الثلاثاء، أغسطس 28، 2012

مقال: ملائكية يهوذا



ملائكية يهوذا
                                  
                                                                أحمد عبد اللطيف

      في قصة صلب المسيح الشهيرة، ربما لا يتذكر أحد، ولا يذكر حتى في الحوارات العابرة، أن يهوذا الأسخريوطي رد الأموال إلى اليهود وندم ندم التائب عقب صلب المسيح.  لقد أدرك الرجل بعد فوات الأوان أنه ما من شيء يُسكّن ألم الضمير مثل المغفرة، فتخلى عن كل شيء لينالها.
     تطرح القصة القديمة سؤالاً أبدياً حول التسامح، عودة يهوذا بقلب مكسور في مقابل إعراض القوم عنه. كما تطرح الأخطاء البشرية التي لا يمكن التسامح فيها، حيث يصير حينها خطيئة أخرى. ماذا لو رحبوا بتوبة يهوذا وأخبروه، على جهل بقيمة التسامح، أن الله يغفر الذنوب جميعاً؟ وماذا لو طوت كتب التاريخ هذه الصفحة مع الاكتفاء بالإشارة إلى أن بشراً قد أخطأ وتاب فحسب؟
     ربما يستطيع أكثر الناس تسامحاً أن ينظر في العلاقات الإنسانية الفردية بعين الرحمة، ففردية العلاقات تخلق هذه المساحة من الخطأ والعفو. غير أن الخطايا الكبرى، التي تطعن العدل في مقتل، ليست فردية في معظم أحوالها. لذلك، فالذين يعرفون قيمة العدل، بنفس القدر الذي يعرفون به التسامح، يثير فيهم العفو الرئاسي عن الإرهابيين كثيراً من الأسئلة، فكيف ينال الحياة من يفرض الموت على الآخرين؟ وكيف لا ننزلهم منزلة يهوذا، الذي اكتفى بالوشاية فناله ما ناله؟ إلا إذا كان الجواب بأن هذا هو الإسلام كما يرونه، فيضاف ذلك إلى "تحقيق العدالة الاجتماعية بالحب"، و"عدم المساس بالذات الإلهية" في دستور يدافع عن حقوق المواطن.
     السؤال المحير الآن: هل وجود رئيس إخواني سيمنع وقوع حوادث إرهابية؟ ولو وقعت، هل سيُقبض عليهم ليمتثلوا أمام القضاء ومن ثم دخول السجون؟ الإجابة على السؤال الأول بالإيجاب سيضع الإخوان في مأزق، لأنه يعني أنهم شركاء للقتلة أو متواطئون، وهو ما يتنافى مع سلميتهم التي يدعونها. وفي حالة الإجابة بالنفي سنستخدم علامة التعجب أمام الإفراج عن إرهابيين من الممكن ان يعودوا للترهيب، إفراج سيشجع جماعات أخرى على القتل باعتباره مباحاً، ولن يتم معاقبتهم بالطبع أسوة بزملائهم.
     حكاية يهوذا الأسخريوطي، أشهر وأهم الحكايات التي أسست لقيمة العدل والتسامح، احتفظت لنفسها بالخلود. المفارقة هنا أن البشرية صنعت من الواشي أيقونة للشر والغدر لأنه تسبّب في قتل فرد، على أهميته ونقائه يبقى فرداً، في حين يطالبنا الرئيس الإخواني أن نعفو ونصفح عمن قتلوا أفراداً أيضاً أبرياء، لنمحي بذلك صفحة خزي من التاريخ، متناسياً أن القتلى لم يرتكبوا خطئاً سوى أنهم دفعوا فاتورة ثقتهم في أن الأعزل لا يضار دون أن يدركوا أن يد الإرهاب لا تطال إلا العُزّل.
     أخيراً، فإن التاريخ أثبت أن موت يهوذا لا يعني اختفاؤه للابد، بل يعني تكاثره ذاتياً ليغرق العالم بيهوذات جدد، غير أنهم، وهذا هو الجديد، لا يندمون، بل ويكرّمون في آخر المطاف. وبوضع صورة بجوار أخرى، نلتفت لملائكية يهوذا.    


منشور بجريدة اخبار الأدب 
      

د. جابر عصفور يكتب عن عالم المندل


كاتـب شـاب يعـد بالكثيـر
بقلم: جابر عصفور
جابر عصفور
762
عدد القراءات


أحمد عبد اللطيف كاتب واعد في عالم الرواية‏,‏ حصلت روايته الأولي صانع المفاتيح علي جائزة الدولة التشجيعية في الرواية لهذا العام‏.‏ وقد صدرت روايته الثانية عالم المندل
 منذ أشهر معدودة عن دارالعين التي نشرت روايته الأولي التي أصبح لها حضورها اللافت بما نشرته من روايات متميزة.
وقد جذبت رواية عالم المندل اهتمامي النقدي وأثارت إعجابي بها, بالقياس إلي رواية أحمد الأولي التي تنطوي علي بعض مزالق البداية, فنيا, رغم عمق منظورها الفلسفي, والجاذبية الخاصة لرمزيتها الكثيفة, وتعدد أبعاد الدلالات الكنائية لشخصياتها وأحداثها في آن. أما رواية عالم المندل فقد جاء مجالها الزمني وطبيعتها السردية أكثر تحديدا, ومن ثم استطاع أحمد السيطرة علي موضوعها من ناحية, والبراعة في تصوير الشخصية الوحيدة التي تنبني عليها روايته القصيرة التي تتميز بتدفقها الذي جعلني أقرأها في جلسة واحدة من ناحية أخري. وتبدأ الأبعاد الرمزية في الرواية في التكشف من عنوان عالم المندل الذي هو دال يقودنا مدلوله إلي دلالات فوق واقعية, تشير أولاها وأهمها إلي عالم السحر الشعبي الذي يوهم المتأثر به أنه يري ما لا يري في الواقع الفعلي, ويسمع ما لا أصل له في الحقيقة, فالمندل هو عملية من عمليات السحر الشعبي التي أظن أنها في طريقها إلي الاندثار, إن لم تكن قد اندثرت بالفعل. ويلجأ فيها بعض أبناء الطوائف الشعبية الفقيرة إلي بعض من يدعون المعرفة بالسحر في حالات السرقة, كي يعرفوا من سرقهم, وكيف وأين ذهب بالمسروقات, فيقوم مدعي معرفة أسرار السحر الشعبي بالاستعانة بصبي أو فتاة لم يصلا إلي سن البلوغ, ويضع فنجانا علي الكف المفتوحة للصبي أو الصبية, وفي الفنجان سائل يشبه الزيت, وهو موضوع علي ورقة بها تعويذات سحرية, وعلي جبهة الفتي أو الفتاة تعويذات مشابهة في ورقة. ويطلب الساحر من الفتي أو الفتاة تركيز نظرهما علي سطح السائل داخل الفنجان. وبعد تعويذات معينة, وعمليات إيحاء نفسية, يتخيل الفتي أو الفتاة رؤية مشاهد تحدث وتتعاقب علي سطح الزيت الموجود في الفنجان وذلك تحت تأثير الوهم والإيحاء اللذين يدفعان الطفل البريء أو الطفلة إلي توهم مشاهدة وقائع وشخصيات متخيلة في حقيقة الأمر. ولقد مررت شخصيا, بهذه التجربة في صباي البعيد في مدينة المحلة الكبري. ويبدو أن أحمد عبد اللطيف مر بهذه التجربة أو شهدها أو سمع بها في أحد الأحياء الشعبية في مدينته الإسكندرية, فتوقف عند دلالة المندل وعندما ننتقل من الدلالة الحقيقية لعنوان الرواية إلي دلالاتها المجازية, في سياق القراءة, فإننا ننتقل من عالم الواقع إلي عالم الوهم الذي ينطلق فيه اللاشعور, متحررا من كل شيء, فتبدو الرواية كلها بمثابة حلم من أحلام اليقظة الغسقية, إذا جاز استخدام هذا التعبير, وندخل إلي العوالم الشعورية واللاشعورية لبطلة الرواية التي هي شخصية غير سوية, أفقدها توازنها النفسي القمع المتعدد الأبعاد, والمتواصل عبر تاريخها العائلي الخاص والاجتماعي العام, فهي جمع بصيغة المفرد للأنثي المقهورة في بعد من أبعادها الرمزية, إن تاريخها العائلي يبدأ بقمع الأم التي تملأ خيال ابنتها بصور الرعب من العالم في حكايات مرعبة لم تتوقف ويوازي ذلك وجه أنثوي لا يتميز بالجمال, بل يفتقده افتقاد الصحراء الماء. ويزيد علي ذلك عقدة إلكترا التي انغرست منذ الطفولة في علاقتها بالأب الذي اختطفته منها الأم التي أوهمتها بأنها تعيش بالفعل في عالم من القتلة والسفاحين وآكلي لحوم البشر. وأضيف إلي ذلك ما يتسرب إلي لاوعي البطلة من اضطهاد ذكوري, وتمييز ضد الأنثي لا يتوقف قمعه إلي الدرجة التي تدفع لا وعي المقموع بالتعويض عن ذلك باستعادة أهم ملامح الذكورة في الذكر القامع.
هكذا تبدأ رواية عالم المندل وتنتهي في أفقها الرمزي, يحركها مبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع. والزمان الروائي الذي ينبسط السرد ما بين أوله وآخره لا يزيد علي أربع وعشرين ساعة, والبطلة التي تستعيد تاريخها المقموع تطلق العنان لتمردها الداخلي في تيار متدفق من اللاشعور الذي يتفجر بمبدأ الرغبة, فلا يبقي علي شيء في الماضي إلا ودفعه إلي سطح الوعي الكتابي. وما دمنا في رواية تعتمد علي تيار الوعي, فمن المنطقي أن يتحرك الزمن الروائي حركات بندولية ترد الماضي علي الحاضر, وترد الحاضر علي الماضي في حركة سياق الزمن, كاشفة عن حزمة الأسباب التي جعلت هذه البطلة علي ما هي عليه, ولا بأس لو رأينا ما يدعو إلي تذكر الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية, فكاتب الرواية متخصص في الأدب الإسباني, وترجم عنه ما يشمل أربع روايات لخوسيه ساراماجو, فضلا عن ماركيز, وكلاهما حاصل علي جائزة نوبل. ولا شك أن اطلاعه علي العوالم بالغة الغني للرواية والقصة القصيرة في أدب أمريكا اللاتينية قد دفعه إلي معرفة أسرار عالم الرموز ودهاليز القص في عوالم التحول لبورخيس. أو عوالم الوهم لساراماجو, أو عوالم التبدلات في كتابات ماركيز وعوالمه المخايلة. وقد تركت هذه الثقافة آثارها الخفية في تلافيف عالم المندل وصانع المفاتيح وأكسبت أحمد عبد اللطيف الروائي جسارة إنطاق المسكوت عنه من اللاوعي الأنثوي المقموع,.
ويتوازي تيار الشعور المتدفق, لغة, مع موجات اللاشعور علوا وانخفاضا, فنقترب من اللغة الشعرية أحيانا علوا, ونهبط إلي أدني درجات العامية مفردات وكتابة في آن. وكما يحدث في كل رواية من روايات تيار الوعي, يمضي التيار في تدفقه, متصاعدا كالموسيقي التي لابد أن تصل إلي الذروة( الكريشندو) التي يكون بعدها الصمت أو نقطة الختام. هكذا تصعد تداعيات البطلة المقموعة, حضورا ووعيا, إلي أن تشارف الذروة, فتخرج البطلة إلي شرفة غرفتها, مسلمة نفسها تماما إلي عالم وهمي, يحملها بجناحيه, مبتسمة ابتسامة امرأة أمسكت أخيرا بزمام حياتها, فتتوهم أنها قادرة علي الطيران. وبالفعل تندفع من الشرفة إلي الهواء, فترتطم بالأرض, ولا تشعر في ذروة توهمها بتحطم أضلعها. فقد ذاقت لحظة السعادة التي منحها لها الطيران, وكان آخر ما رأته جوادها الأسود يبتسم لها أخيرا, فترسل له قبلة. ويتوقف تدفق تيار الوعي مع نقطة الختام في هذه الرواية التي لابد من تهنئة كاتبها الذي يعد بالكثير في عالم الرواية الذي ينوس, فعلا, بين عالم المندل وعالم الواقع, حيث لابد من إقامة توازن رهيف, يسمح بالتداخل بين العالمين, واستبدال أحدهما بالآخر.

منشور بجريدة الأهرام، الاثنين 27 أغسطس 2012

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...