الخميس، يونيو 12، 2008

مذكرات ايزابيل الليندي

07/10/2007 أخبار الأدب
شرق وغرب
فصول من مذكرات ايزابيل الليندي: " حصاد الأيام "
ترجمة : أحمد عبد اللطيف
" حصاد الأيام " عنوان اختارته إيزابيل الليندي لمذكراتها التي صدرت منذ أيام. والمذكرات هي استكمال لكتابها " رسائل إلي باولا " ، وفيها تروي لابنتها التي رحلت ما حدث لها ولعائلتها من محن في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، منذ وفاتها، وتعترف الليندي ان هذه المذكرات تعد كتابة علاجية ، لأنها سمحت لنفسها بتأمل الأحداث بدقة في السنوات الأخيرة، لكنها ليس تعويذة، فهو كتاب يمجد المغامرة في الحياة.
هنا ترجمة لثلاثة فصول من المذكرات.
كل حياة، حلقة في مسلسل
قضيت عام 1993 شبه محبوسة متفرغة للكتابة، بين الدموع و الذكريات يا باولا، لكنني لم أستطع أن أتجنب جولة طويلة بعدة مدن أمريكية من اجل كتابي خطة لانهائية ، وهي رواية مستوحاة من حياة ويلي، انتهيت من نشرها باللغة الانجليزية لكنني كنت قد كتبتها قبل ذلك بسنتين والآن أصبحت موجودة بعدة لغات اوروبية. لقد سرقت عنوانها من والد ويلي، الذي يدين بدين رحال يسميه خطة لانهائية . وأرسل ويلي، زوجي، هذه الرواية كهدية لأصدقائه، وأظن انه هو من اشتري الطبعة الأولي كاملة. وكان فخورا جدا لدرجة أجبرتني ان أذكره أنها ليست سيرته الذاتية، وإنما خيال. حياتي رواية ، أجابني. كل حياة يمكن أن تروي كرواية، فكل منا بطل اسطورته الخاصة. في هذه اللحظة، عند كتابة هذه الصفحات، تراودني الشكوك. هل تتابعت الأحداث كما يحدث عندما أتذكرها وأرويها ؟. بالرغم من مراسلتي الاساسية مع امي، التي نحتفظ فيها يوما وراء يوم بالصدق سواء في حكاية الاحداث التافهة او الهامة، الا ان هذه الصفحات تعبر عن مشاعري. أخبرني ويلي أن الرواية كانت خريطة لمسيرة حياته وأضاف أنه من المؤسف ان الممثل باول نيومان أكبر في السن من دور البطل لو جعلوا من الرواية فيلما. ألم تلحظي أن باول نيومان يشبهني ، جعلني أري بتواضعه المألوف. لم أنتبه لهذا من قبل، فأنا لم أعرف ويلي شابا، عندما كانا توءمين. تم نشر الرواية باللغة الانجليزية في لحظة سيئة بالنسبة لي، فلم أكن أرغب في رؤية احد وكانت فكرة جولة الدعاية تخنقني. كنت مريضة بالأحزان، مهمومة بما كان من الممكن ان افعله ولم افعله لإنقاذك. كيف لم أنتبه لاهمال الأطباء في مستشفي مدريد تلك ؟ لماذا لم أخرجك من هناك وآتي بك إلي كاليفورنيا في الحال ؟ لماذا، لماذا... سجنت نفسي في المكان الذي قضيت فيه الأيام الأخيرة، لكن حتي هذا المكان المقدس لم يهبني الطمأنينة. لقد مرت سنوات طويلة كنت فيها صديقتي الرقيقة و الدائمة. حينها كنت اشعر بغيابك كألم صلب، كضربة في الصدر تجعلني أقع علي ركبتي. كنت أيضا مهمومة بنيكو، لأننا قد عرفنا في التو أن أخاك أيضا مصاب بهذا المرض الكبدي. باولا لم تمت بالمرض، بل ماتت بالإهمال الطبي ، ألح اخوك، ليطمئنني، لكنه كان قلقا، ليس علي نفسه وإنما علي ابنيه والثالث القادم في الطريق. قد يصاب الأولاد بهذا المرض الوراثي المشئوم، سنعرف ذلك عندما يصلون لسن يمكن فيها إخضاعهم للفحص. بعد موتك بثلاثة شهور، أخبرتنا ثيليا أننا في انتظار مولود جديد، وهو ما كنت أرتاب فيه، بسبب السواد الكامن تحت عينيها ولانني ايضا قد رأيت ذلك في المنام، كما رأيت اليخاندرو وأندريا قبل أن يتحركا في بطن امهما. انجاب ثلاثة اطفال في خمس سنوات كان قلة حيطة. كان نيكو وثيليا يفتقران للعمل الثابت وكانت تأشيرات الطلبة التي يحملانها علي وشك الانتهاء، مع ذلك احتفلنا بالخبر. لا تحملا هما، فكل مولود يأتي بخبزه في يده ، كان هذا تعليق أمي عندما جاءها الخبر. وهذا ما حدث. في نفس هذا الاسبوع بدأنا اجراءات تأشيرات الإقامة لنيكو وعائلته، فأنا قد حصلت علي المواطنة في الولايات المتحدة بعد خمس سنوات من الانتظار، وكان بإمكاني أن آويهم.عرفت علي ويلي سنة 1987، قبل أن تتعرفي انت علي ارنيستو بثلاثة شهور. أحد قد قال لك حينها إنني قد تركت أباك من اجله، لكن أؤكد لك أن هذا لم يحدث. لقد عشت أنا وأبوك معا 29 عاما، فقد عرفته وأنا في سن الخامسة عشرة وهو علي وشك العشرين. وعندما قررنا الطلاق، لم اكن حتي لأشك أنني سأجد ويلي بعد ذلك بثلاثة شهور.لقد جمعنا الأدب : قرأ لي ويلي روايتي الثانية وشعر بالحماس ليتعرف عليٌ عندما كنت اعبر شمال كاليفورنيا كالطائرة الورق. خاب أمله، فلم اكن انا نوع المرأة التي يفضلها، لكنه داري ذلك جيدا واليوم يؤكد أنه شعر إتجاهي برباط روحي سريع. أنا لا اعرف ماذا يعني ذلك. من جانبي، كان لابد ان أتصرف بسرعة، لأنني كنت أقفز من مدينة لأخري في سفر مجنون. هاتفتك لأطلب منك النصيحة وقلت لي وأنت تقهقهين، لماذا أسألك، إن كنت قدإتخذت قرارا بالسعي وراء المغامرة. فحكيت القصة لنيكو الذي صاح مرعوبا : في سنك هذا يا أمي . كان عمري خمسة واربعين عاما، وهو ما بدا له عتبة القبر. فأعطاني هذا الحل : لا يجب ان أضيع الوقت،، وان أدخل في الصميم. لكن عجلتي كنستها حيطة ويلي المبررة. ولن أكرر هنا ما تعرفينه وما قد رويته مرات عديدة : طبقا لويلي، لديٌ خمسون رواية عن كيف بدأ حبنا وكلها صحيحة. ولكي أختصر، أذكٌرك أنه بعد أيام قليلة تركت حياتي السابقة ونزلت بلا دعوة في بيت هذا الرجل الذي أولعت كنت تدرسين في فيرجينيا وهو كان لديه 21 عاما، شاب لا يحتاج رضعة أمه.وعندما استرد ويلي نفسه من المفاجأة الشديدة عندما رأني علي باب بيته بحقيبة السفر، بدأنا حياتنا معا وبحماس، بالرغم من الاختلافات الثقافية التي تفرقنا ومشاكل الأولاد التي لا أنا ولا هو نعرف قيادتهم. كان يبدو لي إن حياة ويلي وعائلته تشبهان الكوميديا السخيفة التي لا تترك تأثيرا. كم مرة هاتفتك لأطلب منك النصيحة ؟. أعتقد كل يوم. ودائما كان ردك لا يتغير: ماهو أكرم حل ترينه في مثل هذا الموقف يا أمي ؟ . تزوجنا أنا وويلي بعد ذلك بثمانية شهور. لم تكن المبادرة من جانبه، بل من جانبي. وعندما ادركت أن عاطفة اللحظة الأولي ستتحول لحب وأنني من الممكن أن أبقي في كاليفورنيا، قررت ان احضر أولادي إلي هنا. كان يجب ان اكون مواطنة امريكية ان كنت ارغب الاجتماع بك وباخيك،، وبالتالي لم اجد امامي مخرج سوي ان اتنازل عن كبريائي واقترح علي ويلي فكرة الزواج. لم يكن رد فعله غبطة منفجرة، كما تجرأت انا وانتظرت، وإنما كان رهبة، لأنه قد مر بتجارب حب فاشلة أطفأت عواطف قلبه الملتهبة، لكنه في النهاية طوق يدي. حسنا، لم يكن الأمر صعبا حقيقة : أعطيته فرصة حتي الساعة الحادية عشرة من اليوم التالي ليقرر وبدأت أرتب حقيبتي. وقبل أن تنتهي المدة بربع ساعة، قبل ويلي يدي، مع أنه لم يفهم أبدا اصراري الملح في الحياة بجانبك وبجانب نيكو، لأن الشباب في الولايات المتحدة يهجرون البيت الأبوي عندما ينهون المدرسة ويعودون فقط للزيارة في الكريسماس أو يوم العرفان بالجميل. ويصدم الأمريكان العادة التشيلية للتعايش في عشيرة للأبد.لا تجبرني علي الاختيار بينك وبين أولادي ! حذرته في تلك المرة. لن يخطر ذلك في بالي. لكن، أأنت متأكدة انك تريدين أن يعيش الأولاد بالقرب منك ؟. سألني. من حق الأم دائما أن تدعو أولادها.زوٌجنا رجل حصل علي ترخيصه بالبريد، مقابل دفع 25 دولارا، لأن ويلي، مع انه محام، لم يستطع توفير أي قاض صديق يقوم بهذه المهمة، وهو ما أثار فيٌ التشاؤم. ويوم الزفاف كان اكثر الايام حرارة في تاريخ ولاية مارين. وطقس الزفاف اقيم في مطعم ايطالي ليس به تكييف، وبالتالي فقد ساحت التورتة كلية، وأغمي عليها الآنسة التي كانت تعزف علي الجنك، اما المدعوون الذين تصببوا عرقا، فقد خلعوا ملابسهم. فصار الرجال بلا قميص ولا حذاء، وصارت النساء بلا جوارب ولا ملابس داخلية. لم اكن اعرف احدا سوي اخيك وأمي وناشري الأمريكي، وجاءوا جميعا من بعيد ليكونوا بصحبتي. دائما راودني الشك ان هذا الزفاف ليس شرعيا كلية، واتمني ان يأتي اليوم الذي يحمسنا لنتزوج كما ينبغي. لا أريد أن تأخذي انطباعا انني تزوجت فقط من اجل المصلحة، فما شعرت نحو ويلي بشبق بطولي يفقد النساء عادة صوابهن، كما حدث لك مع ارنيستو، لكن في السن الذي وصل له كلانا لم نكن في حاجة للزواج، إلا بسبب موضوع التأشيرة. في ظروف أخري كنا سنعيش في رفقة، كما كان ويلي يفضل بلا شك، لكنني لم ارغب أن آذي عائلتي بسبب من كان خطيبي الشبيه بباول نيومان. لقد خرجت معك ومع نيكو من تشيلي خلال الديكتاتورية العسكرية لعقد السبعينات، ومعكما لجأت إلي فنزويلا حتي نهاية الثمانينات، ومعكما فكرت أن أهاجر للولايات المتحدة في التسعينات. ولم يساورني الشك في أنك وأخاك ستكونان معي في كاليفورنيا افضل من ان تتشردا في العالم،، لكنني لم أحسب التأخير الشرعي. مرت خمس سنوات، كانت بالنسبة لي خمسة قرون، وخلالها تزوج كل منكما، تزوج نيكو من ثيليا في فنزويلا وانت من ارنيستو في اسبانيا. لهذا لم اجد مانعا حقيقيا من زواجي. وبعد فترة تمكنت من ان انشيء لنيكو وعائلته غرفتين في بيتنا، ولو لم يأتك الموت مبكرا، لكنت ستعيشين بجانبي. سافرت في رحلة عابرة بالولايات المتحدة في اتجاهات عدة كدعاية لروايتي وإلقاء محاضرات كنت قد أجلتها من العام الماضي، عندما لم أستطع أن أتحرك من جانبك. أتشعرين بوجودي يا ابنتي ؟. سألت نفسي هذا السؤال مرات عديدة. ماذا كنت ترين في منامك في الليل الطويل لسنة 92 ؟. كنت تحلمين، أنا متأكدة، لأن عينيك كانتا تتحركان تحت جفونك وأحيانا كنت تستيقظين خائفة. فالدخول في غيبوبة يشبه التقيد داخل ضباب كابوس كثيف. طبقا للأطباء، انت لا تنتبهين لشيء، لكن اجد من الصعوبة تصديق ذلك. في سفري كنت احمل معي حقيبة بها أقراص منومة، للألم الوهمي، و لتجفيف دموعي وللخوف من العزلة. لم يستطع ويلي ان يصحبني لظروف عمله، فمكتبه لا يغلق حتي ايام الاحاد، ودائما اجد معجزات في صالته الامامية ومئات من القضايا علي مكتبه. في تلك الايام كان مشغولا بمأساة مهاجر مكسيكي مات عند سقوطه من الدور الخامس بمبني تحت الانشاء في سان فرانسيسكو. كان يدعي خوبيتو باتشيكو في التاسعة والعشرين من عمره. لم يكن له اي وجود شرعي. وتخلت عنه شركة المقاولات، لان الرجل كان بلا اوراق.لم يكن لمساعد المقاول تأمين ولم يتعرف علي باتشيكو. كان قد جذبه في شاحنة قبل الحادث بأيام، بصحبة عشرين من المهاجرين غير الشرعيين مثله، وساقه حتي مكان العمل. خوبيتو باتشيكو كان فلاحا ولم يصعد أبدا فوق سقالة، لكن ظهره كان قويا ويرغب في العمل. لم يعلمه احد أنه يجب ان يلبس درع الأمان. سأحاكم نصف العالم لو لزم الأمر ن لكن قبل ذلك اسعي للحصول علي تعويض لعائلته الفقيرة ، سمعت ويلي يقول ذلك آلاف المرات. وكما نري ليست قضية سهلة. كانت معه صورة شبه فاسدة الالوان لعائلة باتشيكو في مكتبه : أبوه، أمه، جدته، ثلاثة أطفال صغار ورضيع بين يديه، يرتدون ملابس الذهاب للكنيسة، يصطفون في عز الشمس في ميدان مترب بالمكسيك. الوحيد الذي كان ينتعل حذاء هو باتشيكو، رجل هندي داكن بابتسامة شامخة وبيده قبعة فقيرة من القش. في هذه الجولة ارتديت الاسود من قدمي لرأسي، بحجة أن الاسود لون أنيق، حيث لم أرغب ان اقبل حتي امام نفسي أنني أسير بلبس الحداد. تبدين مثل ارمل تشيلية ن قال لي ويلي ، واهداني شالا أحمر كرجال المطافيء.لا أتذكر إلي اي مدن ذهبت، ولا من عرفت، ولا ماذا فعلت، ولا يهم، سوي انني قابلت ارنيستو في نيويورك. تحركت مشاعر زوجك كثيرا عندما اخبرته انني أكتب مذكرات عنك. بكينا سويا وحصاد أحزاننا أطلق عاصفة من البرد. لكن البرد يأتي في الشتاء ، قال لي نيكو عندما حكيت له ما حدث بالتليفون. قضيت عدة اسابيع بعيدة عن اهلي كالمنومة مغناطيسيا. بالليل كنت أنام في أسرٌة لا أعرفها، فاقدة الحس بسبب المنوم، وفي الصباح كنت انفض الكوابيس بفنجان قهوة داكنة.كنت اتحدث مع اهلي بكاليفورنيا وارسل خطابات لامي بالفاكس، أقول لهم إن الزمن ينتهي لأنهم يختمون بحبر رقيق علي الضوء. حدثت أشياء كثيرة حينذاك نسيتها، وأنا علي يقين أن ذلك افضل. كنت اعد الساعات لأعود لبيتي وأختبيء من العالم، كنت اريد أن أنام مع ويلي، العب مع احفادي، وأسلي نفسي صانعة عقود في ورشة صديقتي طبرا. علمت ان ثيليا تفقد وزنها بسبب الحمل، بدلا من أن تزيد وزنا، وانا حفيدي اليخاندرو يذهب للحضانة بحقيبته علي ظهره، وأن اندريا تحتاج لإجراء عملية في عينيها. كانت حفيدتي رقيقة، لها زغب مدهب في رأسها وكانت حولاء، تشرد عينها اليسري وحدها. كانت هادئة وصموتة، تبدو دائما كأنها تخطط لشيء، تمص اصبعها وهي ملفوفة بقماط من القطن، وكانت تسمي اصبعها توتو ولم تطلق سراحه أبدا. أنت لم تحبي الأطفال، باولا. وذات مرة عندما جئت في زيارة ووجب عليك تغيير حفاظة اليخاندرو، اعترفتي لي أنك عندما كنت تغيرين له، فقدت الرغبة في الأمومة. لم تعرفي اندريا لكن في الليلة التي تركتي فيها عالمنا كانت هي نائمة، بجانب أخيها، في طرف السرير. معجزات يومية صغيرة في السادس من ديسمبر كانت ذكري وفاتك الأولي. كنت اريد ان اتذكرك جميلة، بسيطة، سعيدة، ترتدين فستان العروسة أو تتخطين البرك تحت مطر طليطلة، بشمسية سوداء : لكن عندما حل الليل، وفي كوابيس، كانت تهاجمني صور تراجيدية : سريرك وأنت في المستشفي، صوت جهاز التنفس، كرسيك المتحرك، المنديل الذي كنا نغطي به فتحة الخزع الرغامي، يداك المتشنجتان. أحيانا كثيرة دعوت الله ان أموت انا بدلا منك، وعندما كان هذا البديل مستحيلا، دعوت الله أن اموت مصابة بمرض، لكن الموت صعب، كما تعرفين وكما تقول جدتي التي كان ينقصها القليل لتتم مائة عام من الحياة. بعد عام من وفاتك كنت مازلت حية، بفضل عطف عائلتي والإبر السحرية والأعشاب الصينية للحكيم الياباني ميكي شيما، الذي كان بجانبي وجانبك في الشهور التي ودعتي فيها العالم رويدا رويدا. لا اعلم ما اثر هذه الوسائل عليٌ، لكن وجوده المطمئن ورسالته الروحية أعاناني أسبوعا وراء آخر في تلك الفترة. لا تقولي إنك ترغبين الموت، لأنك بذلك تقتليني بالحسرة ، لامتني امي ذات مرة عندما لمحت لها بذلك في خطاب. أمي لم تكن السبب الوحيد لأستمر في الحياة، كان هناك ويلي ونيكو وثيليا وهؤلاء الأحفاد الثلاثة الذين اعتادوا ان يوقظوني بأياديهم المتسخة وقبلاتهم سائلة اللعاب، ثلاثتهم بحفاظته ذات رائحة العرق والرضاعة. في نفس السرير ليلا، كنا نشاهد سويا، متعانقين، أفلام الديناصورات المرعبة التي كانت تلتهم الممثلين. اليخاندرو، ذو الرابعة، كان يأخذني من يدي ويقول لي ألا أخاف، فتلك الافلام اكذوبة، فالحيوانات الخرافية ستتقيأ الأشخاص كاملين لأنهم لم يمضغوهم. في صباح يوم الذكري السنوية ذهبت مع اليخاندرو إلي الغابة، التي نسميها الآن جميعا غابة باولا . ياللعجب، يا ابنتي، لأنها حديقة حكومية. كانت السماء تمطر، كان الجو بردا، دخلنا في الطين، وكانت رائحة الجو صنوبر، وبين ثغرات الأشجار كان يطل ضوء الشتاء الحزين. كان حفيدي يجري امامي بقدمين تتحدف في الجوانب ويحرك ذراعيه كالبط. اقتربنا من المجري الصغير، المضطرب في الشتاء، حيث نثرنا رمادك. عرفته بالضبط.كان باولا مريضة بالأمي قال : بالنسبة له كل الماضي أمس.نعم، إنها ماتت. من قتلها ؟ الأمر ليس كما في الأفلام، اليخاندرو، أحيانا تمرض الناس وتموت، هذا كل شيء. أين يذهب الموتي ؟ لا أعرف بالتحديد. إنها ذهبت من هناك. قال مشيرا للمجري الصغير.ذهب رمادها في الماء، لكن روحها مازالت تعيش في هذه الغابة. ألا يبدو لك جميلا ؟لا، من الأفضل ان تعيش معنا قرر. قضينا وقتا طويلا نتذكرك في هذا المعبد الأخضر، حيث استطعنا ان نشعر بك، ملموسة وحاضرة، كما النسيم البارد والمطر. وقت الظهيرة اجتمعت العائلة حتي ارنيستو الذي جاء من نيو جيرسي وبعض الاصدقاء في بيتنا. جلسنا في الصالة واحتفلنا بعطاياك التي وهبتيها لنا في حياتك ومازلت تهبينها : ميلاد الأحفاد سابرينا ونيكولي ودول المهات، فو وجريث، إلي القبيلة، بالإضافة لسالي. شمعة بيضاء متواضعة، بفتحة في المنتصف، كانت تنتصف المذبح الذي ملأناه بصورك وذكرياتك. في العام الماضي، قبل موتك بثلاثة ايام، التقيت ب أخوات الفوضي الدائمة في بيت احداهن، وكالعادة كنا نقضي أيام الثلاثاء حول ست شمعات جديدة. كان غيابك يضاعف ألمي. أشعر بنار تأكل قلبي ، قلت لهن. كنا نمسك بايادينا، نغمض اعيننا، وكانت صديقاتي يوجهن لي حنانهن وتضرعاتهن، ليساعدنني علي تحمل ألم الأيام. كنت اطلب امارة، امارة علي انك لم تختف في العدم الي الابد، امارة علي ان روحك موجودة في مكان ما. وفجاة سمعت صوت جان : انظر لشمعتك، ايزابيل . كانت شمعتي تلتهب في المركز. نار في البطن ، اضافت جان. سننتظر. أكل اللهب الشمعة وشكل حفرة في منتصفها، لم تختف. وكما اشتعلت بلا تفسير، انطفأ اللهب بعدها بلحظات. وظلت الشمعة محفورة، لكنها منتصبة، وبدا لي أن هذه هي الامارة التي طلبتها، غمزة عين تعطيها لي من المكان الاخر : حرق موتك لن يقضي علي. بعدها راجع نيكو الشمعة ولم يستطع ان يجد سببا لهذا اللهب في المنتصف : ربما كان بها عيب، كان بها فتيلة اخري نتج عنها قفز شرارة. لماذا تريدين تفسيرا يا امي ؟ إن ما يهم في هذه الحالة هو الفرصة. لقد تلقيت الامارة التي طلبتها، وهذا يكفي ، قال نيكو، ليتركني مسرورة، اظن ذلك، لأنه مع شكوكه الصحية، لا اعتقد انه يؤمن بالمعجزات. شرحت لي فو أننا كنا نشعل بخورا لأن الدخان يرتفع مثل أرواحنا، وضوء الشموع يمثل الحكمة، الوضوح، الحياة : أما الزهور فتمثل الجمال والاستمرار، لأنهاتموت وتترك بذورا لزهور اخري. كما تبقي بذورنا في أحفادنا. كل منا شارك الأخريات بمشاعر أو ذكري قالت ثيليا، اخر من تحدثت : باولا، تذكري ان لك ثلاثة أبناء أخ ويجب ان تعتني بهن، انظري فقد يصيبهم المرض الكبدي. وتذكري اشعال شمعة حتي تتمتع سابرينا بحياة طويلة وسعيدة. وتذكري أن ارنيستو يحتاج شخصا أخر، وبالتالي تحمسي وابحثي له عن عروسة . امبراطورية الرعب يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر دق الهاتف صباحا مبكرا. كانت أمي، تهاتفني من تشيلي، يغلفها الرعب من الخبر الذي مازلنا نجهله، لأن فرق التوقيت بين كاليفورنيا حيث أعيش والشاطيء الاخر للبلد ثلاث ساعات مبكرا، وكنت قد نهضت من السرير. عند سماع صوتها، فكٌرت أنها تحدثني عن الذكري السنوية للثورية العسكرية التشيلية، وهي أيضا اعتداء ارهابي ضد الديمقراطية، نتذكره كل عام كألم : الثلاثاء، 11 سبتمبر 1973. أشعلنا التليفزيون ورأينا مرة وآلاف المرات نفس صور الطائرات تفجر برجي مركز التجارة العالمي، وهو ما ذكرني بقصف العسكريين ضد قصر لا مونيدا التشيلي، حيث مات في نفس اليوم الرئيس سلفادور الليندي. هرولنا صوب البنك لنسحب اموالا فورية لنتزود بالماء والغذاء و البنزين. ألغوا رحلات الطيران، وبقي آلاف من المسافرين محجوزين، امتلأت الفنادق وتحتم عليهم أن يضعوا أسرٌة في الممرات. في أيام البرجين كان يجب ان ارحل في جولة بكتبي باوربا، لكن فرض علي ان ألغي سفري. كانت الشبكات التليفونية مشغولة لدرجة أن لوري لم يستطع الإتصال بأبويه خلال يومين ولا أنا استطعت الاتصال بأهلي في تشيلي. انتقل لوري ونيكو الي بيتنا مع الأطفال، الذين كانوا معهم هذا الإسبوع ولم يذهبوا للمدرسة لأن الدراسة قد توقفت. معا كنا نشعر أكثر بالأمن. خلال أيام، لم يستطع أحد العودة إلي عمله في مانهاتن. كان يطفو في السماء سحابة من التراب وكان يهرب من المواسير المكسورة غازات سامة. وعندما كان يسود التشويش، جاءتنا اخبار عن جاسون. حكي لنا أن الأحوال في نيويورك بدأت تتحسن رويدا رويدا. سار ليلا ناحية منطقة الكارثة بمجرفة وخوذة ليساعد فرق الإنقاذ، الذين كانوا قد انهكوا. مر بجانب عشرات من المتطوعين العائدين من ساعات عملهم الطويلة وجاءوا للأطلال بخرق بيضاء ملفوفة علي رقابهم، تكريما للضحايا المحتجزين داخل البرجين، والذين أشاروا بالمناديل من النوافذ وداعا وداعا. كان يلاحظ من بعد الدخان الخارج من الأطلال. وسكان نيويورك يشعرون بالضربة القوية. تصرخ صفارات الانذار، وتهرول عربات الاسعاف فارغة، فلم يبق احد علي قيد الحياة، بينما عشرات من الكاميرات التليفزيونية تصطف بالقرب من المنطقة المنكوبة بأيد القاصفين. سبق هذه الهجمة هجمة اخري، لكن لم يتحدث احد بجدية في ترك المدينة : فنيويورك لم تفقد طابعها الطموح القوي والمدعي الرؤية. عندما وصل لمكان الكارثة، قابل جاسون متطوعين كثيرين مثله : فكان لكل ضحية مختفي بين الانقاض عدة اشخاص مستعدين للبحث عنه. وكلما مرت سيارة نقل تحمل عمال، كانت الحشود تلقي عليهم التحية بصرخات حماسية. متطوعون اخرون جاءوا بماء وطعام. وفي مكان البرجين الشامخين، صارت حفرة سوداء منبعث منها دخان. هذا يشبه الكابوس ، قال جاسون. وسريعا ما بدأ قصف افغانستان. كانت الصواريخ تمطر علي الجبال التي يختبيء فيها حفنة من الارهابيين الذين لا يريد احد مواجهتهم وجها لوجه، فامتلأ العالم ضجيجا. في اثناء ذلك، دخل الشتاء وبدأ الموت من البرد يصيب الأطفال والنساء في حقول اللاجئين، وهي اضرار جانبية. في هذا الوقت أصيب الناس في الولايات المتحدة بالبارانويا، أصبحوا يفتحون البريد بالقفازات والأقنعة فربما كان هناك فيروس الجدري او الجمرة الخبيثة، او اسلحة دمار شامل. ولأن العدوي قد اصابتني من الآخرين، خرجت للحصول علي سايبر، وهو مضاد حيوي شديد الفعالية يستطيع ان ينقذ أحفادي في حالة الحرب البيولوجية، لكن نيكو قال لي إن اعطينا هذا القرص للأطفال من الاعراض الاولي للبرد، فلن يكون فعالا لو جاء مرضا حقيقيا. كان مثل قتل الذباب بطلقة مدفع. إهدئي يا أمي، لا يمكن ان نتوخي الوقاية في كل شيء ، قال لي. حينها تذكرتك، باولا، تذكرت الثورة العسكرية بتشيلي وتذكرت لحظات عجز اخري في حياتي. ليس لي سيطرة علي الأحداث الأساسية، تلك التي تحددها سنة الحياة، لذلك فمن الأفضل ان استرخي. إن التاريخ الجماعي جعلني انسي الدرس القاسي خلال عدة اسابيع، لكن تعلق نيكو أعادني إلي الواقع.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...