السبت، يوليو 30، 2011

قصة: جيم ...روبيرتو بولانيو



قصة: جيم

روبيرتو بولانيو

نرجمة: أحمد عبد اللطيف
جيم

     منذ سنوات طويلة كان لي صديق يُسمى جيم ومنذ ذلك الحين لم أر أبداً أمريكياً شمالياً أكثر حزناً منه. رأيت يائسين كثيرين. لكن حزناء، مثل جيم، أبداً. ذات مرة رحل إلى بيرو، في رحلة كان يجب أن تستمر أكثر من ستة أشهر، لكنني بعد فترة قليلة رأيته من جديد. فيما يكمن الشعر يا جيم؟ كان أطفال المكسيك الشحاذين يسألونه. كان جيم يستمع إليهم ناظراً إلى السحب وبعدها يشرع في التقيؤ. اللغة، البلاغة، البحث عن الحقيقة. عيد الغطاس. مثلما تشبه العذراء. في أمريكا الوسطى اعتدوا عليه عدة مرات، وهو ما كان غريباً بالنسبة لرجل من المارينز ومحارب قديم في فيتنام. كفى مشاجرات، كان يقول جيم. أنا الآن شاعر وأبحث عما هو غريب لأقوله بكلمات شائعة وعادية. هل تعتقد أن هناك كلمات شائعة وعادية؟ نعم أنا أعتقد، كان يقول جيم. كانت زوجته شاعرة تشيكية تهدده، كل فترة، بأنها ستهجره. أراني صورة لها. لم تكن جميلة بشكل خاص. كان وجهها يعبر عن معاناة وتحت المعاناة كان الغضب يطل. تخيلتها في شقة سان فرنثيسكو أو في بيت لوس أنجيليس، بنوافذ مغلقة وستائر مفتوحة، جالسة على المائدة، تأكل قطع خبز من رغيف وطبق شوربة خضراء. وحسبما رأيت كان جيم يحب النساء السمراوات، نساء التاريخ السريات، كان يقول ذلك دون أن يشرحه بفضفضة. أنا على العكس كنت أحب البيضاوات. ذات مرة رأيته يتأمل الحاوي بشوارع D.F. رأيته من ظهره ولم أسلم عليه، لكنه كان جيم بكل وضوح. الشعر سيئ الحلق، القميص الأبيض والوسخ، الظهر المحني كما لو يشعر بثقل حقيبته. الرقبة الحمراء، رقبة تستحضر، بطريقة ما، صورة الإعدام غير القانوني في الحقل، حقل بالأبيض والأسود، بلا إعلانات ولا إضاءات محطات البنزين، حقل كما يكون أو كما يجب أن يكون الحقل: بواد بلا أمل في الاستمرار، غرف من الحجارة أو مدرعة بما هربنا منه وينتظر عودتنا. كان جيم يضع يديه في جيبيه. وكان الحاوي يهز شعلته ويضحك بشكل عنيف. وجهه المسوّد كان يقول إن عمره قد يكون الخامسة والثلاثين أو الخامسة عشرة. كان بلا قميص وبجرح رأسي من صرته حتى صدره. في كل فترة محددة كان يملأ فمه بسائل قابل للاشتعال وبعدها يبصق ثعباناً طويلاً من النار. كان الناس يشاهدونه، مقدرين فنه ويواصلون طريقهم، ماعدا جيم، الذي استمر على حافة الرصيف، ساكناً، كما لو أنه ينتظر شيئاً أكثر من الحاوي، علامة عاشرة بعد أن فك شفرة التاسعة الصارمة أو كما لو في الوجه البذيء اكتشف وجه صديق قديم أو وجه أحد قد قتله من قبل. وخلال فترة طويلة نظرت إليه، وكنت حينها في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة وكنت أعتقد أنه أبدي. لو كنت أعرف أنه ليس كذلك لأعطيته ظهري ولابتعدت عن هناك.  بعد فترة تعبت من النظر لظهر جيم ولتجهمات الحاوي. الحقيقة أنني اقتربت وناديت عليه. بدا أن جيم لم يسمعني. عندما التفت لاحظت أن وجهه مبللاً بالعرق. كان يبدو محموماً ويصعب عليه التعرف عليّ: حياني بحركة رأس وبعدها واصل النظر للحاوي. عندما  اقتربت منه رأيته يبكي. أغلب الظن أيضاً أنه كان محموماً. هكذا اكتشفت، بدهشة أقل من الدهشة التي أكتب بها، أن الحاوي كان يعمل من أجله حصرياً، كما لو أن كل المشاهدين الآخرين بناصية D.F هذه غير موجودين. كانت الشعلات، أحياناً، توشك على الانطفاء على بعد أقل من متر منّا. ماذا تريد، قلت له، أن يحرقوك في الشارع؟ كانت مزحة حمقاء، نُطقت بلا تفكير، لكن عرفت فجأة أن هذا بالتحديد ما كان يأمله جيم. مارس الحب، مسحوراً\ مارس الحب، مسحوراً، أعتقد أنني أتذكر أنها عبارة في أغنية كانت موضة هذا العام في بعض البؤر المرحة. وكان يبدو أن جيم يمارس الحب مسحوراً. استحوذ عليه ساحر المكسيك والآن أنظر مباشرة إلى وجه أشباحه. هيا من هنا، قلت له. سألته أيضاً إن كان تناول مخدراً، إن كان يشعر بالتعب. قال لا بإيماءة من رأسه. كان الحاوي ينظر لنا. بعدها، اقترب منا بخدين منتفخين، مثل إيولو، إله الريح. عرفت، في جزء من الثانية، أن ما سيقع علينا ليس بالتحديد ريح. هيا، قلت، وفجأة نزعته من حافة الرصيف الخطيرة. تهنا في الشارع النازل في طريق الاصلاحية، وبعد برهة افترقنا. جيم لم يفتح فمه طوال الوقت. ولم أره مرة أخرى أبداً.



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...