الاثنين، يونيو 30، 2008

أعمي ومبصر

أعمي ومبصر.. هكذا يجب أن يكون الكاتب أحمد عبد اللطيف
" بداية من سن معينة تركب الاوتوبيس ، تسمع كلمة ما ، مثل : بطانية ، وفي الحال تعرض ذاكرتك صفا من البطاطين التي مرت بحياتك . قد تتذكٌر البطاطين الاولي التي كنت تستخدمها في جلب الدفء اكثر منها في تزيين السرير ، احدي هذه البطاطين كانت ذات ملمس شبيه ببطانية اخر فندق نزلت فيه وكانت ذات ملمس خشن ، كما لو كانت من القطيفة الخشنة و الغليظة . ربما تقاوم الوسواس الذي يدفعك لتلعق بلسانك سطحها لتستعيد طعم الارق الطفولي ، والخوف . كما قد تسمع كلمة ¢ ساعة ¢ وحينها ستتذكر بلا شك تلك الساعة ذات الرقاص التي تدق كل ربع ساعة في بيت جديك . وربما تكون جالسا في ركن ما من مطعم ، وينطق احد بجانبك كلمة ¢ ممر ¢ حينئذ ، وبدون حاجة لتغمض عينيك ، تظهر امامك ممرات حياتك . هذا الممر الذي كانت تنزلق فيه دقات الساعة ذات الرقاص، بينما أنت داخل غرفتك تغطي راسك ببطانية حتي لا تسمع تك تاك الرقاص الذي يدق كل ربع ساعة . وقد يكون هذا الممر هو الممر الذي فيه بداية من ساعة بعينها وقت الظهيرة يبدأ التكدس الكثيف للاشباح . وقد يكون ايضا هذا الممر الذي دائما ما تتوه بداخله وربما لا تخرج منه ابدا . وان فكرت في هذا الكوب الذي تقربه الان لفمك ، قد تتذكر كوبا من الالومينيا ، له حافة باردة تشبه شفتي الجثة ، تلك الحافة التي تصدر كهرباء . بداية من سن معينة ، تصير الكلمات مثل لوحة المفاتيح بالكمبيوتر ، تنطقها بطرف لسانك ، او تضغط عليها باناملك ، سواء بسواء ، فيظهر علي الشاشة دليل البطاطين و الساعات و الممرات و الاكواب ، التي هي اجزاء منثورة من سيرتك الذاتية . وعندما تختلط كل هذه الادلة تحت شفرة الزهايمر المنظمة ، تكون جاهزا" .
هذا هو آخر ¢ مقال أقصوصة ¢ كتبه مياس ، وبهذا الاسلوب ايضا كتب روايته الجديدة ¢ دنيا ¢ التي فازت بجائزة بلانيتا العام 2007 ، والتي صنفت علي انها رواية ذاتية ، تناول فيها كاتب ¢لاورا وخوليو ¢ جزءا هاما من سيرته الذاتية في طفولته وصباه . وبهذه الجائزة يكون مياس قد حاز علي ثلاث جوائز ادبية : الأولي جائزة سيسامو في الرواية القصيرة عن عمل ¢ العقل هو الظل ¢ ، والثانية جائزة ناضال في الرواية عن عمل ¢ كانت هذه هي العزلة ¢ .
اختار مياس ليتقدم لهذه الجائزة اسما مستعارا له ¢ تيريسياس ¢ واسما مستعارا للرواية ¢ بلا تبصر ¢ وشرح اختيار العنوان المستعار للرواية قائلا ¢ مبصر واعمي ، هكذا يكون الكاتب ، لكي يري يجب ان يكتب بلا تبصر ¢ واعترف مياس ، في قصر المؤتمرات بكتالونيا ، ان جانبا ثريا من سيرته الذاتية نسج الخيط الروائي للعمل ، حيث قدم طفولة وصبي البطل الذي ترك دنيته المليئة باشيائه لينتقل مع عائلته، وهو في السادسة ، ليقيم في مدريد ، " إن ابحرنا في حياة كل كاتب سنجد شيئا مكسورا ، ونحن نكتب لنصلح هذا الشيء ، وانا اعلم ان حياتي قبل السادسة وبعدها مختلفة ، فلم تكن طفولتي سعيدة ". تبدأ " دنيا" بالقاء الضوء علي هذا الصبي الذي ولد في بالينثيا وانتقل لمدريد مع عائلته ، فانكسر شيء ما بداخله سنة 1952 . ¢ الطفولة ارض غير منظورة ان لم يحدث بها شرخ ، كما حدث معي ، تركنا بالينثيا ، المدينة المضيئة المطلة علي البحر الذي كنا نتنزه حوله ، لنطأ ارضا صارت هي العدم ، في رحلة فظيعة في قطار بكراس خشبية بصحبة البرد و الجوع . لكن بفضل هذا العدم المدريدي شعرت ان بالينثيا الارض الاسطورية ، استعارة للاشياء الاخري التي كسرت بداخلي والتي فتحت لي طريقا لاكون كاتبا ¢ .هناك عاش طفولة تعيسة ، حيث تغيرت ظروفهم الاقتصادية للاسوأ ، مما اثر في طباع والديه . كان الابن الرابع في عنقود طويل من الاولاد يصل عددهم لتسعة . ¢ كل هذا شيد امامي جيشا عدوا ، وكان يجب ان ادافع عن نفسي ، فدافع الطفل عن نفسه بالخيال ، افضل وسيلة للهروب من الواقع . ¢ ومن هنا جاءت نظرته الخاصة للدنيا والتي ميزت اسلوبه الادبي و الحياتي . ¢ ذات يوم اقترحوا علي ان اكون ظلا لنفسي . فنفذت ما اقترحوه . لم يكن من الصعب ان اسير ورائي ، فانا دائما أتأمل حياتي علي أنها خيال . لا اعرف كيف ولا لماذا انتهي بي المطاف داخل فندق . جالسا علي السرير سألت نفسي : ما اهم لحظة في حياتي . حينها بزغت في ذهني عبارة : كان ابي صاحب ورشة للاجهزة الطبية . فتذكرت في هذه اللحظة الطفولة و الورشة ¢ . بهذه العبارة بدأ مياس روايته .منذ فترة بدأ مياس يكتب نصوصا تروي سيرته الذاتية . ولكن ما الذي انكسر في مياس البالغ؟ . ¢ منذ سنوات اصلح من نفسي ، اشعر انني مخلوق من مواد منثورة ، كما الموتوسيكل المفكك الذي تباع قطع غياره . وانا سعيد بالنتيجة ، لأنه تشييد شخصي ، واغلب الناس يفعلون ذلك . ¢ ويعترف مياس ¢ اشعر ، وهذه الرواية توضح ذلك ، انني كنت ممزقا ، تنقصني قطع ، في حاجة لاجهزة نفسيه تعينني ، فساعدت الكتب الكثيرة و التفكير ان تعمل اجهزتي النفسية كغسالة المانية .¢ المراهقة و الذكريات المتلاحقة ومرور الزمن ، عناصر لا غني عنها في العمل المياسي ، وهو ما نلاحظه بشدة في اخر مقال اقصوصة ، وكذلك في روايته الجديدة ، كما نلاحظ بالتساوي التفاصيل الدقيقة والرسم الواضح لشخصيات رواياته ، كما في" لاورا وخوليو" و"كانت هذه هي العزلة "، والربط بين الخيال والواقع واذابة الخيوط بينهما في كل اعماله . ولا شك ان الذكري تعد عطفة في موضوع الهوية والقرين التي حددت اهم نجاحاته الادبية ، التي بدأت سنة 72 بعد ان ترك دراسة الفلسفة و الاداب وقدم روايته الاولي ¢ العقل هو الظل ¢ والتي نالت جائزة ادبية وثناء نقديا ولم تحقق مبيعات عالية ( لاورا وخوليو حققت 61 الف نسخة في الشهر الاول ) . وجاءت رواياته بالتوالي ¢ رؤية الغريق ¢ ¢ الحديقة الخالية ¢ . وجاء تقدم مياس مع ¢ حرف ميت ¢ ، لكن شهرته الواسعة ولدت مع ¢ كانت هذه هي العزلة ¢ التي نالت جائزة رفيعة ومبيعات عالية وثناء ادبيا وترجمت للعربية، حيث بدأ بها مياس التفتيش في ضمائر شخصياته وانحرف في خط روائي جديد . بعدها ترك عمله بشركة الطيران الاسبانية ( ايبريا ) وتفرغ للكتابة الادبية و الصحفية فظهرت ¢ الترتيب الابجدي ¢ ¢ لا تنظر تحت السرير ¢ ¢ امرأتان في براجا ¢ والتي نالت جائزة الربيع 2004 ، ثم لاورا وخوليو 2006 والتي حققت نجاحا توقعه العامة و النقاد من مياس وترجمت ل15 لغة منها العربية وظهرت في شرق وغرب بقطاع الثقافة بالاخبار.
مقال منشور بأخبار الأدب.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...