الخميس، مارس 06، 2014

هوية النوبة كطفل في عرض النهر



أحمد عبد اللطيف

     في غفلة من الزمن، قررت الدولة أن تكون لغتها الرسمية هي العربية ودينها هو الإسلام، وبالتالي فالهوية المعترف بها هي الهوية العربية الإسلامية، مقصيةً بذلك كل الهويات الأخرى.
     أراد عبد الناصر في لحظة الشبق العروبية أن يعلي من شأن الثقافة التي تجتمع حولها الدول العربية بلا اختلاف ليكوّن اتحاداً عربياً، فاتخذ طريقه إلى ذلك طمس الثقافات المصرية الأخرى التي لم ترتكب ذنباً سوى بقائها خارج مخططه. الأمر لا يقتصر على تهجير أهل النوبة من أراضيهم لبناء مشروع قومي سيعود بالخير على البلاد-بحسب الخطاب الناصري-، بل إهمال النوبيين بثقافتهم ولغتهم المميزة، والقسوة في نقلهم لمكان آخر مثلما نقلت المعابد الغارقة عقب قيام السد. الفارق الوحيد أنه كرّم المعابد أكثر مما كرّم البشر، فجاء للمعابد بمتخصصين اختاروا المكان الأنسب لها، فيما لم يهتم باختيار متخصصين من أهل النوبة ليختاروا المكان الجديد. لقد انتزعهم من أرضهم وألقى بهم في أرض جديدة متناسياً علاقة الناس بأماكنهم وجذورهم، وإيماناً منهم بالمشروع القومي، التزموا الصمت. لكن تقصير الدولة لم يتوقف عند التهجير، بل امتد لتسييد الثقافة العربية على الثقافات الأخرى، فغابت عن المشهد الثقافة النوبية الممتدة بجذورها في الأرض المصرية، ولم تعترف بها الدولة، بل حاربتها.
     السؤال الآن، والممتد منذ أكثر من ستين عاماً، ما الضرر الذي يقع على الدولة باعترافها بأنها متعددة الهويات، وأن الثقافات الأخرى غير العربية تثري البلد وليس العكس؟ ما المانع حقيقةً أمام المساهمة في مشروع تحويل اللغة النوبية إلى لغة مكتوبة؟ ما الأزمة في أن تسخّر وزارة الثقافة جزءاً من قصور ثقافتها لدعم الفن النوبي ونقله خارج حدوده؟ لا أظن أن مسؤولاً ثقافياً اهتم من قبل بجمع التراث الشعبي النوبي، ولا أظن أن هناك طريقة حكومية لتوثيق الموسيقى النوبية وأغانيها، ولا أعرف-في حدود علمي- أن الدولة قد أعطت أي خطوة للأمام للالتفات لمكونات الثقافة النوبية. حتى متحف النوبة بأسوان الذي يضم معلومات عن تاريخ النوبة ويستعرض أهم تقاليدها، شيدته منظمة اليونسكو.
     لن تستطيع دولة العواجيز أن تعرف قيمة الهوية النوبية إلا بقراءة تاريخها شديد القدم، ثم زيارة النوبة الجديدة، حتى وعودها الدستورية بالاعتراف بالثقافة النوبية كإحدى الثقافات المصرية، ستنحصر في كتاب يعلم الجميع أن لا أحداً ينظر فيه، كما انحصرت من قبل الحقوق والحريات وعادت الدولة الأمنية قبل أن يجف الحبر على الورق. لن يستطيع مسؤول أن يتبنى مشروعاً لثقافة لم يزر أهلها، لم يتحرك بينهم، لم يشاهد الرسومات على واجهات بيوتهم ذات الطابق الواحد أو الطابقين، لم يسمع موسيقاهم وأغانيهم، وبالطبع لم يتعاطف مع قضيتهم.
     في زياراتي الكثيرة للنوبة الجديدة، غرب سهيل، سواء عبر مركب أو فوق جمل، لمست هويةً أخرى جديرة بالحفاظ عليها والدفاع عنها، هويةً خاصة وفريدة في مكوناتها. وبالإضافة للطيبة وبشاشة الوجه والكرم، يُلمح الفن الطبيعي على واجهات البيوت وداخلها، تُلمح هندسة البيوت المطلة على النهر مباشرةً، ببساطتها وأناقتها، تُلمح الصناعات اليدوية من سجاد وعقود وأساور تعبر عن المكان وخصوصيته. ويلفت الانتباه سماحة أهلها مع الهويات الأخرى وحسن استقبالهم لها. إنها هوية يتم إقصاؤها، في حين لا تطمح سوى إلى تجاور هويتها مع الهويات المختلفة.
  ولعل أكثر ما يلفت الانتباه، في الطريق إلى النوبة أو العودة منها، طفل صغير في مركب صغير جداً داخل نهر عميق، يجلس نصف عارٍ ببشرته السمرة، يشاور للزائرين لأرضه بترحاب، متحدياً الطبيعة القاسية بابتسامة ذهبية، ذهبية مثل أرضه، ملخصاً تاريخ النوبة.   

منشور في "قل"             



جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...