الأربعاء، مايو 06، 2015

إلياس.. الفرد كهوية مفتوحة/ طارق إمام







(1)
في رواية أحمد عبد اللطيف الأحدث "إلياس"، (دار العين، القاهرة)، نحن أمام ما يشبه الحكاية، مروية على لسان ما يشبه الفرد.
مايشبه الحكاية وما يشبه الفرد: إنهما طرفان يؤكد كل منهما على نقصان الآخر. 
سيبدو تلخيص روايةٍ كهذه ضرباً من العبث. فالحكاية الكبرى مفتتة إلى عدد هائل من المحكيات الصغيرة، وبالمقابل ينشطر الفرد منتج المحكيات، أو بطلها، إلى ذوات لا يمكن بمنطق السرد الاعتيادي أن تندرج جميعها تحت اسم شخص واحد. إنه نقض آخر  لصورة النبي كتجسيد لكلية المقولة. 
الشخصية هنا آخذة في تقويض نفسها، بلا حاجة لعنصر خارجي ينهض لدحرها.إنه اشتغال أقرب للشعري فيما يخص البنية الشمولية للنص، فلا حكاية خطية تتنقل مفاصلها تعاقبياً من نقطة لتاليتها في الزمن. بالتالي فالرواية تنهض رأسياً بأكثر مما تتوسع أفقياً عبر حبكة تقليدية. "النهوض" بالعالم عوضاً عن "تمديده" هو ما يبدو شاغل هذا النص، وبحيث تجري خلخلة الزمن بعنف، مؤسسةً لقطيعة تامة بين الزمن الكرونولوجي التعاقبي والزمن النصي الذي لا يعترف سوى بقانونه الخاص. لذا، فنحن أمام رواية "استباق" بالقوة نفسها التي نجد نفسنا بها أمام رواية "استرجاع"، أو "استرجاعات" إن شئنا الدقة حيث لا تتوقف الرواية عند نقطة سالفة بعينها بل تتنقل بين "أنماط" من الماضي تستدعي معها لحظات ذات دلالة، من 641م في الفسطاط، لـ 1610م في غرناطة، ومن قاهرة يونيو 1967 لقاهرة أكتوبر 1973، وصولاً لسنوات التسعينيات والألفية. بالقوة نفسها ثمة استباق يصل للعام 2052.
مَن إلياس؟  ربما "جميع الشخصيات التي يؤديها.. ولا أحد"، بتعبير ستانسلاف ستانسلافسكي عن "الممثل". لكن إلياس بدوره ممثل، لأدوار ثانوية، مثلما هو قاتل، وكاتب قصص قصيرة مجهض، ونبي مغترب في عصره، وجثة متحركة بساق مبتورة، وفي الأخير، خالد، حسب تصوره الخاص عن نفسه.
 لن تألو الرواية جهداً في التفتيش بين "هوياته"، هويات تتراوح حتى أنها يستحيل أن تجتمع في ذات مفردة إلا بقدر لا يُصدق من التسامح.. يناقض بعضها بعضاً وينقضه، فلا يتبقى منها سوى الاسم. الوجود يسبق الماهية، لكن التشكيك هنا يجري على المستويين، أي وجود يمكن التحدث عنه وأي ماهية؟  
(2)
يبدأ ابن كثير الرواية وينهيها، كسارد.
 إنه يتحول هنا إلى راوٍ لحكاية إطارية وليس فحسب اسماً مُتضَمناً في "تصدير".
 "أربعة أنبياء أحياء، اثنان في الأرض: إلياس والخضر، واثنان في السماء: إدريس وعيسى". هذا هو مفتتح الرواية وليس تصديرها، كونه يُعرّف مباشرةً بـ"ماهية" بطلها ويبسط سماته الجوهرية أمام قارئها: نبي حي عائش على الأرض، والحياة هنا تتضمن كونه حياً وسيظل.
يلتقط إلياس نفسه طرف التعريف من راوي المدخل السردي الإطاري، ليبدأ على الفور تعريفه الخاص لنفسه، واضعاً نفسه "كسارد حي"، محل "السارد الميت": "أنا إلياس. اسمي إلياس. أو هكذا سمّوني بإلياس. أو هكذا يدّعون أنهم سمُّوني بإلياس. أو هكذا يظنون ـأن اسمي إلياس. إلياس هو الاسم وأنا أردد الاسم بيني وبين نفسي".
سيختفي السارد الأول (المتحدث بالضمير الثالث)، وقد أرسى التعريف الأول لسارد يتحدث بالضمير الأول، وتركه يقبض على ناصية سرده. لكن السارد الإطاري نفسه، "ابن كثير"، سيظهر مجدداً ليغلق الحكاية (أو مجمل الحكايات) مثلما بدأها،  بمشهد أخير يلتئم مع الأول ويؤكد عمدية الحكاية الإطارية. المشهد الأخير تحصَّل عليه السارد عبر أحد عشر راوياً: "كنا مع رسول الله في سفر، فنزلنا منزلاً، فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفورة المُتاب لها، قال: فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فقال لي من أنت؟ فقلت: أنس بن مالك خادم رسول الله، قال: فأين هو؟ قلت هو ذا يسمع كلامك، قال: فأته فأقرئه مني السلام، وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام. قال: فأتيت النبي فأخبرته، فجاء حتى لقيه وعانقه وسلم، ثم قعدا يتحادثان فقال له: يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوماً، وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت. قال: فنزلت عليهما مائدة من السماء، عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر، ثم ودعه ورأيت مرّه في السحاب نحو السماء".
كأننا أمام حكاية إلياس التي تبدأ بتوصيفه وتنتهي بانتقاله العجائبي للسماء.
بين القوسين الكبيرين، القادمين من سارد عاش ومات في القرن الثامن الهجري، تتحقق محكية عابرة للزمن والمكان، بالضمير الأول، حيث "إلياس" نفسه هو السارد.
النبي في التصدير والنبي في الخاتمة، وفي الاثنتين هناك الراوي الذي أقام الحقيقة من الفعل الشفاهي، لكن بينهما، هناك الكتابة، وهناك الراوي المتكئ على الكتابة في تقديمه لنفسه، بما يتجاوز فكرة النبي نفسها، مكرساً لخلوده، وكأنه ارتقى الدرجات اللازمة التي على النبي أن يقطعها ليصبح إلهاً. ليس "إلياس" بناقل لرسالة، لكنه خالقها، لذا فرسالته هي "إلياسيته"، وأتباعه، جميعهم "إلياس". لا يرغب إلياس _كالأنبياء_ في محاكاة، إنه يطمح في تطابق رعيته معه. لذلك، لا يملك إلياس في هذا النص أتباعاً، بل أشباه. إنه تعميق لتصور، يغدو فيه الفرد وعالمه الشيء نفسه.
الهوية المغلقة تتحول في النص إلى هوية مفتوحة، تتسع للعالم وتستوعبه وفق اقترابه من "إلياس" العابر للأمكنة والأزمنة، ويغدو العالم، العالم كله، "أرشيفاً" يحيا السارد بين أوراقه.
(3)
المكان في إلياس إذن هو "العالم". لكن، ما العالم؟  إنه الأرشيف اللانهائي الذي يحيا إلياس بين قصاصاته. العالم إذن هو "التدوين"  ولا شئ آخر. كل ما لم يدون، لا يعول عليه، ليس لأنه لا يصدقه، لكن، لأنه ببساطة، لم يقع. نص إلياس الذي بين يدينا هوكتابة على كتابة، كتابة تتأمل كتابة سابقة (ولاحقة)، كأن العالم.  نص إلياس نفسه الذي بين يدينا هو مكتوب يجادل مكتوباً، لينتج في النهاية "ميتا رواية".
يجافي "الأرشيف" فكرة "الاستخلاص"، لصالح التراكم الكمي والدقة "التسجيلية". الأرشيف هو "الكلية" التي تفتقر للدلالة كونها تعمد إلى التجميع عوضاً عن "الانتقاء".  هذه هي الرواية الأولى، (هي في الحقيقة ما ينهض كصورة للواقع التراكمي) اللانهائية، مكتوبة أيضاً بواسطة إلياس أو موجهة إليه. أما الرواية الثانية فهي رواية "الانتقاء"، رواية التخليص والتلخيص، التي تمثل نص إلياس "الدال"، وبالتالي صوته المهيمن.
منذ اللحظة الأولى، نحن أمام "صوت" بأكثر مما نحن أمام "شخصية".  لا يكف إلياس عن تعريف نفسه، ولا يكف عن نقض التعريف. هذه "مونودراما" روائية، أو هكذا تبدت لي: ممثل وحيد على خشبة مسرح يسرد مونولوجه الطويل الذي يتجاوز المائتي صفحة في قطع "كِتابه".
صوت إلياس هو نصه، صوته المرتبك، الذي تترجمه عبارات قصيرة مبتورة، تجافي الفواصل، وتنتصر للنقطة التي يتكسر على شاطئها كل سطر. يوحي إلياس لقارئه بأنه يكتب شهادة نهائية تلخص مزق حياته، المكتوبة بالفعل في قصاصات متباعدة يضمها أرشيف ضخم. يكتب كتابة "لاحقة" على أنقاض "كتابة سالفة".
يبرر ذلك هذه الرغبة المحمومة في تقريب اللغة المكتوبة من تقنية خاصة في "التلفظ" تخص صاحبها. التلفظ وقد صار موضوعاً للتدوين، إنها التقنية التي تقرب العالم الروائي من أحد أشد أسئلته إلحاحاً: العالم كسلسلة من النقل الشفاهي، وهو يطمح في تحوله إلى كتاب نهائي لا يقبل "التحريف".
يعرف إلياس نفسه من اللحظة الأولى، كأن متلقيه يجلسون قبالته. إنه وعي أولي بفكرة "العرض". "العرض" يتسق ومهن "تخون الواقع" سواء بالاتكاء على وهمه الممثل في الفن (إلياس كاتب القصص القصيرة/ إلياس ممثل الأدوار الثانوية)، أو تخونه أخلاقياً، بالقتل (إلياس القاتل).  
متى تصبح الشخصية الروائية بطلاً لعرض؟ عندما تدرك أنها بصدد نصها لا واقعها. نعم، واقع إلياس هو نصه، هو صوته العميق وقد تحول لكتابة، وهو وعيه الخاص باللغة وقد حلت محل العالم عوضاً عن أن تعمل كمحض جسر بين الدوال ومداليلها الاتفاقية في الوعي الجمعي.
 يتبنى إلياس بنية خاصة للعبارة، بنية تكرارية تتكاثر فيها الدلالات بقدر ما يشح محصول المفردات. إنه تصور للزمن أيضاً، لا وجود فيه لفاصلة. وحيث لا جملة مكتملة إلا بإكمال تاليتها لقدر من الدلالات المرجأة. النقطة التي تجعل من كل عبارة نهاية، في مواجهة الفاصلة التي تعد بالاستمرارية. إنه وعي يلائم المتكلم الذي "قد" تنتهي حياته قبل أن يكمل عبارته، حتى مع يقينه بخلوده.  حسب ذلك التصور، تنتفي الفروق بين الماضي والمستقبل. وتبعاً لذلك، يسرد إلياس ببساطة ما وقع في مستقبل بعيد، كمن يتذكره.
(4)
نحن أمام سارد يتجاوز، حتى، فكرة أنه "البطل"، حيث أنه هنا يغدو "الحكاية" نفسها.
 النص بأكمله  سيتحقق إذن كمونولوج داخلي طويل: إنها تقنية تطمح، إذا ما استعرنا مفهوم روبرت همفري، "لتقديم المحتوى النفسي للشخصية والعمليات النفسية لديها في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في المستويات المختلفة للوعي قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود". قصدية الكلام هنا تتقاطع مع ملاحقة الوعي في آنيته، فينتج خطاب إلياس على النحو الذي يبسطه النص: كتابة تجتهد لكي تكون على الدوام صورة من الحاضر. بهذه الطريقة فقط يمكن أن يكتسب الزمن سيولته النصية كما تحققت روائياً. من هنا أيضاً يمكن ملاحظة هيمنة الفعل المضارع على الخطاب، سواء كان ذاهباً إلى الماضي أو مستبقاً نحو المستقبل.
إنه، بتعبير جيرار جينت "خطاب فوري يضع القارئ داخل ذهن الشخصية ليشهد حدوث عملية تفكيرها". القارئ داخل ذهن الشخصية: إنه طموح آخر توفر هذه الرواية إمكانات تحققه، بحيث يغدو الفعل الإنتاجي مقسماً بالعدل على السارد والمتلقي معاً.
 ليست لغة السارد هنا إذن محض ولع شكلاني بتغريب اللغة السياقية المتعارفة، لكنه محاولة دائبة لمحاكاة عملية التفكير تجعل اللغة أقرب ما تكون للوعي. نحن فعلياً نكاد نكون "شهوداً" على عملية التفكير نفسها، وكأننا أمام نص قائم فعلياً في المضارع.
ربما لذلك يكاد النص يكون "عرضاً" لوعي الصوت المركزي المتحدث بضمير المتكلم. لا وسيط هنا بين السارد وخطابه، وهكذا يصير الخطاب، في حالة إلياس، هو نفسه السارد.
تبقى المغامرة في "إلياس"، فادحة بقوة التخييل الذي يقودها باتجاه عالم مشيد على غير مثال، تنتفي فيه المسافة بين الإله والنبي والفرد، بقدر ما تذوب بين الأزمنة التي ظنناها غير قابلة للتجاور.

موقع الكتابة


السبت، مارس 28، 2015

إلياس.. مغامرة البناء ومراوغة العالم


إبراهيم عادل 
كلما وقع بين بيديّ عمل روائي يعتمد على “التجريب” ويسعى إلى الاختلاف شعرت أن هذا العمل موجه لقارئ غير عادي، لكني أفكر أن “القارئ” نفسه ربما يكون قد مل بالفعل من الكتابة التقليدية، التي لا تعبر عن ذلك الواقع المضطرب دومًا، وبالتالي؛ فهو يميل أكثر ويحب تلك الأعمال التجريبية، ليس بمعناها العام وإنما ذلك التجريب القائم على أسس ورؤى فنية واضحة تتجلى بوضوح في روايات عديدة، قد تكون روايات “أحمد عبد اللطيف” نموذجًا لها، وربما تبلغ ذروتها عنده بالفعل في الرواية التي بين أيدينا “إلياس” الصادرة مؤخرًا عن دار العين.
إن ما يقدمه “أحمد” في هذه الرواية يتجاوز مجرد محاولة “التجريب” إلى تأسيس نمط جديد من الكتابة السردية يعتمد بشكل أساسي على “أسطرة” الشخصية/ البطل وجعلها نمطًا عامًا يمكن سحبه وتطبيقه على كل زمان ومكان ليظل قابلًا للتحقق، ممثلًا لهذا النمط من الناس أو الشخصيات الذي اصطلح مع قارئه هنا على تسميته “إلياس” وأفاض في شرح وعرض وصفه وتعميمه على “إلياسات” و”إلياسيون” موجودين في العالم كأشباه ونظائر يتفقون في الصفات العامة وفي طريقة تلقيهم وتعاملهم مع هذا العالم ويشتركون في كونهم أفرادًا مهمشين (ربما بأعضاء ناقصة أيضًا) فشلة مع ذلك يكررون محاولاتهم بدأب.
منذ البداية نحن إزاء حالة من “القلق” و”التردد”، ليس في بناء الشخصية فحسب بل ما تقدمه من معلومات وأفكار عن نفسها، ليس هناك يقين أبدًا ولا معلومات مؤكدة، بل هناك تذبذب دائم في كل جملة وكل فقرة:
أنا إلياس، اسمي إلياس، أو هكذا سموني بإلياس، أو هكذا يدعون أنهم أسموني بإلياس، أو هكذا يظنون أن اسمي إلياس، إلياس هو الاسم وأنا أردد الاسم بيني وبين نفسي. أقول مثلًا اقرأ يا إلياس، البس يا إلياس، افعل الخير يا إلياس. وهكذا طوال الوقت وبلا انقطاع. بلا قطيعة. بلا توقف. وهكذا طوال الوقت بشكل مستمر ومتكرر ومتواصل. وعادةً ما أستخدم الأمر مع نفسي. وعادةً لا أستجيب للأمر لمّا يكون نابعًا من نفسي. وعادةً لأني إلياس لا أعرف نفسي. لا أتعرف على نفسي. لا أقابل نفسي. وإذا قابلت نفسي بالصدفة أقول: يا إلياس أمسك باللحظة. افرض شروط إلياس على اللحظة. لكن اللحظة لاتدوم. اللحظة تهرب. اللحظة تذوب. ولايبقى إلا إلياس. فأبقى أنا وهو للأبد…”.
بعد أن تغوص بين أسطر الرواية وصفحاتها تكتشف أنك بإزاء تلك الحالة الخاصة لخلق بطل (لا بطل) يبدو عاديًا وهامشيًا ولكنه في الوقت نفسه يمثل أو يصلح لأن يكون نمطًا للكثيرين، وعليه؛ يقدم “أحمد” من خلال إلياس “عددًا من الصفات التي ربما تجدها منطبقة عليك أو على آخرين في العالم: (عمره غير محدد، وحيد جدًا، لايعرف إن كان حيًا أو ميتًا ولكنه جثة متحركة، لايمتلك أشياء ذات قيمة، كاتب قصة، ممثل فاشل “كومبارس”، يعتبر العالم من حوله “أرشيف”، أعرج (فقد أحد ساقيه)، لايحب النظام، يبحث عن أمه الحقيقية، …) وغيرها من الصفات التي تشير بعد قليل بتلك الشخصية الهامشية غير المؤثرة التي تحاول أن تبحث لها عن دورٍ عن مكانٍ حتى عن حكاية، ولكنها تتوه دومًا وتتورط بدلًا من ذلك في أدوار أخرى ومشكلات لاتتمكن من الخلاص منها!
والكاتب إذ يضع صفات “إلياس” المشتركة بينه وبين غيره، يحرص من خلال تلك اللعبة/ الحيلة الروائية أن يعمم الشخصية قدر استطاعته فيجعلها متجاوزة للزمان والمكان. وهو إن كان قد ربط بعض “اعترافات إلياس” أو خطاباته (إن شئنا أن نسميها كذلك) بتواريخ معينة (سنكتشف بعد قليل ارتباطها كلها بأحداث تاريخية وسياسية هامة) فإن ذلك كله يتسق بشكل أو بآخر مع كون هذا البطل الـ “إلياس” مأزومًا أو مهزومًا بشكل أو بآخر، ربما يتجلى ذلك مثلًا في كون خطابات حبيبته مرتبطة بتاريخ الهزيمة 1967 والنصر 1973 معًا، كما قد يتجلى أكثر في تقمصه لدور قاتل “لوركا” الذي يتغير فيه (إلياس) زمانيًا ومكانيًا (غرناطة 1936) ويجيد التعبير عن ذلك القاتل: “قالوا اقتل يا إلياس من أجل القومية، وقتل إلياس من أجل القومية، قالوا “لوركا” يهدد القوميين وقتل إلياس لوركا من أجل القوميين، ثم قالوا لماذا قتلت يا إلياس؟ ماذا فعل لك لوركا حتى تقتل لوركا يا إلياس؟ قلت كنت أحافظ على القومية، قلت كنت أناهض الجمهورية الديمقراطية، قالوا أخطأت يا إلياس. القتل جريمة يا إلياس …”.
يتبدى لنا من خلال انتقالنا بين فصول الرواية القصيرة المرقمة بشكل عشوائي، تنقل السارد إلى حكايات مختلفة متصلة ومنفصلة في آنٍ واحد ولكنها تكمل صورة “إلياس” أو تحكي طرفًا من حكايته، نشعر طوال الوقت أن هذه الرواية تكاد تكون لا نهائية، تمتد إلى الأبد وقابلة لأن تحتمل مواضيع شتى وأفكارًا مهما تباعدت متقاربة، لذا؛ لا نمل، إنما نواصل التعرف على جوانب تلك الشخصية الأسطورية، ربما نجد أنفسنا في لحظة ما نشبهها تمامًا.
إلياس يكتب وتشغله فكرة الكتابة:
سأكتب الحدث لأني كاتب قصة، كاتب قصة فاشل لكن كاتب قصة. أكتب للمجلات مقابل مكافأة وبالمكافأة أعيش. بالمكافأة أواجه الجوع. بالمكافأة أواجه الموت من الجوع. لكن لا أكتب من أجل المكافأة، أكتب لأني أقول ما أريد بالكتابة. لا أقول ما أريد بالكلام. الكلام لا يعبّر عني. لساني لا يعبِّر عني، كتابتي تعبّر عني. قصصي تعبّر عني. كتابة القصص تمنح بعدًا آخر، بعدًا وأنا أتحرك في البعد. كتابة القصة تمثل الواقع من وجهة نظر أخرى. الواقع ليس في حاجة إلى الكتابة. الواقع موجود. الواقع مرئي. الواقع في حاجة إلى القراءة. القراءة بتأمل…”.
على هذا النحو الفلسفي يبدو “إلياس” أيضًا، وإن كان غير متيقن إلا أن تأملاته تصل به إلى تلك الأفكار الكبيرة التي يطرحها بشكلها البدائي البسيط، الذي يخرج مكتوبًا وكأنه في لحظة تفكيره فيه، بدون نظام أو ترتيب محكم! تستمر هذه الملاحظات والتأملات وتأخذ حيزًا كبيرًا في الرواية يشكِّل شخصية “إلياس” بأبعادها المختلفة؛ فهو يراقب العالم من حوله ويعتبر الناس فيه كأنما يتحركون في “ثلاجات” يتبادلون من خلالها النظر والشكوى وربما يتبادلون الوحدة أيضًا، ذلك التعبير الرمزي الدال على برود المشاعر مثلًا واللامبالاة، بل وتجمد العلاقات بالآخر.
عندما يعاني من الوحدة؛ يبحث عن الأصدقاء الذين يأتي بهم من عالم افتراضي، هذه المرة من عالم “فيس بوك” مثلًا، رغم وعيه وإدراكه أن “الإلياسات” لايمكن أن تصادق أحدًا لأن “شرط الإلياسية ألا تنتمي إلى أحد، ألا تنتمي إلى جماعة، شرط الإلياسية ألا تفتح الشات. ألا تكتب بوستًا ألا تضيف تعليقًا. أن تشاهد، تشاهد فحسب. تشاهد في صمت”، وهو بتلك الشروط وتلك الصفات يحدد ذلك النمط من الشخصية التي تتجلى “سلبية” تمامًا منسحقة أمام الآخر الذي يأتي غريبًا مرة وشبحًا مرة أخرى، رغم أنها (وأنهم بالتالي) جزء كبير ومجموع هائل قد يشكل تهديدًا لهذا الآخر!
هكذا تظل الرواية تدور حول الشخصية ويدور “إلياس” حول تهويماته وأفكاره واستنتاجاته وأحلامه، ويظل القارئ مأخوذًا بهذا النمط الغريب من الشخصية، وتلك الطريقة الفريدة من السرد الذي لا يقوم على حدثٍ أو أحداثٍ محددة بل يدور فقط حول تلك الشخصية وطريقة مواجهتها لنفسها وللعالم من خلال كتابة تبدو مضطربة لأنها تريد أن تنقل ذلك الواقع المضطرب وتلك الشخصية الهامشية!
وفي ظني، فإن “إلياس” كرواية وحالة ومحاولة في السرد والتجريب لا يمكن عزلها عن تجارب “أحمد عبد اللطيف” السابقة التي استطاع بل وبرع فيها أن يقدم تلك النماذج التي تمزج بين الواقعي والفانتازي لتقدم شخصيات تكاد تكون “أسطورية” في كل مرة لعالم خاص به جدًا قادر من خلاله على جذب قارئه (الذي لازلت أفترض أنه خاص أيضًا)، تلك التجارب التي بدأت بـ “صانع المفاتيح” مرورًا بـ “عالم المندل” و”كتاب النحات”، انتهاءً بالرواية التي بين أيدينا “إلياس”، وهي كلها تجارب تؤكد حرص الكاتب على خلق نمطٍ سردي خاص به ينمو تدريجيًا ويظل قادرًا في كل مرة أن يقدم من خلاله الجديد والمختلف!

رواية "إلياس" لأحمد عبد اللطيف نص تجريبى يتحدى القارئ


أحمد إبراهيم الشريف

 أنا لا أحب ولا أكره إذن أنت "إلياس" بكل رؤيتك وخيالاتك بوضوحك وعتمتك ويأسك وأملك.. فقط عليك أن تملك القدرة على الكتابة وأن تصوغ إحساسك سواء بالضياع أو التحقق فى شكل كتابى يليق بك. رواية إلياس للروائى والمترجم أحمد عبد اللطيف الصادرة عن دار العين تجعلك تتساءل، ما الذى يكمن خلف شخصية إلياس وما الرمز الذى يسعى إلى أن يثبته وما التحدى الذى قصد إليه أحمد عبد اللطيف بهذه الشخصية الممتدة عبر الزمن؟. لا يمكن القول بأن إلياس شخص واحد ولا حتى مجموعة من الشخصيات تكتب معا حكاية طويلة وحكايات متفرقة، إنما المقصود هو الإنسان "المجرد"، الشاهد على كل كوارث الزمن والذى يفقد أجزاء جسده لإحساسه المسبق بالعجز الذى يسيطر على عالمه، ولأنه يدفع ضريبة وجوده فى هذا العالم، كما أنه ممتلئ بالذكريات التى تبدو فى هيئة أرشيف له، وربما "الأرشيف" فكرة تقريبية لما يريد أن يحكيه من وعن الألم، هو يراه أرشيفا لكنه فى الحقيقة سجل معرفى لتاريخه الذى هو تاريخ الوجود البشرى، يحكى ثم يعيد إنتاج حكاياته فى شكل صوت ثان وثالث ورابع غير محددين لكنك تشعر بهم، ربما يشك فيما سيقوله فيعيد صياغة الجملة، لكنها فى شكل قصص قصيرة، وذلك لأن إلياس كاتب قصص قصيرة، لكنه ليس فاشلا كما ادعى، ويعيد تمثيل العالم، لأنه ممثل بارع وليس فاشلا كما ظن، كلما أدى دورا فى فيلم اكتشف أنه يؤدى جزءا من حياته الحقيقية، فالحياة هى الفيلم الذى قام فيه بدور "إلياس". فى لحظة ما فى الرواية ستشعر بأنك أنت إلياس، بأن جزءا منك هو إلياس، أنك أنت هو فى أحد الوجوه التى قدمها، وفى أى زمن يناسبك من الأزمنة التى خاضها مكرها، المهم أنه زمن صالح لارتكاب الآثام وقتل كل الشعراء اللوركيين وقتل كل الغرباء الذين يظهرون فى الحياة وهجر كل الرفيقات شريطة ألا تحب ضمير المفعول، وحسب استعدادك لفقد جزء منك حتى تطهر روحك دائما بهذا الفقد وتستطيع أن تواصل الحياة. أحمد عبد اللطيف كتب نصا "تجريبيا" بامتياز لم يسبقه فى كتابته أحد، نص جديد على الرواية العربية، رفع سقف التجريب فى صالح النص وأسقط تقريبا القارئ من المعادلة، لكن ذلك يطرح قضية كبرى ما المقصود بالقارئ، هل هو الذى يتصفح رواية فى وسائل المواصلات من باب التسلية، وهذا يذهب بنا إلى بيان التحدى الذى قصده أحمد عبد اللطيف فى الرواية، فكثير من الكتاب فى سبيل "البست سيلر" ومغازلة طبقة ما من القراء المحدثين، سعوا إلى التنازل عن سمات مميزة كانت تحيط بنصوصهم منها اللغة المشبعة بالدلالات والصورة المركبة بعض الشيء واختاروا مغازلة قارئ النت والمواصلات العامة بالتبسط فى الكتابة فى اللغة والتراكيب والتقنيات والتكنيك وبالتالى تراجع التجريب تماما وأفسح مكانا للحكاية اللطيفة الممتلئة بالمغريات الحسية واللغوية السهلة والتركيبات الجاهزة القادمة من مواقع التواصل الاجتماعى، فى ظل هذا الطوفان، فعل أحمد عبد اللطيف عكس هذا الاتجاه، فقد كتب رواية فى اتجاه القارئ النخبوى الذى يملك رؤية للعالم عادة ما تكون مأزومة ويبحث عن دليل فيما يكتبه الآخرون، لذا ستقدم الرواية له وجهة نظر فى هذا العالم الذى يأكل نفسه، فالقارئ الجاد مع إلياس يفكران فى خطة بديلة للمشاركة فى فهم تفسير ظواهر العالم المغلقة التى ربما تعود بهما للعلة الأولى للأشياء، إذن إلياس ليس مجرد شخصية روائية، إنما هو أنت، فقط راجع تصرفاته وأفكاره وخوفه وأمله ورعبه ومحنته وأفراحه القليلة ستجد أنه أنت بصورة ما، ولو لم تجد نفسك فى الرواية لن تستطيع أن تكمل هذه الرواية التى تمتحنك وتعكس مدى قدرتك على القراءة، هى ليست رواية صعبة لكنها حقيقية وهذا هو الفارق، وليست رواية "متاهة" لا تعرف لها أول من آخر لكنها تقيس مفاهيمك عن الكتابة والإبداع. فى الرواية لا يهم الزمن، إنها تنويعات على وجيعة واحدة بأشكال مختلفة، ربما تفاجأ بتحديد الزمن فى نهاية الفصول المسلسلة وهو ترتيب لا يملك منطقا يقفز للمستقبل أو يعود للماضى، ليست هذه عشوائية أو عملية إرباكية للقارئ، هى فقط ما تتذكره الذات الإلياسية التى توهمنا أنها تقرأ ما يتراءى لها من الأرشيف، الذى يملأ عليها حياتها، حتى وفاته يتخيلها أمامه لكنها تأتى بلا تاريخ محدد على شاهد قبره. إلياس هو سيزيف يحمل أفكاره ومخاوفه طوال الوقت كى ينتحر تقريبا فى نهاية كل فكرة ثم يعود مرة أخرى للحياة كى يعذب بالأفكار والتواريخ. وحال قراءتى للرواية كان لدى إحساس بأن الكاتب يعرف أكثر من اللازم لكنه لم يشأ أن يؤلمنا أكثر، هو فقط طلب منا نحن الإلياسات أن نضع صورنا على صفحاتنا على الفيس بوك، حتى لو اكتشفنا أنها صورة واحدة لنا جميعا، وطلب منا أيضا أن ننهى القطيعة مع ذواتنا وأن نضع مرآه صغيرة فى غرفنا المغلقة. إذن يكمن جمال هذه الرواية فى أن أحمد عبد اللطيف لا يكتب وحده هذه الرواية فهناك إلياس، إلياسان، إلياسات كثيرون يكتبون هذا النص، هناك "نحن" العالم الممتلئ بالإلياسات الذين يعيشون جميعا فى ثلاجات طوال الوقت، وهم مستعدون لقراءة سيرتهم الذاتية التى كتبها أحمد عبد اللطيف فى هذا النص المبدع.


جريدة اليوم السابع

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...