الثلاثاء، أبريل 10، 2012

أزمة الجسد في رواية عالم المندل::

أزمة الجسد في رواية  عالم المندل
هويدا صالح
يُشكل الكتّاب أعمالهم من تناقضات الوضع البشري واشتغال الخيال وتأثرات اللاوعي بالمخزون الأسطوري والموروث الحكائي ويصنعون من جميع هذه العناصر رؤيتهم الخاصة للعالم ، وهذه الرؤية  يجب أن يمتزج فيها التأمل بالسرد ، أجل أن يتشكل الخطاب الثقافي الذي هو رؤية واعية للعالم وما فيه ، لذا السرد الذي يعتمد فقط على مجرد حكي الحكايات والحواديت لا يُعوّل عليه كثيرا في تقديم خطاب رؤيوي ، لكن الروائي الذي يعي قيمة التأمل ، وأهمية تقديم رؤية للعالم من خلال السرد هو الذي يقدم لنا عملا روائيا يعيش في الذاكرة ، ويُسهم في هدم المقولات القارة وتفكيك الخطابات الثقافية التي تُهمش مكون ثقافي ما أو تقصيه لحساب ما هو قار وثاو في اللاوعي الجمعي للمجتمع .

من هذه الرؤية التي تبحث فيما وراء السرد ، وتقرأ ما هو كامن وراء الخطاب أدخل إلى عالم رواية : " عالم المندل "  للروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف والصادرة حديثا عن دار العين.

المدخل الرئيسي لقراءة هذه الرواية هو الخطاب الثقافي ، وليس هذا أنني أغفل البناء الجمالي للروائية ، فهي تتوفر على جماليات  سردية عديدة استطاع الروائي أن يصوغ بها عالمه الروائي ، لكنني أفضل البدء بالخطاب لأنه في تقديري هو الرهان الرئيسي لعالم المندل .

بعد قراءة متأملة للخطاب الثاوي خلف السرد نكتشف أنه يتكون من طبقتين ، الطبقة الأولى والتي تظهر من القراءة الأولى هي طبقة الخطاب النسوي الذي يكشف المسكوت عنه مما ترتكبه الثقافة في حق النساء ، فالرواية تطلق صرخة سيمون دي بوفوار أن النساء لا يولدن نساء ، بل هي الثقافة التي تصنعهن نساء ، وبالتالي تهمشهن ، وتكرّس لثقافة تنال من حقوقهن . تحكي الرواية قصة فتاة استيقظت من النوم لتجد لها عضوا ذكريا ، عضوا يمكنها من أن تتمرد وتثور على عالم همشها مرتين ، مرة لأنها أنثى ، وثانية لأنها لا تتمتع بالقدر الكافي من الجمال الذي يجعل العالم الذكوري يحتفي بها ويقبلها : " رأيت في المنام أن لي عضوا ذكريا ،فاتفضت من حلمي صارخة وأهلوس بكلمات وعبارات لا اذكرها ، وربما لم يسمعها أحد، هي المرة الأولى التي ارى فيها حلما شبيها ".
. هي أنثى تشعر بوطأة المجتمع الذكوري ، فتقرر أن تهدمه من داخله ، لكنها غير قادرة على أن تتمرد على فحولة مجتمع القضيب ، فتقرر عبر أحلامها أن تتبادل معه الأدوار ، فتصير هي امرأة بقضيب ذكوري منتصب ، ليست هي وحدها ، بل هي وكل نساء المدينة ، ويصير الرجال بشفاة ملونة وشعور مستعارة وأقراط تتدلى من آذانهم ، ومشية أنثوية خليعة . إذن عبر الأحلام تتمرد الذات الساردة على مجتمع القضيب / الرجل ، فتسلبه فحولته ، ويتداخل الواقع مع الحلم ، فلا نعرف هل ما حدث لنساء الرواية هو مجرد حلم دار في لاوعي الساردة أم حدث فنتازي حدث فعليا في وعي النساء في النص : " سرت في طريقي بريب أن الجدار المشيد بين واقعي وأحلامي صار متآكلا "
إذن هي مساحة ضبابية حملها أحمد عبد اللطيف ما يريد أن يقوله من خطاب يدين فيه ذكورية المجتمع التي تتعامل مع النساء ككائنات ناقصة الأهلية ، ومن لا تتمتع منهن بقدر من الجمال يقسو عليها ذلك المجتمع الذكوري، وحين تتحول النساء إلى رجال يمارسن حرياتهن بكل أشكالها المتاحة ، ويشعرن بالخفة والسعادة : " أرى في مواجهتي مجموعة من الصبايا السعيدات يرتدين مثلي أقمصة وبنطلونات ، قصرن شعورهن جدا. تبادلنا التحية بهزة راس وابتسامة، ... وقبل أن أعبر الرصيف مرة أخرى جاءتني فكرة أن أدخن في الشارع وأتجول في الميدان " وفي المقابل يصير الرجال تعساء يشعرون بهول ما حدث لهم ، ويخافون وضعية خبروها جيدا ، فقد كانوا هم الفاعلون فيها ، وهم من أقصوا وهمشوا النساء . هو تبادل أدوار أراده أحمد عبد اللطيف علَّ الرجال يشعرون بما تعاني النساء وخاصة حين يتم اختزالهن في أجساد تُعتلى دون مشاعر ، ودون مراعاة أنهن أيضا أرواح تشعر وتحس : " أرى وجها ذكوريا خشنا في وضع الكلب ومن خلفه وجها أنثويا رقيقا يركبه ، وبعد قليل تقذف فيه المرأة سائلها وهي ترتجف وتمسح قضيبها بمؤخرته " .
هذا هو المستوى الأول من الخطاب والمتجلى في ما قاله النص بشكل  مباشر ، وهو خطاب نسوي بامتياز ، بل يتماس مع  النسوية الأنجلو أمريكية التي حولت النسوية إلى أيديولوجيا صارخة تدين تهميش المرأة ، رغم أنه ثمة مدرسة أخرى في النسوية وهي النسوية الفرنسية التي قادتها جوليا كريستيفا  والتي ترى أن الكتابات النسوية هي التي تتبنى وجهة نظر نصرة وإنصاف المهمشين في كل زمان ومكان وليس شرطا المرأة فقط ، فكل كتابة تتحدث عما هو مهمش ومقصى هي كتابة نسوية .
المستوى الثاني من الخطاب كامن وثاو في فراغات النص ، في اللامقول أو فيما يُسمى بمساحات البياض في النص  ، فرغم الخطاب الأيدلوجي النسوي المعلن ، هناك خطاب ذكوري يصل لحد الفحولة يسير كما النهر أسفل النهر ، فلم يستطع الكاتب الانفلات من ذكورية الخطاب التي تكمن في لاوعيه هو ولا وعي النص بالتوازي . هناك خطاب ذكوري لا يظهر في اللغة ولا في مستويات السرد وإنما يظهر في النظر النمطية التي ينظر بها الرجل للمرأة ، فمثلا العضو الذكري الذي نبت للنساء فجأة بقرار نفسي يشفع له محاولات التمرد على القهر والاستلاب نجد هذا العضو الذكري في حالة استنفار دائم ، في حالة انتصاب ، حتى يحيل إلى التفكير  الفحولي ،فنجد كل النساء بعد امتلاكهن لأعضاء ذكرية في حالة انتصاب حتى وهن يتبولن .
كتب عبد اللطيف ـ وهو يصف تحول الوضع بالنسبة للنساء وتبادل الأدوار الذي حدث ـ يصف مشهدا جنسيا تعتلي فيه امرأة رجل ، كتب جملة في تقديري دالة وكاشفة لرؤية الرجال لجسد المرأة الذي يمثل بالنسبة لهم جسدا يُستعمل فقط لإفراغ شهوتهم، فهو مجرد ماعون لقذف السائل وإراحة الشهوة المشتعلة:" تقذف فيه المرأة سائلها وهي ترتجف وتمسح قضيبها بمؤخرته ".
أيضا مما يحيل على الخطاب الذكوري أن أزمة الذات الساردة طوال النص أزمة جسد ، أزمة افتقاد الجمال الجسدي ، فهذه الذات سُلبت الجمال الجسدي ، لذا هي تعاني التهميش ، وتعاني من عدم التفات الرجال إليها ،فرغم روحها الجميلة ، وغرامها بسرد الحكايات ، ووفائها الشديد لصديقاتها إلا أنها  ارتكبت خطيئة تراجيدية جعلتها تعاني معاناة قدرية لا حل لها ولا مهرب منها ، فهي لا تتمتع بجمال الوجه الذي يعجب الرجال ، وهذه نظرة ذكورية تختصر النساء في وجه أو جسد جميل ، لذا حين يغيب الجمال الجسداني يغيب معه اهتمام الرجال بالنساء .
لقد كانت النصوص الروائية التي تتمثل المقاربة النسوية -الجندرية محاولة لمواجهة البطرياركية الملازمة لأنساق الحبكة المعروفة ، وهو ما تمثل في بناء تلك الرواية ، فقد راهن الكاتب على تشظي السرد وتفكيكه ، فلم يقدم لنا نصا ذا حبكة كلاسية ، بل قسم الكاتب روايته إلى سرديات متجاورة لا تمشي في زمن خطي له بداية ونهاية ، بل لعب بالزمن ما بين فلاش باك واستدعاءات وزمن آني ، افتتح السرد بمقطع لميلان كونديرا كان كاشفا ودالا على هموم تلك الذات التي عاشت بين قوسين لم ينغلقا على حلمها بل ظل القوسان يقتربان ويبتعدان ، لكن أبدا لم تشعر بالأمان داخلهما ، قوسا الحلم والواقع . كان مفتتح  كونديرا عتبة دالة على النص ، وكاشفة له : " لم يتعد الأمر الأحلام بالطبع ،فكيف لامرأة عاقلة التخلي عن زواج سعيد؟ ومع ذلك ،فإن صوتا بعيدا جدا ومغريا بات يعكر سلامها العائلي : إنه صوت الوحدة . أغمضت عينيها وسمعت من بعيد ، في أعماق الغابات؛ صوت بوق صيد . ثمة دروب ممتدة في هذه الغابات، وفي أحدها يقف أبوها. كان يبتسم لها ويناديها "

ذات عالم المندل الساردة أيضا عاشت بهاجس التعلق بالأب ، كان الأب هو النموذج الذكوري الذي تعلقت به ، وكانت لحظة ما مس جسدها  ،فعاشت بهاجس الجسد المؤلم ، وخاصة أنها رأت ذلك الأب الذي مس عضوه جسدها دون قصد ، فابعدها بقسوة عن حجره ، رأت الأب في حالة انتصاب ، ويقارب أمها ، من لحظتها شعرت بحقد على أمها ، فقد أخذت والدها منها ، وظل انتصاب العضو الذي رأته في صغرها هو أقصى حلم تتطلع أن تكون ، فكانته ، ونبت لها عضو ذكري منتصب .
من الألعاب السردية التي أفاد منها الكاتب تعدد  الأصوات ، فهناك صوتان يتناوبان السرد بضمير الأنا ، صوت الساردة الرئيسية من ناحية ، وصوت الأم من ناحية أخرى ، وقد فرق بين الصوتين بأن جاء صوت الساردة بلغة مونولجية فصيحة ، وصوت الأم بلغة الحكي العامي من خلال أوراقها التي وجدتها البنت في صندوق أسرار الأم . كما لعب الكاتب برسائل الأم في تطوير الحدث، فلم تكن مجرد حيلة لكشف أسرار الأم والجدة ، بل كانت وسيلة من وسائل تطوير الصراع حتى يصل  الحدث إلى منتهاه .
كذلك لعب الكاتب بدلالات الرقم ثلاثة ، فطوال السرد يتكشف لنا أن هذا الرقم له وقع خاص في نفسها ،فقد كانت ثالث ثلاثة طوال الحياة ، هي ثالثة في العائلة بعد الأم والأب ، وثالثة مع صديقاتها ، فهي ترافق صديقاتها في رحلاتهن الغرامية ، فحين تخرج فتاة مع حبيبها تصطحب الساردة ، لتكون بمثابة الأمان لها ، وفي ذات الوقت مأمونة الجانب ، فهي على درجة من القبح حتى أن الصديقة لا تخشى منها أن تخطف خطيبها منها ، لعب أحمد عبد اللطيف بالرقم ثلاثة ، فكل فصل يتكون من ثلاث سرديات ،  ولكن في نهاية الرواية نجدها تشعر بالاكتمال ،فنجد الفصل عبارة عن سردية واحدة ، لأنها هنا أصبحت ذاتها ، ولم تعد مجرد رقم يكمل أعداد الآخرين ، وهنا يُختتم السرد .

كذلك عمد أحمد عبد اللطيف إلى هدم وتفكيك فكرة المندل ، التي أعطت الرواية اسمها ولم يكرس لها ، فقد أراد أن يهدم الفكرة ويفككها ، فليس ثمة عالم حقيقي للمندل ، وليس ثمة إلا ذات تحاول الهروب من نقصها الدائم إلى اكتمال مشتهى ، فتكتمل ، ويكتمل السرد في رواية : " عالم المندل " 

المقال منشور بمجلة الثقافة الجديدة عدد أبريل.. وعلى موقع الحوار المتمدن بتاريخ 10 أبريل 2012


جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...