغم أن أمي كانت ترد علي خطاباتها بنفسها ، إلا أنها كانت تطلب مني أن أراجع لها الفواتير والحسابات . أنا أخصائي في الطب الإشعاعي ، وصلتُ لذلك بفضل أمي التي سهرت عليّ بعد ممات أبي ، فدفعتْ لي المصاريف الدراسية ، ثم تخلت عني بعد ذلك ، فحملتني مصاريف البيت ووضعتني في مشكلات لا نهاية لها مع البقال والسباك وزملائي الأطباء والخادمات ومأموري الضرائب والكوافيرة ، بل حتي مع المسئولين عن إنشاء مدفن خاص لها ومحصلي أموال هذا المدفن والمشاركين معها ، ومع الجيران وأصدقائي القدامي وأقاربنا . كانت الحياة مع أمي تشبه الشارع الممتليء بحوار متعرجة ، بالمتاهة التي لا نهاية لها ، فكلها حسابات مجهدة ومتكدسة بالديون المؤجلة من يوم لآخر خلال ثلاثين أو أربعين عاماً . كانت حياتنا مجموعة مشاكل تقطع علينا الحلم . كانت كما الحجر الثقيل الذي أتحمله وحدي فوق رأسي ، وداخل هذه الرأس حجر آخر أكبر وأكثر ازعاجا . - مشاكلي لا عد لها ولا حصر . تركتني زوجتي لأنها لم تحتمل نظراتي إليها ، رغم أني لا أعرف كيف كنت أنظر إليها . ربما السهر والضيق شوها وجهي ونظراتي . ضيق جعلني ألتفت إلي رائحتها التي اكتشفتها أمي ولم أشمها أنا بنفسي . تنبأت لي العرافة أنني سأقتل أمي ، وهذه النظرة إلي المستقبل أدهشتني وأرهبتني . كانت العرافة تبدو متخصصة وصادقة ، وحكت لي كثيرا عما حدث في سنوات عمري الماضية ، وصدقت . أعترف أنني لا أؤمن بالعرافات ، فأنا أفكر بطريقة علمية . صعدتُُ لبيت العرافة فقط لأن اللافتة المعلقة علي بابها لفتت انتباهي ، فدخلت لأتسلي ولأنسي نفسي قليلا فأخرج بذلك من مشاكلي بكلامها عن مستقبلي ، عن نفسي . فتح لي الباب رجل أعمي قادني لصالة الانتظار ، حيث وجدت امرأة ورجلا تعيسين ، شعرت معهما بالخجل . كان أحدهما ينظر لي . كانت المرأة تحمل كيس نقود قديم باحدي يديها ، بينما لا يملك الرجل شيئا . كانا حزينين ، يحركان شفاههما ويتحدثان بصوت خفيض لئلا يسمعهما أحد . بعد ساعة دخلت للعرافة. كانت صوتًا وظلاً من ضمن الظلال الكثيرة الموجودة في غرفة سفرة عائلة محترمة . كان الضوء منطفئا ، والنوافذ مغلقة ، والستائر مسدلة . الضوء الوحيد كان يأتي من شمعة كبيرة حمراء كائنة فوق المائدة ، بين العرافة وبيني . لم يكن للعرافة عمر ، كانت عبارة عن تمثال من الحجارة . فوق المائدة كانت توجد جريدة لاحظتُ فيها تاريخ اليوم ، لكن منذ ثلاثين عاما مضت أو ثلاثين قادمة . مدتْ العرفة الجريدة للرجل الأعمي ، الذي فتح لي باب البيت ، والآن يجلس علي مقعد من البلاستك ، علي حافة بار يقع علي يمين العرافة ، علي بعد متر منها ، مرتديا نظارة سوداء في ظل الشمعة الحمراء . ضربته العرافة بالجريدة في ذراعه، فمد يده وأخذ الجريدة وتركها علي الأرض ، ثم سكن ، ربما نام ، ربما مات ، دون أن يخلع نظارته . نظرت لي العرافة بتركيز ، أغمضت عينيها قليلاً كما لو تبحث عني في ذاكرتها وتريد أن تستحضرني بدقة . صار وجه الصنم أكثر رقة . رأت فيّ شيئاً استطاع أن يحرك مشاعرها ، شربنا فنجاني شاي . لم يكن هناك شاي من أجل الأعمي الذي لا يتحدث ، بل ولا حتي يهتم بوجودنا في الغرفة معه . لم يهتم أيضا أن يسمع تنبؤات العرافة الجريئة . حينئذ تنبأت لي العرافة انني سأقتل أمي ، فأدهشتني . كانت غير قادرة علي الخطأ ، فحكت لي أنني كنت ممثلاً سينمائياً وأنا طفل صغير ، وحكت لي عن يوم زفافي وزواجي من نائبة بالمجلس المحلي ، كما حكت لي عن طلاقي وعن وظيفتي في الطب الاشعاعي . وهكذا أرعبني مستقبلي المستحيل الذي لا يصدق ، والذي تكهنت به . حاولتُ أن أشعل سيجارة ، لكن يدي كانت ترتعش بشدة . ظللت أسبوعاً كاملاً أنام بشكل مضطرب ، أنتقل من مكان لاخر بلا طعام ، كما الصائم ، وأصبحتُ أسمع باستمرار صوت النبوءة يرن في أذني حتي تدمرت أعصابي ، وقد ساعدت أمي في هذا التدمير ذات ليلة عندما اجتمعنا في غرفة السفرة وبصحبتنا صديقتها الايطالية البعيدة ، لنشاهد صور أبي الأخيرة في شريط فيديو . قالت أمي : - من المستحيل أن يكون اميليو في هذا الفيلم ، فهو رجل تافه ، فلو خرج أنوخوسا أو لافارجا لن أندهش ، فهما بطلان لهما شخصيتهما وأفكارهما ، لذلك اغتيلا بسبب، لكن أن يطل علينا اميليو فهذا مستحيل . لم أر أبي قبل ذلك ، فقد ولدتُ بعد موته ، لكنني شاهدتُ صوره الفوتوغرافية والمرسومة ، كما رأيت صوري لسنوات طوال ، ورأيت وجهي في المرآة وفي عيني أمي وعيني زوجتي . وعندما شاهدت الفيلم ، رأيت شبحا رماديا وأصفر ، رأيت روحا بلا جسد . شبحا شاحبا ، مهتزا ، محروق الوجه ، مرسوما بالتجاعيد . رأيت شبحا لشبح قد مات منذ سنوات كثيرة ، رأيت نفسي بكل ما فيها من تفاصيل . صرخت صديقة أمي : - إنه اميليو ، انظري! كان رجلا مشعا بالشباب ، أكثر شبابا مني الآن . كان سعيدا يوم وفاته بشكل لا يمكن تفسيره . كان يضع معطفا علي كتفه رغم حرارة الجو المرتفعة . كان أحد كمي قميصه مشمرا حتي الكوع ، بينما كان الآخر مفرودا حتي رسغه . كان أشعث الشعر ، طويل اللحية . كان وجهه متجاسرا بين وجوه أخري متجاسرة مثله ، وكانت يداه تغطي احيانا هذا الوجه ، الذي فوجيء بما هو فيه ، فوجيء بأنهم أخذوه بالقوة من بار أو صالة رقص ليدفع حياته ثمنا . كان ينظر للأرض كما لو أنه يقرأ مستقبله فيها ، مستقبلا كان ينتظره ، لكنه استعاد نفسه سريعا ونظر للكاميرا ، بحاجبين مقطبين ، وفتح عينيه بافراط وتظاهر بابتسامة أظهرت أسنانه ، وكان منظره يوحي بالسب لا بالفرح . - هذا ليس زوجي ، ليس اميليو ، زوجي لا يعطي هذا الانطباع الأبله ، زوجي له وجه قبيح وسوقي ، كما أن أنفه تختلف عن هذه الأنف . تحدثت أمي ، نهضت بمجهود كبير ، خرجت من غرفة السفرة وهي تجر قدميها ذات السبعين عاما . تبادلنا النظر أنا وصديقتها ، التي قالت بعينين مليئتين بالدموع : - إنه أبوك ، أنا أتذكره جيدا ، كان جميلا . كنت أفكر حينها في وجهي القبيح السوقي وفي أنفي ، بينما كانت الطائرات في الفيلم تقصف المدينة . حاولت أن أشعل سيجارة لكن نبضي كان يرتجف ، وانطفأت الولاعة كما انطفأت في بيت العرافة . نهض الرجل الجالس عن يمين عرافتي ، ابتعد عن الجريدة لكيلا لا يطأها . اقترب مني ، أشعل سيجارتي ، لم يكن الأعمي أعمي ، واستمرت العرافة في سرد نبوءتها الغريبة . - تبدو لك نبوءتي أكذوبة ، لكنك ستقتل أمك ، ولن تصدق أنك قتلتها . لن تعرف الراحة بعدها ، ستسلم نفسك للشرطة ، بعدها ستشعر أنك في سلام . خرجتُ للشارع أشعر بقشعريرة في جسدي ، كان صباح يوم من أيام يونيه . دخلت مقهي يسمي اليفانتي ، طلبتُ زجاجة بيرة . أمسكت الجريدة بيد مرتعشة . فكرت في هراء العرافة التي تتنبأ بجرائم مستقبلية مستحيلة الوقوع ، وتسهب في الكلام عن حقائق ماضية . معها ، كنت أعيش بين الماضي والمستقبل ، كما لو كنا نحيا بين دقيقتين . للعرافة مقدرة غريبة علي سبق الزمن أو التأخر عنه عدة ساعات ، أيام أو شهور ، ومقدرة أن تعرف المستقبل وتتكهن بالماضي ، دون أن تهتم بما يشغلني ، دون أن تهتم بتقديم ساعتي أو تأخيرها عدة ثوان ، لقد التبس عليّ الأمر . فالعرافة لم تخلط المستقبل بالماضي كمن يخلط الحادية عشر بالحادية عشر وخمس دقائق . فتحتُ الجريدة ، نفس الجريدة التي كنت قد رأيتها علي مائدة العرافة بالقرب من قدمي الأعمي الذي لم يكن أعمي . في الصفحة السابعة والعشرين كانت صورتي في إنتظاري ، برفقة قصتي ، وفيلمي المشهور ، الذي قمت فيه بدور الطفل يسوع . قصة زواجي الفاشل بنائبة المجلس المحلي ، وظيفتي . كانوا يبحثون عني بعد أن وجدوا جثة أمي منذ ثمان وأربعين ساعة ، وربما منذ خمسة أيام . كانت رأسها مهشمة بالشاكوش . أدهشتني فكرة ان العرافة والأعمي قد نعرّفا علي صورتي رغم أن الصورة المعروضة في الجريدة كانت قديمة ورسمية ، عندما كنت اعمل نائبا لأمين صندوق جمعية الأطباء الاشعاعيين ، عندما كنت رجلا محترما ، لا أقضي أربعة أيام بلا نوم ، وبلا حلق لحية ، وبلا طعام . عندما كانت امي تعتني بي .
ت/ احمد عبد اللطيف

الاثنين، أبريل 20، 2009

قصة : باقة ورود زرقاء

للكاتب المكسيكي الأشهر : أوكتابيو باث استيقظتُ وأنا أتصبب عرقاً . كانت الأبخرة الساخنة تتصاعد داخل غرفتي المشيدة من الطوب الأحمر ، التي قد رششتها بالماء قبل نومي . خطفت بصري هذه الفراشة بجناحيها الرماديين ، بحومها حول بؤرة صفراء . انتفضتُ من أريكتي ، سرتُ حافيا داخل غرفتي ، وكنت حريصا ألا أطأ عقرباً هجر جحره لينعم بنسمة هواء باردة .اقتربتُ للنافذة الصغيرة ، استنشقت ملء رئتي نسيم الريف ، سمعت تنفس الليل ، الهائل والرقيق . عدتُ بعدها لمنتصف الغرفة ، أفرغتُ ماء الدورق في الطشت المعدني ، بللتُ فوطتي ، ودعكتُ بالقطعة المبللة رقبتي وقدميّ . جففتُ أعضائي ، وارتديتُ ملابسي ، بعد أن تحققتُ أن ثناياها خالية من الحشرات ، ثم انتعلتُ حذائي . هبطتُ درجات السلم متخطياً الدرجة الخضراء ، ووجدتُ صاحب البنسيون جالساً عند مدخله . رجل أعور ومتحفظ ، يجلس علي مقعد صغير من التول ، يدخن بعينين شبه مغمضتين . سألني بصوت أجش : ـ رايح فين يا سيدي ؟ ـ أتمشي ، هنا الجو نار . ـ آه ، بس هنا مفيش حاجة فاتحة دلوقتي ، وكمان مفيش نور . خليك هنا أحسن . ربتُ علي كتفه وهمستُ في أذنه " مش هتأخر " . دخلت بعدها في ظلام دامس . في البداية لم أر شيئاً ، فسرتُ أتلمّس طريقي في الشارع المرصوف ، وأشعلتُ سيجارة . سطع القمر فجأة من خلف سحابة سوداء ، فأضاء جداراً أبيض وفتت بالتدريج قطع الظلمات . وقفتُ امام بياضه مشدوهاً ، فاقداً بصري . سمعتُ صفير الريح ، وتنفّستُ عطر التمر هندي . كان الليل يهتز بحشراته وورقات أشجاره ، وكانت الضفادع كامنة في معسكرها بين الحشائش الطويلة . رفعتُ وجهي للسماء : النجوم ايضا تكمن في معسكرها العلوي . فكّرتُ في الكون : ماهو إلا نظام رحب من الدلالات ، ما هو سوي حوار بين كائناته الهائلة . إن حركاتي ، ونقيق الضفادع ، الشبيه بصوت منشار ، ورمشة النجوم ، ما هي إلا وقفات ومقاطع وعبارات مبعثرة من هذا الحوار . ماهي هذه الكلمة التي أشكّل فيها مقطعاً ؟ من الذي يتفوه بها ومن الذي يتلقاّها ؟ رميتُ السيجارة علي الرصيف ، فشكّلتْ منحنياً مضيئاً بمجرد سقوطها ، وتناثر منها شرر ضئيل ذكّرني بطيارة ورق صغيرة . سرتُ الهوين لوقت طويل ، وشعرت بالحرية والأمان مع هاتين الشفتين اللتين نطقتا بسعادة بالغة : الليل حديقة مليئة بالعيون . عندما هممت بعبور الشارع ، شعرت أن أحدا ينطلق من داخل مدخل بيت . رجعتُ ، لكنني لم أتمكن من تمييز أحد . أسرعتُ الخطي ، وسمعتُ بعد لحظات ضجيجاً خامداً علي بعد خطوات ، ضجيج يخطو فوق الأحجار الساخنة . لم يرُق لي أن ألتفت ورائي رغم ادراكي لاقتراب الظل ، الذي يزداد التصاقا بي . حاولتُ أن أطلق ساقي للريح ، لكنني عجزتُ عن ذلك . تسمرتُ في مكاني فجأة ، وقبل أن أدافع عن نفسي ، شعرتُ بنصل سكين في ظهري وسمعت صوتاُ عذباً : ـ لو اتحركت هدفنك ف مكانك . وبدون أن ألتفت إليه سألته : ـ عايز إيه ؟ ـ عايز عينيك يا سيدي .ـ أجابني صوت ناعم وشبه حزين . ـ عيني! وهتفيدك في ايه عيني ؟ اسمع ، أنا معايا فلوس كتير ، مش كتير قوي يعني ، أديك كل اللي معايا ، بس تسيبني ، ما تقتلنيش . ـ ما تخافش يا سيدي ، مش هقتلك . أنا مش عايز أكتر من عينيك . سألته مرة أخري : ـ وهتفيدك بإيه ؟ وليه عيني بالذات ؟ ـ ده طلب خطيبتي ، عايزة بوكيه ورد متزين بعيون زرقا ، وهنا مفيش حد عينه زرقا . ـ بس أنا عيني مش هتنفعك ، لأنها مش زرقا ، دي صفرا . ـ وكمان عايز تضحك عليّا . أنا عارف العين الزرقا كويس قوي . ـ ماهو ما ينفعش حد ياخد عين حد كده . أنا هديك حاجة تانية . ـ ما تبقاش متزمت كده . قال لي هذه العبارة بقسوة شديدة . فالتفت إليه فوجدته نحيلاً هزيلاً ، يغطي نصف وجهه بقبعة ، ويمسك بيده اليمني سكيناً يلمع مع ضوء القمر . ـ ارفع وشك ! امتثلت لأمره ، وأشعلتُ عود كبريت وقرّبته من وجهي ، فأجبرني لهيبه أن أغمض عيني قليلاً . فتح جفوني بيد قوية . لم يسعه أن يري شيئا ، فوقف علي أطراف أصابعه وتأملني بدقة . كاد اللهيب أن يحرق أناملي ، فألقيت بعود الكبريت علي الأرض . التزم الصمت برهة . ـ صدقت بقي إن عيني مش زرقا ؟ ـ انت حدق قوي ! ـ أجابني ـ ولع عود غيره! . أشعلت عودا آخر وقربته لعيني ، فأمسكني من كم قميصي وأمرني : ـ اركع علي ركبتك ! ركعت ممتثلا لأمره ، فأمسك بشعري باحدي يديه وشد رأسي للخلف ومال فوق صدري . كان مدققاً ومتوتراً ، بينما كان نصل السكين يقترب ببطء ويلمس جفني . أغمضتُ عيني تلقائياً . ـ افتحهم كويس ـ أمرني . فتحتهما بطاعة ، فأحرق لهيب النار رموشي . فجأة أطلق سراحي . ـ عينك مش زرقا ، عفيت عنك . واختفي . ارتكزت علي جدار ما ، واضعاً رأسي بين كفي ومستويا في مجلسي . نهضتُ بصعوبة ، فوقعتُ ، ثم نهضتُ من جديد . شرعتُ في الركض ، وواصلت ركضي ساعة كاملة في هذه القرية المهجورة . وعندما وصلت للميدان ، رأيت صاحب البنسيون جالساً كما كان أمام المدخل . دلفت دون أن أنبس بكلمة . وفي اليوم التالي قررتُ أن أهرب من هذه القرية .
نشرت بترجمتي في مجلة نزوة العمانية.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...