الخميس، ديسمبر 26، 2013

"كتاب النحات" البحث عن جزر جديدة



لؤي حمزة عباس


تقترح رواية  (كتاب النحات) لأحمد عبد اللطيف العودة لسؤال الوجود، لفكرة أولى طالما وقف أمامها الإنسان، وعياً وتأملاً، وعاود مواجهتها، لا في سبيل إيجاد جواب شاف لها فذلك أبداً لن يكون، بل لاختبار قدرته على استعادة السؤال بما يحتويه من قلق وهو يحمل انشغالاً عميقاً في معاينة فكرة الخلق، طريقاً من طرق المعرفة التي لا تُحد، الطريق الذي سارت فيه من قبل إبداعات إنسانية عدّة مقترحة محاولاتها في اليوتوبيا، فكرة وتمثلاً، وهي مواجهة تقترحها في كلِّ مرّة خصوبةُ المسعى وجسامةُ السير فيه. تواصل (كتاب النحات) قلقاً شغل الفكر الإنساني طويلاً ليُستعاد في زمن مبكّر من أزمنة الكتابة الروائية العربية مع فرح انطوان وفرنسيس فتح الله مراش، مع تباين الأهداف والغايات، وقد مثّل الوجود بالنسبة لهما فكرة ومواجهة وسؤالاً، حتى زمن قريب من أزمنة الكتابة كما في أعمال مثل (أبناء حارتنا) لمحفوظ و(المسرات والأوجاع) للتكرلي، حيث تعيش الفكرة تحولاتها وهي تسعى لتدوين وجه عصري من وجوه السؤال.
إنها وجهة روائية لتجديد السؤال والانتقال به إلى منطقة تُغنيها الذاكرة وقد عاشت قلقها في مواجهة حَيرة الوجود، وهي، في الآن نفسه، مساءلة لحقل أحمد عبد اللطيف الروائي والانتقال به من قلق الفرديّة الذي شكّل التقاطاً شذريّاً تتسع معه الرواية وتمتد عبر انشغالها بشخصية محدّدة كما في روايتي (صانع المفاتيح) و (عالم المندل)، وقد اختير لهما أن تتحرّكا على مساحة من نفس الانسان وشواغله، لتعدّ الشخصيّة المركزية فيهما مادة الرواية وحقل اختبارها، إلى سؤال التجربة الإنسانية في مظهرها الجمعي وهي تولد وتنمو حاملة في دواخلها أسباب فنائها، من هنا لم تكن تجربة مجتمع (كتاب النحات) قد تحققت لمرّة واحدة، إنها حلقة من سلسلة سبقتها تجارب مماثلة ولحقتها أخرى، التجارب التي تجمعها رحلة النحات وهو يعبر بزورقه الأنهار باحثاً عن جزر جديدة، حاملاً معه ما يكفي من الطين لنحت كائنات هي عُدّة تجربة تنهض على أنقاض أخرى قديمة يكون فيها شاهداً وشريكاً وهو يدخل اختبار الوجود في كل مرّة من باب مختلف تفتحه هواجس الانسان ورغباته، لتبدو شخصيات الرواية بذلك تمثيلاً للهواجس وتجسيداً للرغبات في قوام يخلع عن الشخصيات أسماءها ويمنحها صفات بديلة ابتداء من النحات نفسه مروراً بعروسة النهر، والأم، وزوج الأم (المخرج المسرحي)، ورجل البرميل، ورجل القضيب، وبائعة بطاقات اليانصيب، فضلاً عن شخصيات ثانوية تبتكرها الرواية من طين العزلة، إنها جميعاً تحيا قلقها الخاص ليظل سؤال الخلق حيّاً، فاعلاً ومؤثراً، يرنُّ في فضاء الرواية وهي تنتقل بنحاتها لإنتاج تمثيل جديد ليوتوبيا قديمة لن تكون غير صدى منكسر عن فكرة خلق أول فيه من القسوة وعسر السؤال ما يقوده، كأنما بإرادة حتمية، لانقلاب المخلوق وانجذابه الأعمى لإرادة الخديعة والزوال.
طبقة بعد طبقة تتابع الرواية تحولات مجتمعها، وترصد انقلاب وقائعها مستندة إلى تقنية المخطوط التي توجهها عتبتان: نبويّة وفلسفية، تتواجه في العتبة الأولى فكرتا النوم والانتباه، وبينهما يقف الموتُ فعلَ إثارةٍ وتحفيز، " الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا"، ويتجلّى في الثانية موقف الرواية على لسان سقراط ضد (فكرة) الجمهور عن الآلهة، حيث تبدو الرواية تمثيلاً واسعاً تؤسسه العتبتان بمرجعيتيهما ومحموليهما في نسيج لغوي متباين، يستعين الراوي على كتابته بأحبار مختلفة، ظاناً في ديباجة مخطوطه "بأن في ذلك فرادة ولفتاً واجتهدت قدر استطاعتي ليكون تعدّد أصوات الرواة إلماماً بجوانب الحكاية ويكون إيقاع لغتهم من بطيء لمتعجل ومن سرد أحداث لمتأمل فيها ومن تجريد لتجسيد"، لتقارب الديباجة بيان التأليف في مدوّنات السرد العربي القديم وتكشف بعضاً من خصائصه، من تعدد الأصوات إلى تحوّل الإيقاع اللغوي، ومن مواجهة الحدث، سرداً وتأملاً، إلى خصيصتي التجريد والتجسيد اللذين يؤمّنان للعمل الروائي تبايناً لا يقف عند مهمات الشكل اللغوي بل يجتهد في سبيل التعبير عن قلق الشخصيات وهي تحيا خوف التجربة الأولى وتتذوق مراراتها، وهي تمضي منقادة باتجاه أقدارها. النحات، وحده، مَنْ يتطلّع لكتابة قدره، كل منحوتة كلمة، وكل تجربة جملة في عالم يبدو الإنسان فيه كاتباً ومكتوباً في آن، "أنزل إلى النهر وأسبح. أصير سمكة تخترق الماء بمرونة، وأعتليها بظهر مسترخ... ليس حسنا أن نخلق كائناً منفرداً وأن نكتب له العزلة كمصير حتمي، حتى لو كنا على يقين أننا، سواء أردنا ذلك أم حاربناه، سنموت وحيدين"، لكن حكاية النحات تُستعاد مرّة أخرى من أجل استمرار العالم وتواصل التجربة الانسانية التي لا تستمر بغير حكاية تأخذنا أبداً لحياة التماثيل، "فربما ينتهي العالم لو انتهت الحكايات".  



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...