السبت، فبراير 26، 2011

جمعة الرحيل وسبت النور






أي سحر هذا الذي تمتلكه الثورات فتجعلنا نعيد تشكيل أنفسنا لنصبح، بين ليلة وضحاها، آخرين.

***

     لم يكن الأمر، ظاهرياً، سوى مواجهة قنابل مسيّلة للدموع ورصاص مطاطي وربما رصاص حي، جري وهروب وعودة لملاقاة موت محتمل أو جرح مستديم. لكن بالداخل، أشياء كانت تتكوّن وأشياء أخرى تذوب، حد أن أكثر البنايات صلابة، تلك المتجذرة بتعصب في أعمق أعماق النفس، كانت تتهدم. مع مرور أيام الثورة وتزايد الهتافات، تصلبتُ،  وفي كل مرة كنت أردد فيها: الشعب..يريد..إسقاط النظام، كنت أشعر، دون أدنى مبالغة، ودون أي بلاغة لتزيين جملتي، أنني أُسقِِط أشياءً أخرى كان يجب أن تسقط منذ زمن، وأدوس فوق مقدسات بالية ما كان لها أن تصير كذلك لولا ضعفي. هناك، في الميدان، عثرتُ على صفة كان يجب أن تصاحب برجي منذ الميلاد، لكنها خالفتني. يقولون إن أبناء برج الحمل محاربون، ما من أحد باع كل قضاياه مثلي لتصير قضيتي الكبرى تثبيت الكاميرا على مشهد النزف الأخير. هناك، كنت أتصور، رغم كل قناعتي بالثورة والنصر، أن خلع مبارك معجزة، في زمن لا تتحقق فيه المعجزات إلا بأيد إنسانية. لكن خلعه صار واجباً، عدم أدائه بات لعنة تطاردني في كل الأمكنة. فلأكن أكثر صدقاً: في لحظة ما، تشكّلت أمام عينيّ صورة الطاغية بصحبة كل هزائمي، فلم أجد سبيلاً إلا إسقاطها.

***
اليد التي تدمي لا يمكن أن تكون اليد التي تضمد
***
       
     في اليوم الذي أعلن فيه الرئيس السابق عن حل الحكومة وتشكيل أخرى جديدة واعداً بالإصلاح، تذكرتُ حبيبة قديمة كان يجب أن ترحل من زمن، لكنها بقت تحت مظلة الندم والتضميد. تلقائياً، وجدتني أضع صورتها في اللحظة التي كان يجب أن تكون الأخيرة، بجانب صورة مستبد يعد بالديمقراطية. قررتُ حينها أن كليهما يجب أن يرحل. كنت أنتظر انتصاراً خارجياً يدعمني داخلياً. حتى أنني يوم الخميس، عندما أعلنت كل وسائل الإعلام بشكل شبه مؤكد عن تنحيه، وجدتني شجاعاً فوق العادة لأخرج كل هداياها من مخبأها وأعدها للتمزيق.

     لم يحدث ما انتظرته، جاء خطابه فارغاً تماماً. كانت نيته أن يستمر ويعاقب المجرمين، مثل نيتها أن تستمر وتعاقب الواشين. وبمجرد انتهاء خطبته، وجدتني على وشك البكاء. تذكرت في لحظتها كل انكسارات حياتي، وكأن هذا الرجل يأبى أن يهبني سعادة الحرية. فعلت كل ما يمكن حتى أبعد عن ذهني صورة شنطة الهدايا المعدة للتمزيق، وصورة المستبد الذي نهض من كرسيه دون أن يخطو للغياب بعد.

     مع بيان الرحيل، الذي جاء في كلمات موجزة سريعة الإيقاع تناسب تماماً روح الثوار، غابت عني كل الأفكار السلبية، ونسيتُ، في لحظات، صورة الطاغية وشنطة الهدايا. شعرت أنني أولد من جديد، وأن صباح اليوم التالي أول الصباحات المشرقة.

***
     في القبور موتى أحياء، وفي الشوارع موتى صاروا أحياءً
***

     في الصباح الأول لرحيل مبارك، جرتني قدماي لزيارة قبر أبي. لم أفعل طيلة حياتي ما يبهجه، فحملتُ فرحة النصر إليه، كذلك دموعه. كانت المقابر هادئة جداً، رغم ذلك شعرت بنبض في قبره، وكأن أبي استعاد الحياة مجدداً. عانقني، وسمعتُ صوته يملأ أذني: صوتاً جهوراً كصوت المبعوثين من الموت بكل طاقة الأمل في الحياة.

     قابلت حارس المقابر في خروجي، هنأني بكل طيبة برحيل مبارك، فضغطت على يده بحب بينما أشعر بأبي يقف خلفي. في الشارع، في كل الشوارع التي مررت بها، رأيت وجوهاً مبتسمة، كأن الحياة عادت إليهم أيضاً. بعض المواقف التي حدثت لي أشعرتني أن الثورة لم تغيرنا فقط سياسياً، بل أخلاقياً وبقوة ملحوظة. فكرتُ أن تكسير الصنم الأكبر حررنا داخلياً أيضاً من مخاوفنا. هكذا، في اليوم الأول لرحيل مبارك، بدانا نسترد إنسانيتنا المفقودة، وبدأت أشعر عن حق أن كل الهزائم الماضية رحلت بلا رجعة، وعدنا أحياءً. إنه سبت النور. 


                                           أحمد عبد اللطيف
                                        نُشر بجريدة أخبار الأدب 

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...