الجمعة، أبريل 17، 2009

راكبة الدرجة الأولي

قصة : راكبة الدرجة الاولي للكاتب الارجنتيني : بيوي كاسارس
تمر الساعات برتابة في هذه المدينة الإستوائية ذات السوق المتواضع الذي يزوره زبائن عرضيون تبعثهم عادة شركات التبغ . ترسو السفينة في الميناء ، فيحتفل قنصلنا بها ، مقدما الموائد في الصالون العربي بفندق بالمز . ضيف الشرف دوما لا يتغير : القبطان ، المدعو من قبل رجل أسود من القنصلية يمكث عادة بجانب السفينة . يرجو الرجلُ القبطانَ أن تشمل الدعوة مجموعة يختارها بنفسه من الركاب وطاقم السفينة . تقدم الموائد أطعمة شهية ، إلا أنها تبدو فاسدة من الرطوبة . ومع أنها مطبوخة بمهارة ، إلا انها مشكوك في صلاحيتها . الفاكهة هي الشيئ الوحيد المحتفظ بطزاجته ، أو بقول أصدق : الفاكهة والنبيذ ، كما شهد بذلك الركاب الذين لم ينسوا أبداً طعم الخمر الأبيض الآسر ولا إنشراح صدورهم بالمرح الناتج عنه . في هذه المرة ، وأثناء تناول الغداء ، سمع القنصلُ سائحةً ، واسعة الثراء وطاعنة في السن وتتميز بالرصانة وطلاقة اللسان وترتدي ملابس انجليزية مريحة ، تقول هذا التعليق أو الحكاية : " دائما أسافر في الدرجة الأولي ، إلا أنني أعلم عن يقين أن كل المزايا تقدم لمسافر الدرجة الثانية ، بداية من سعر التذكرة التي تعد ميزة كبري ، ومرورا بالأطعمة التي نعرف جيدا أنها تخرج من نفس المطبخ ويعدها الطباخون أنفسهم لكلتا الدرجتين علي حد سواء ؛ بل أن الدرجة الثانية تتمتع بالأطعمة اللذيذة والطازجة والمتنوعة ؛ وليس إنتهاءاً بتفضيل طاقم السفينة للطبقة الشعبية . وهذا التفضيل الذي أتحدث عنه ، ولا أظنه هلاوس بصرية ، ليس مرتبطا بالطبيعة البشرية ، بل أنه انطبع في قلوب الناس بفضل الكتاب والصحفيين وكل هؤلاء الذين ننصت اليهم بكل شغف وريبة ، إلا أنهم يقنعونا بمثابرتهم وجلدهم . وأسوأ ما في الأمر أن تذكرة راكب الدرجة الثانية محددة بأكلات معينة ، بينما تذكرة الدرجة الأولي خالية من أي قيود ، ونتيجة ذلك بالطبع أننا لا نجد جرسونا واحدا يقترب منا ، وبالتالي فإن الاهتمام والرعاية تنصب علي الدرجة الثانية لا الأولي . قد تصدقني لو جزمت لك أنني لا أنتظر شيئا من الحياة ، لكنني أعشق الحركة والناس الجميلة والشباب . والآن سأفصح لك بسر : الجمال والشباب وجهان لعملة واحدة ، بالرغم من أننا نصّر علي عكس ذلك . فالعجائز أمثالي لا فائدة منهم في الدنيا ، ويكفي أن ننظر لصبي يرقص أمامنا لنشعر بالدوار . حسنا ، فلنرجع لموضوعنا ، قضية الدرجات ، الشباب يسافر عادة في الدرجة الثانية ، أما الدرجة الأولي فلا تعرف معني الرقص ، ولو وجدناه سنشعر أن الراقصين جثث هربت في التو من قبورها ، مرتدية أجمل ثيابها وكل حليها علي أمل أن تحتفل بليلة ليلاء ، تعود بعدها كل جثة ، نصف منسحقة ، إلي قبرها في الساعة الثانية عشرة بالضبط . يمكننا بالطبع أن نحضر حفلات الدرجة الثانية ، لكن علينا حينئذ أن نتخلي عن أية حساسية ، فهؤلاء القاطنون في الدرجة السفلي ينظرون لنا علي أننا نظن أنفسنا ملوكا يزورون أحياءً فقيرة . وعادة ما نجد الطبقة الشعبية يصعدون إلي درجتنا العليا عندما يحلو لهم ذلك ، بدون أن تمنعهم سلطة ولا يعترض طريقهم أحد بوضع حواجز بغيضة أكل عليها الزمن وشرب . وفي زيارتهم هذه، نستقبلهم بترحاب ، ونعتدل في مأكلنا ومشربنا ، ولا نسرف في عواطفنا مراعاة لمشاعرهم وحتي لا يكتشف هؤلاء الضيوف العرضيون أننا نضعهم في تصنيف آخر ـ وهو الدرجة الثانية التي تعد فخرا حقيقيا للرحلة طوال مدتها ـ كما أننا نخشي أن نجرح مشاعرهم . لكننا ، والحق أقول ، لا نسعد بزيارتهم ، لأنها تحدث عادة قبل الفجر ، حيث يأتون غازين ، مقتحمين ، هذا الاقتحام الحقيقي الذي يبحث فيه المقتحم بلا رحمة عن غرفة راكب لم تغلق جيدا ، أو راكب تأخر بالخارج سواء في الحانة أو المكتبة ، أو حتي في الصالون الموسيقي .يبحثون عن غرفة شخص منا . وأقسم لك يا سيدي أن هؤلاء الصبية يأخذون ما يجدونه ويخرجون من غرفنا ليلقوه من حافة السفينة في غياهب البحر العميق ، بلا مراعاة لمشاعرنا . في غياهب البحر العميق ، المضاء بقمر لا يتألم ، كما يقول الشاعر الكبير ، والمسكون بكائنات خرافية ، مرعبة ، خلقناها من نسيج خيالنا . وهكذا في كل الصباحات ، نتبادل ، نحن سكان الدرجة الأولي ، النظرات المعبرة بعيون لا تخفي شيئا ، ومعلقة ، " وأنت ، ألم يصبك مكروها بعد ؟" وبلباقة وحيطة ، لا نتحدث عن الأشياء المفقودة ، لأنه طبقا لبعض الروايات التي لا أساس لها من الصحة ، والرغبة المتوحشة في بث الخوف والاعتقاد بأن الطرف الثاني كاملا بلا نقيصة ، يقال إن أبناء الدرجة الثانية يزرعون بيننا عصافير جاسوسية . وكما قلت سلفا ، فقد فقدت درجتنا مزاياها وأصبحت كالذهب ، لا يحتفظ سوي بسمعته . لكنني ، وربما يرجع ذلك لنقيصة يصعب اكتمالها في مثل عمري ، لا أرضي أبدا أن أكون راكبة من الدرجة الثانية" .

جديد

«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ

إبراهبيم عادل زيد   يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...