الأربعاء، يوليو 02، 2008

مقالة عن الذكريات الصغيرة

جريدة : القبس الكويتية يرتعد من الكلاب ويعشق الخيل ويعترف أنه من أصول عربية «صانع الأقفال» ساراماجو.. حياة بائسة وكاتب عظيم القاهرة ـ صبحي موسى:
لا يمكننا أن نعتبر مذكرات الكاتب البرتغالي الشهير خوسيه ساراماجو ـ الصادرة اخيرا بترجمة أحمد عبد اللطيف عن سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية للكتاب ـ إلا نوعاً من طقوس الاعتراف، ليس أمام راعي الكنيسة الذي لا يحبذه ساراماجو، ولا المحلل النفسي الذي كثيراً ما نتهرب من الجلوس أمامه، ولكن أمام قارئ عشق «تاريخ حصار لشبونة، و كل الأسماء، وعام وفاة ريكاردو ريس، والآخر مثلي، والعمى، والطوف الحجري» وغيرها من الأعمال التي فاز عنها بجائزة نوبل للآداب عام 1998.فهذا القارئ الذي يشعر أمامه ساراماجو بالطمأنينة والدفء والصدق راح يحكي له من دون خجل عن ميلاده عام 1922في قرية أزينهاجا بالقرب من نهر ألموند، ونشأته كواحد من أبناء الطبقة المعدمة في مدينة لشبونة، ليفاجئنا بالكثير من التفاصيل التي لم ترد في أي من رواياته، حتى أننا يمكننا القول انه الكاتب الوحيد الذي لم يستنزف تاريخه الشخصي في أي من أعماله، وظل محتفظاً بها بعيداً عن الاستهلاك الأدبي حتى تجاوز الثمانين من العمر، فقرر الجلوس أمام من أحبوا فرضياته الإبداعية التي صاغ على أساسها رؤيته للوجود والعالم.من بين هذه الاعترافات المدهشة رعبه الشديد من الكلاب، ونشأته في عالم لا علاقة له به إلا من خلال رقم الشارع واسم الحي وسطوح أو بدروم العمارة، فحين قرر والده خوسيه دي سوسا أن ينتقل بأسرته من أزينهاجا إلى لشبونة، حيث مقر عمله، لم يكن دخله يكفي للإقامة في بيت أو شقة مستقلة، ومن ثم لجأ للآقامة على أسطح العمائر الشهيرة، حيث الغرف التي صنعها أصحاب البيوت لإقامة الخدم، وهي حجرات لا تتسع إلا لسريرصغير ومنضدة أسماها ساراماجو تجاوزاً بالمطبخ، أما قضاء الحاجة فقد كان في حمام وحيد مشترك لكل هذه الغرف والأسر التي تقيم فيها.حجر الزاويةلم تتوقف علاقة ساراماجو بطبقة الأغنياء في لشبونة على مجرد الدخول والخروج من مدخل البناية التي تجمعهم معاً، فقد تعرف على بعض ملامح هذا العالم من خلال تطوافه مع أمه التي كانت تذهب لمسح السلالم وغسل الملابس أحياناً، وكثيراً ما حدثت مصادفات وضعته على مقربة من أبناء هذا الفردوس الأرضي، كأن يتعثر بسجادة فتنخدش ركبته، فيجيئه صاحب المنزل بشاش ومطهر، أما العطر الذي تتركه يد زوجة صاحب المنزل حين تحضر له قطعة من الشوكولاتة فلم ينمح من ذاكرته رغم مرور كل هذه الأعوام.بدت ذكريات البرتغالي الأشهر عن عوالم طفولته أقرب لمن يتأمل حجر الزاوية الذي قامت عليه مجريات ثمانين عاما من حياته، وبدا ساخراً من المتناقضات التي نشأ بينها، ساخراً من نفسه وسرقاته الصغيرة ورعبه الكبير وأوهامه التي بلا معنى عن حبيبة كان من المستحيل أن يرتبط بها، تلك التي كان يحضرها والدها التاجر من لشبونة لتقيم عدة شهور في أزينهاجا، حيث كانت أسرة ساراماجو تخدمهم في بعض الشؤون، وهناك نشبت العاطفة بين الطفلين، وهناك نشأ حبه الناقص للخيل، وظلت رغبته هذه مكتومة حتى قدر له وهو في مدرسة الصنائع أن يركب جواداً مماثلا، ولم يكد يمشي به عدة خطوات حتى سقط من على ظهره وكسرت ساقه، فظل يبحث طيلة حياته عن هذه اللحظة التي لم تكتمل.مشاهد الكلاب الضاريةأما رعبه من الكلاب فقد نبت في مدخل إحدى البنايات التي كان يقيم على سطوحها كان كلباً ضخماً كثيراً ما يزوم عليه كلما اقترب من المدخل ولا يفعل أكثر من ذلك، لكنه في يوم ما هاج وراح ينبح بقوة مطارداً إياه، بينما ساراماجو يصرخ طالباً أن يجيره أحد.المدهش أن الكاتب الذي افتتح مهرجان «كان» في دورته الأخيرة بعرض فيلم طويل مأخوذ عن روايته «العمي» رصد العديد من مشاهد الكلاب الضارية في هذه الرواية.رصد ساراماجو تفاصيل الحياة التي عاشها في بيت جده لأمه في قرية إزنهاجا، وكيف تحول والده المزارع إلى رجل شرطة في المدينة، يتأنق بقدر ما يستطيع في ملابسه وحديثه ليبدو مدنياً بين المدنيين، ونجماً متباهياً بفتوحاته بين أبناء قريته، ومن بينها حكاياته المتوالية عن بطولاته الجنسية مع نسوة المدينة، هذه البطولات كان يحكيها ليلاً لزوجته، فتسرها في نفسها حتى تحكيها في الصباح لنسوة أخريات يواسينها في زوجها الشهواني، ومن ثم فقد جعلت هذه المشاهد ساراماجو يقطع على نفسه عهداً بألا يهين طيلة عمره امرأة مهما كانت بكلمة أو فعل. اسم منتحلأما علاقته بالسجلات المدنية فقد كانت غريبة ومدهشة، ليس لأنه خرج منها بفكرة روايته الشهيرة «كل الأسماء»، ولكن لأننا نتكشف من خلالها أنه الحالة الوحيدة التي سمى فيها الطفل والده مثلما أعطاه والده اسماًَ، حدث ذلك حين ذهب خوسيه دي سوسا ليسجل المولود الذي رزق به في السجل المدني، لكن موظف السجل كان مخموراً في ذلك الوقت، وبدلاً من أن يكتب خوسيه دي سوسا، كتب خوسيه ساراماجو، ولأن الأب لا يجيد القراءة ولا الكتابة فقد عاد إلى البيت دون أن يشعر بالجريمة التي حدثت، ومرت السنوات حتى حمل أوراق ابنه ليقدمها إلى المدرسة، هنالك اتهموه بالتزوير لأن اسم الطفل مختلف تماماً عن اسمه، ولم يجد الأب حيلة غير أن يذهب ليغير اسمه هو إلى ساراماجو، لكنه ظل لا يعترف بهذا الاسم، وكلما أجبر على استخدامه كان يلعن موظف السجل السكير الذي كتب عليه العار وجعله يتخلى عن اسم عائلته، أما الحالة الثانية التي عانى فيها عن قرب من البحث في السجلات المدنية فقد كانت تخص أخا أكبر منه بعامين ونصف العام، مات بسبب السل في الحجر الصحي، وأراد ساراماجو وفاء وتخليداً لهذا الأخ أن يكتب عنه، فتوقف عند تاريخ وفاته الذي لا يعرفه، فما كان منه إلا أن أرسل للمستشفى لتبحث في سجلاتها عن تاريخ وفاة فرانسسكو دي سوسا، فأجابوه أنهم لم يجدوا هذا الأسم ولكنهم وجدوا خوسيه دي سوسا، وذلك لأن ساراماجو في الخامسة من عمره أصيب بنفس المرض ودخل الحجر الصحي، لكن المشكلة أنه بناء على خطاب المستشفى فإن أخيه ما زال حياً، ولكي يعرف أخذ يبحث ويبحث حتى اهتدى إلى الجدار الأخير وهو سجلات المقابر، حيث أفادوه بتاريخ وفاته ودفنه عام 1924. هذا البحث الروتيني الطويل هو الذي أوحى له بشخصية خوسيه موظف السجل المدني الذي أراد أن يصل إلى سيدة من خلال بطاقة المعلومات المثبتة لها في السجل المدني، كان هذا الموظف بطل كل الأسماء الذي أصبح روائياً شهيراً من خلال تسجيله خطوات وخطط بحثه عن السيدة التي أحبها دون أن يراها، ولعل التقارب واضح بين موظف السجل واسم المؤلف، وبين رحلة البحث عن أخيه ورحلته ورحلة الموظف لمعرفة تاريخ وحياة السيدة المجهولة.أصله العربيلكن الأكثر جرأة أن الكاتب الذي يحتفل الآن بمرور عشر سنوات على فوزه بجائزة نوبل أثبت في مذكراته أنه من أصول عربية، وأن جده العربي كان قصيراً قوياً ملقباً بخالع القلوب، وأن ملامح وجهه ووجه أخته وبقية أفراد عائلته لا تنتمي لملامح البرتغاليين، ويضيف قائلاً وعلى عكس ما يمكن أن يتصوره أحد فأبو جدي العربي الذي لم يتبق أثر مكتوب لخطوته في أزينهاجا ليس اختلاقاً رومنسياً فعلته لأزين به شجرة عائلتي المتواضعه، لكنه حقيقة جينية مؤكدة، هذا الرجل كان يعيش خارج القرية في كوخ بين الصفصاف، وكان يملك كلبين ضخمين يبثان الخوف في الزائرين، عندما ينظران لهم في صمت بلا نباح، وكانا لا يكفان عن النظر حتى ينصرفوا، أحد هؤلاء الزوار ـ كما حكت لي جدتي جوزيفا ـ لقي مصرعه وتم دفنه هناك، كان الزائر قد ذهب ليطلب من العربي تفسيراً لجذب المرأة إليه، فأعطاه لكمة في صدره، ولم يثبت أن القاتل قد عوقب بجريمته ربما يفسر لنا هذا احتفاء ساراماجو برصد مشاهد الكلاب في أعماله رغم رعبه منها، كما يفسر تلك الحميمية المدهشة التي كتب بها مشاهد المؤذن الأعمى في «تاريخ حصار لشبونة» ولمَ أضاف مصحح البروفات ريموندو سيلفا حرف الجزم «لم» قبل «يساعد البرتغاليون الأسبان في حصار لشبونة».ذكريات صغيرةيمكننا القول أن ساراماجو اعترف في ذكرياته الصغيرة بكل شيء، اعترف بأصله المتواضع ومهنته البسيطة كصانع أقفال، وأنه كان يكذب في طفولته عن كتب لم يقرأها، وأفلام لم يشاهدها، وأناس لم يقابلهم، وأب قال انه ليس رجل سياسة رغم أنه رجل السلطة الذي ينفذ أوامرها بكل طاعة وخوف، وأنه كان يربي الخنازير مع جده أزينهاجا، ويسرق مع أصدقائه ثمار حقول الفلاحين، وأنه حصل على درجة كبيرة في امتحان مدرسة الليسيه، وأنه لا يحب القسيسين، ولا يتذكر شيئاً من المبادئ التي تعلمها في مادة التربية القومية، وأنه قرأ بالصدفة في الصغر كتاباً لموليير كان يعتقد في البدء أنه دليل محادثة، ولا يعرف كيف وقع والده على هذا الكتاب فأحضره، كما لم يكن يعرف من الأساس من هو موليير وما الذي يفعله، لكنه كان طفلاً محظوظاً لأنه دخل عالم الأدب صدفة من أوسع أبوابه، وأن أمه وجاراتها كن يسرقن شركة المياه بأن يضعن إبراً في عدادات المياه، وأنها كانت ترهن البطاطين بعد انتهاء الشتاء لأنها لم يكن لديها مكان لتخزنها فيه، وأن عائلته تنقلت ما بين سطوح وبدرومات عدد من الأحياء المهمة في لشبونة لأنها ما كانت تقدر على الانتظام في دفع الإيجار الزهيد.

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...