الأحد، ديسمبر 20، 2009
مدينة العشق الوهمية
الأحد، ديسمبر 13، 2009
وداعاً أبي
السبت، أكتوبر 17، 2009
نوبل الآداب /2009 / هرتا مولر
جذور هرتا مولر المقتلعة .
ترجمة : أحمد عبد اللطيف
( أخبار الأدب ، بتاريخ 17/10/2009)
في بيت متواضع يحمل رقم 353 بالشارع الرئيسي بقرية نيتشيدروف ، ولدت هرتا مولر . بيت أخضر ، مشيد بالطوب اللبن ، يبدو أنه يقاوم إرادة الزمن نفسها، وحوله تجد الكلاب والقطط المزدرية ، هذه الحيوانات التي كتبت عنها هيرتا أنه من الصعب التمييز بينها . كما كتبت في " الأراضي السفلية " أنه "خلف البيت يترقرق جدول مياه ، ويُقهر الحصى ، وتُقمع الحجارة " . وفي القرية الصغيرة المحتضرة ، ذات الألف نسمة والشوارع الضيقة ، حيث يسود البرد والريح فيجمدان الدم حتي في الأيام المشمسة ، مثل يوم أمس ، نشأت نوبل الآداب لعام 2009 . هنا تربت كحفيدة لمزارعين وتجار فقدوا ممتلكاتهم مع وصول النظام الشيوعي ، وكابنة لعضو في WAFFEN SS ، ولأم منفية في حقل عمل بأوكرانيا . هنا مازال بيتها القديم قائماً ، ضد إرادة مواد البناء . من هنا هربت من مخالب الشمولية ، التي صارت موضوعها الرئيسي في أعمالها، سنة 1987 ، رحلت نحو حلم حرية ألمانيا الغربية لتنتسب لأقلية جيرمانية من السوافيين . الأقلية الألمانية وصلت هنا منذ أكثر بقليل من ثلاثة قرون للعمل في الحقل خلال احتلال الإمبراطورية النمساوية- المجرية لرومانيا ، ووجد مولر وعائلته أنفسهم متروكين لحظهم المرتبط بتاريخ أوروبا الوسطي في رومانيا تشاوشيسكو . وصرح عمدة نيتشيدروف أمس خلال نزهتي معه بالقرية ، التي تقع علي بعد 30 كيلومتر من تيميسورا ، غرب رومانيا ، أنه" تبقي سبعون بيتاً ألمانياً كأطلال في هذه القرية ، لم يهتم بها المجلس المحلي. لا يمكن بيعها وليس لدينا ميزانية لترميمها . وهذا البيت بالتحديد تم تأمينه عندما انتقلت هرتا إلي ألمانيا ، وبعدها بيع لألمان آخرين قرروا الرحيل وصار الآن قسماً في مدرسة" . سائراً في شوارعها ، ومنتبهاً للحنو الطفيف في العيون الجافة ، يفكر الغريب في حكم وينديش ، أحد أبطال " الإنسان تدرج العالم الكبير" هنا كانت النهاية ، منذ قرر الهجرة يري النهاية في كل شيء . السكان القدماء قليلا ما يتكلمون عن الماضي المؤلم ، والأمر ينطبق علي التصوير . أكثر ما يصيبونه قولهم إن تشاوشسيكو باع نوبل لألمانيا بمبلغ 8.000 مارك . هي صيحة تنتشر هذه الأيام في كل رومانيا ، وإضافة غير متوقعة إلي قائمة جرائم الديكتاتور . النظام التالف للإرادة كان يبدل تأشيرات سفر المهاجرين الساكسونيين مقابل أموال ألمانية . وكانت هذه صورة أخري لطرد "الأجانب" أما السعر فيحدده تصنيف كل فرد ، حسب مصادر تقصت في أرشيفات الفترة الشيوعية . وكانت هذه حالة مولر ، وهكذا تركت نيتشيدروف حتي لا تنظر للوراء . تقول هرتا في " كل ما أملكه سأحمله معي " وهي روايتها الأخيرة ، " أريد أن أرحل من غطاء هذه القرية التي لأحجارها أعين " " لم يكن خوفي الشديد ، بل ضيق صدري الخفي ، فقط أود أن أرحل لمكان حيث لا يعرفني أحد ". وبشكل ما حققت ذلك . قليلون هنا من يتذكرونها ، أما من كان بإمكانهم التذكر فماتوا أو عادوا لألمانيا . بالاضافة لذلك ، فهي ليست قرية من القري التي يحترمها القرن الواحد والعشرون ، فهي قرية زراعية لا زالت جيادها تجر عرباتها وآبارها تحتفظ بمياه (بها عشرون بئراً ). حفنة من الناس الذين شاركوها طفولتها لا زالوا يقيمون في نيتشيدروف . تقول أوجينيا دراجان ، زميلة دراسة قديمة ، " بعد حصة الألعاب تعودنا علي مذاكرة الرومانية . وكانت هرتا تشعر أنها لا تجيدها ، فكنت أساعدها " . لا أحد كذلك يذكر زيارتها الأخيرة لقريتها سنة 2005 ، حين اقترحت عليها السلطات المحلية تبديل اسم مدرستها لتحمل اسم مولر ، فرفضت بشدة ، كانت حينها في تيميسورا لتوقع روايتها . قالت وقتها " لا أريد أن يرتبط اسمي بشيء غير الكتابة " ، طبقا لما ذكرته أنيليس إيفان ، المدرسة بمدرسة نيتشيدروف . وأخيراً صرحت مولر لجريدة رومانية أن " المخابرات الرومانية سرقت مني حياتي خلال شبابي ، ومازالت تسرقها حاليا باحتكار الوقت المفروض للكتابة ". لقد عانت التعذيب والرعب والضيق بالتحكم . وعندما هاجرت اكتشفت أن أعز صديقاتها أيام الطفولة صارت تتعاون مع المخابرات ، مثل آلاف الأطفال والمراهقين الآخرين . تقول " علي الأقل وجدت جواباً لإحدى أسئلتي المؤلمة " . وكتبت حينذاك أن جيني ، زميلة المدرسة ، كانت تشكل جزءً من الحب والخيانة المرتبطين بالجهاز السياسي ". كانت مهمتها التحقق من أنشطتها اليومية ، منذ اليقظة للمنام ، من أين وماذا تشتري . وقالت مترجمتها للرومانية ، نورا لوجا ، "الشرطة في أعمال هرتا ليست مجرد جهاز ، وإنما تلبسها كل صفات الشر البشري ، بداية من الذل والتحرش ، ونهاية بالخوف والتعذيب والموت" . والآن تأتي الأكاديمية السويدية لتقدر أعمالها ، لتصفها بالتذكار الحقيقي للإرادة الإنسانية ، وهذا يكتسب في حارات نيتشيدروف معني عظيماً . منطق يسحق التعسف الديكتاتوري . فحتي لو كانت أصول مولر مقتلعة من رومانيا ، ومن ذاتها، إلا أنها تقول "رومانيا ما بعد الشيوعية لم تخلع قناع الرعب الشيوعي . مازالت الوشاية هي الخيانة الكبرى ، ومحاولة التلصص أقسي ما فيها " .
waffen ss : قوات العاصفة النازية
الخميس، أكتوبر 15، 2009
الأربعاء، سبتمبر 23، 2009
الفضيحة الإسبانية/ خوان جويتيسولو
ترجمة : أحمد عبد اللطيف
المؤسسات الاسبانية الرسمية والاكاديمية تتفادي الحديث عن المئوية الرابعة لأبشع أحداثها التاريخية : طرد مئات الآلاف من المواطنين ذوي الأصول المسلمة سنة 1609 العبودية والإبادة وخصي الذكور أو التهجير كانت الوسائل المستخدمة في معاملة الموريسكيين . شخصية ريكوتي ، كانت الصوت الذي أعطاه سربانتس لاسبانيا التي كانت تطلب حرية الضمير . تتعاقب في تاريخ كل الدول الأحداث المخجلة مع الأحداث المشرفة . ومن الأحداث المخجلة في تاريخ إسبانيا بكل وضوح تأتي المئوية الرابعة لطرد الموريسكيين في عهد الملك فليبي الثالث . وبعيدا عن هيئة التراث الاندلسي والمؤرخين ، التزمت المؤسسات الأسبانية الرسمية والأكاديمة الصمت الوقور الذي يعكس بالطبع الشعور بعدم الراحة . لا شك أن ما حدث من سنة 1609 ـ 1614 لحدث مخزي أدي إلي ما قامت به أوروبا في القرن الماضي من تصفية عرقية دموية . وكانت الاجراءات " الوقائية " التي وصفها دوق ليرما بالتعاون القطعي مع التدرج الكنسي برئاسة البطريرك ريبيرا ، تهدف إثارة جدل سياسي ـ ديني ينبغي علينا تذكره : 1499 ، تنصير المسلمين الغرناطيين بالقوة من قبل الكاردينال ثيسنيروس ؛ 1501ـ 02 ، أمر عال من نفس الرجل ليختار مسلمو مملكة قشتالة بين النفي أو التنصير : وهكذا صار المسلمون الأندلسيون ، بكل بساطة ، موريسكيين ؛ 1516 ، تم إجبار الموريسكيين علي التخلي عن طريقة ملبسهم وعاداتهم في خلال عشر سنوات ؛ 1525 ـ 26 ، تم اصدار فرمان من ملوك أراجون وبالينثيا بالتنصير ؛ 1562 ، حرمت جماعة مكونة من رجال الكنيسة والمحلفين وأعضاء بالمهنة المقدسة علي الغرناطيين استخدام اللغة العربية ؛ 1569ـ 1570 ، نشبت ثورة ألبوخاراس وحروب غرناطة ...وبناء علي النية المبيتة لسحق الموريسكيين ، استهدفت سياسة فليبي الثاني بعثرة الغرناطيين واستوطانهم في قشتالة ومورثيا واكستريمادورا ، بعيدا عن الشواطيء الجنوبية والغارات التركية المحتملة .
الجمعة، أغسطس 28، 2009
عما هو إنساني في أدب ساراماجو
عما هو إنساني في أدب ساراماجو
في حفل تكريم ساراماجو سنة 2007 ، ألقت الكاتبة الكولومبية الشهيرة لاورا ريستريبو نصا رأينا من المفيد نقله للعربية ، يتناول تحليلا لأهم ملامح الرواية الساراماجية ، الملمح الإنساني . ولاورا ريستريبو تعد من ابرز الوجوه الحالية في الثقافة الكولومبية ، فهي صحفية و روائية كتبت أكثر من عشر روايات و نالت العديد من الجوائز داخل كولومبيا وخارجها ، ولعل أهم تلك الجوائز جائزة الفاجوارا عن روايتها " هذيان " وجائزة سور خوانا إنيس عن "صحبة حلوة " .
هذا الشيء الذي يسمي ذاتنا
ترجمة : أحمد عبد اللطيف
في بلدة " بارّانكا " البترولية الواقعة في الغابة الكولومبية ، والتي عانت ما عانته من الحرب و العزلة ، ذهبت أبحث عن بعض المعلومات حول الأحداث الواقعة فيها ، فدخلت المكتبة العامة ، وسألت عن المكتبيّ الذي أخبروني أنه رجل دقيق واسع المعرفة بما يخص تلك البلدة . وبينما كنت أحادثه ، دخل مجموعة أطفال صاخبة ، من الأولاد والبنات ، تتراوح أعمارهم بين العاشرة و الثانية عشرة ، جاءوا أيضا لغرض مماثل ، سؤال المكتبي عن النساء الشهيرات في الحياة الكولومبية ، حيث عليهم البحث في ذلك وتقديمه للمدرسة كواجب مدرسي ، وهي فكرة شبيهة لما قام به السيد جوزيه في رواية " كل الأسماء " ، عندما سجل في ورقة أكثر من مائة شخصية شهيرة ، الفرق الوحيد يكمن في ان بحث الأطفال يقتصر علي النساء دون الرجال . بدأوا في توجيه أسئلتهم للمكتبي عن الوزيرات ، ممثلات السينما ، فتيات الموضة ، وأخيرا أجابهم متصنعا أنه يسمعهم وسط ضجيجهم : إن المشهور ليس هذا الشخص الذي يلقي خطبا ، ولا هذا الذي يظهر في الصحافة و التليفزيون ، وإنما المشهور هو هذا الذي يهب الآخرين أسباب السعادة ، وبالتالي عليكم أن تنسوا الوزيرات و الممثلات و فتيات الموضة ، و عودوا إلي أحيائكم وقابلوا مدرساتكم و أمهاتكم و جداتكم وطبيبة المستوصف ، والتقوا بأختكم التي تدرس في الجامعة ، بالأخري التي تعمل لأنها لا تستطيع الدراسة ، وفي تلك النسوة ستجدون ما تبحثون عنه ، فهن جديرات بأن يكنّ شهيرات بلدنا ، لأنهن يهبننا أسباب السعادة .
بهذا المعني يعد هذا المكتبي أيضا جديرا بالشهرة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا أنه تم إغتياله بعد ذلك بقليل برصاصات المؤيدين للعسكر ، وما حدث له حدث لكثيرين من أهل البلدة . وبنفس المعني تعد مشهورة تلك المرأة التي وهبت للسيد جوزيه ، مؤلف "كل الأسماء" ، أسباب السعادة ، بل و أسباب الحياة أيضا . ويعد مشهورا ايضا جوزيه نفسه ، حوزيه ساراماجو ، الاديب و الإنسان ، فهو سيد بمعني الكلمة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا هذا التناقض الذي تحدث عنه ذات مرة قائلا " كُتّابي المفضلون سَفَلة بقدر كونهم إنسانيين " . ولعل أبرز ما نلاحظه في ساراماجو أنه يعيش ما يكتبه ويكتب ما يعيشه ، بعيدا عن هذا التناقض ، كما أنه واضح في حياته كما في كتاباته ، وهو نفسه مثل شخصيات رواياته ، يبدو كأنه أثر واضح للبشرية أمام العيون المتذبذبة الشرهة .
و لعل أهم خصائص الرواية ، الرواية الناضجة ، هو تركيز الميكروسكوب الروائي علي الكائن البشري لنتعرف من خلاله علي أنفسنا ، علي هذا الكائن ، علي معني ما نفعله ، ولماذا جئنا لهذه الأرض ، وليس من السهل معرفة ذلك ، حتي أننا ننسي هذا السؤال عدة شهور ، أو ننساه دائما ، وفي وسط هذا الشرود ، تقع في يدنا رواية تجعلنا نتبع آثارنا لنصل لذاتنا ، مثل الكلب يتبع قطعة الملابس ليصل للمجرم . هذه رائحة بشرية ، هذا ما يسوقنا إليه العمل الساراماجي ، فنسير وراءه ، نتبع خطاه ، ندخل في أزقته ، نري هالته المضيئة ، نواجه شراسته في الحق ونشعر بحجم ألمه ، بعيدا عن المجاملات و التملق وأراجوزات الكتابة ، والسير وراء المدعين . إن الشخصية التي يقدمها لنا هذا الكاتب تحمل في حامضها النووي الكائن البشري ، بصمته ، دمه ، أو كما يقول ريكاردو رييس في عام موته : " علامات إنسانيتنا " . حينئذ تؤدي كتابته للقاء هذا الرجل وهذه السيدة التي تم انقاذهما من الشرود ، أو بمعني ادق الإلتقاء مع أنفسنا ، صفحة بصفحة ، فنشعر شعورا حميميا ، مريحا ، يجعلنا نلتقي بأحزاننا ، فتهرب من مآقينا الدموع . و الحقيقة أنني كلما قرأت " إنجيل المسيح " أبكي بكاءا حارا ، ونفس الشيء يحدث مع " الكهف " وساعتها أسأل نفسي كيف تستطيع روايات هذا الرجل أن تصل لأقصي أعماق ذاتي ؟ ، فتأتيني الإجابة التي لا تتغير أبدا : لأنه رجل صادق ، يتميز نثره بالصدق وشعره بالجمال ، فيعود بنا إلي البيت ، بيت الإنسانية ، بيت الرجل و المرأة ، هذا المكان الذي تقبع فيه روحنا ، حيث يقترب كل منا من نفسه ، ويكتشف الركن الذي يناسبه في القصة ، فعودتنا للبيت تشبه عودته هو في " الذكريات الصغيرة " للبيت الجميل ، الأكثر حميمية وعمقا ، هذا البيت المدقع فقرا لجديه لأمه ، أو البيت الآخر الموجود في " حصار لشبونة " حيث يصير الحب ممكنا والسرير ينتظرنا بملاءات نظيفة . وفي البيت قد تجد أنواع الكلاب المختلفة ، فقد تجد الكلب لقيط ، أو ثابت ، أو الكلب الذئب الذي يخيف زيزيتو ، أو ربما تجد الكلب العطوف الذي ابكاني في " البصيرة " وهو كلب الدموع .
أشار ساراماجو ذات مرة ، في الإشارة إلي إيما بوفاري ، دون كيخوتيه ، جوليان سوريل ، أن هناك شخصيات أدبية أكثر حياة من شخصيات نعرفها في الواقع . والحق أنه أصاب ، فنفس الشيء يحدث مع جوزيه ، في انجيل المسيح ، هذا النجار المحمّل بالأحلام و الذنوب ، و جوزيه الآخر في كل الأسماء ، الذي عثر في الحب علي خيط ارديانا الذي وجب أن يسحبه من متاهة البيروقراطية و بئر العزلة ، والطفل جوزيه في الذكريات الصغيرة ، حيث يجلس علي ضفاف النهر ليصطاد الصور و الأصوات و الروائح و الذكريات و المشاعر ، فيظهر صدي هذا في رواياته .
إن الرواية الساراماجية تأخذنا دائما إلي ما هو إنساني ، بعيدا عن روايات البيست سيلر وسوق التسلية التي ظهرت وازدهرت في ظل الديمقراطية اللايت ، تلك الديمقراطية المعكوسة في " البصيرة " . ووسط هذا التردي يأخذنا ساراماجو لأدب عظيم ، أدب يتميز بالكرامة ، فلو نظرنا لمجمل شخصياته سنجدهم كالقبيلة الواحدة التي يشترك أفرادها في صفة الكرامة . فسلوكهم بدءا من الافعال التقليدية ، " يتبول ، يأكل ، يشرب ، يعمل ، يستريح " تكتسب كرامة وعظمة لأنه يعيد خلقها ، هذا الخلق الذي يسمح له أن يجمع اجزاءهم المتناثرة . أما رؤيته هو لهذه الشخصيات فهي بعيدة كل البعد عن الرؤية الجزئية ، فتتميز بالشمولية ، كما لو كان عندما يكتب عنها لديه عقيدة راسخة أن كل شخصية تمثل في الواقع قصة الإنسانية جمعاء ، رجلا كان أم إمرأة . أما قصص الحب عنده فهي قصة الناس أجمعين ، قصص خالدة خلود روميو وجوليت ، فمن ينسي دومينجو وسارة في " ثورة الأرض " ، أو جيرونيمو و جوزيفا في " الذكريات الصغيرة " .
وبرغم أن بطله رجل ، إلا أن صورة المرأة في عمله صورة مضيئة ، فهي دائما الحكيمة ، الكريمة ، المتفتحة ، الواقعية . كما أنه لا يبذل جهدا ليجدها ، فهي تقفز دائما في رأسه ، " عندما أبدأ في كتابة رواية ، لا أقول لنفسي إنني يجب أن أخلق امرأة بارعة ، فهي تظهر وحدها من الأحداث التي أرويها " . وعلي كثرة النسوة في أعماله ، تعد أعظمهن ماريا في " إنجيل المسيح " ، تلك الأم التي يجب عليها أن تحتمل في صمت الحب و الألم الذي تشعره نحو وليدها ، إنها إمرأة صغيرة تنضج فوق نيران الواقع ، تودع إبنها بلا إبتسامة وبلا وعد بالعودة ، . " لم تصلني اخبارك ـ قالت ماريا أخيرا وحينها هربت من عينيها الدموع ، كان ابنها البكري يجلس أمامها ، فتي طويل القامة ، بملامح وجه إكتملت رجولته ولحية نابتة ، وبجلد أسمر كما لو قضي حياته تحت الشمس ، بوجهه للريح و لرمل الصحراء ـ " .
إن هذه المرأة التي تحمل إبنها ميتا بين ذراعيها لشديدة الشبه ببلدي ، بقارتي ، بهذا العالم الثالث الذي أنتمي إليه ، بأفريقيا كاملة ، وصولا للعراق و فلسطين و لبنان ، فكلهن أمهات تهبن أولادهن الحياة ليأتي الموت ليقصف أعمارهم . أمهات يدفنّ أبناءهن بدلا من حدوث العكس . إن الموت عجوز فوق سريرك صار حلما صعب المنال .
ساراماجو أيضا كاتب كلاسيكي عندما يخلق رجلا يسيطر علي إرادته الخاصة وعلي ضميره ويمتلك بين يديه زمام أمره ، إنه الرجل الذي يعارض الظلم و يحرك إرادة المقاومة و التغيير ، برغم أنه لا يحقق ذلك دائما . وبينما يقع الرجل دائما تحت التهديد ، يهاجم ساراماجو بشراسة ما يلغيه ، ما يؤذيه ، ما يستعبده ، وهو في ذلك كاتب شجاع ، في الحياة و العمل ، يضطرنا أن نظل بعينين مفتوحتين أمام ضغائن السلطة ، التي قال عنها إنها فاسدة ، وإن السلطة المطلقة لفساد مطلق ، لكنني أضيف أن السلطة لا تحتاج أن تكون مطلقة لتصير فسادا مطلقا . ولعل لهذا السبب نجد فكرة الحصار بارزة في أعماله ، ففي "العمي" نجد العميان محاصرين كما لو كانوا يعانون من مرض معد ، وفي " حصار لشبونة " يموت المسلمون محاصرين ، وفي " البصيرة " تحاصر العاصمة لأنهم أدلوا بأصوات بيضاء ، وفي " ثورة الارض " يحاصر الفلاحون بالفقر من قبل الإقطاعيين ، وفي " الكهف " يجد الفخاري نفسه محاصرا من المركز التجاري . وهكذا نجد الذين يفرضون الحصار ويشدون أحباله في صورة كائنات قبيحة ، غير إنسانية ، فهم يحيكون الكوابيس ويخلقون المتاهات .
وأخيرا ، قد نجد عنصرا بين العمل الكافكاوي و الساراماجي ، هو التشاؤم . والحقيقة أنه ليس تشاؤما ، إنما الواقع المحزن الذي يغزونا فينطبع في صفحاتهم ، صفحة وراء أخري ، لكن الحق أن هناك فرقا شاسعا بين كافكا و ساراماجو ، فالأول يخلق شخصيات تختنق وحدها وتكافح وحدها ضد ما يخنقها ، بينما نجد في شخصيات الثاني روح التضامن و التعاون من أجل المقاومة . هل هو المعتقد السياسي ؟ ، نعم بالطبع ، إنه المعتقد السياسي المطبوع في كل أعماله .كما أن شخصيات ساراماجو تبذل ما في وسعها للحفاظ علي نفسها مخلصة لمبادئها ، وهو ما يجبرها علي التحرك ومكافحة عالم كابوسي ، فيعطيها ذلك طابع المغامرة . بينما لا نجد ذلك عند كافكا ولا تيار ما بعد الحداثة .
السبت، أغسطس 22، 2009
حوار مع ساراماجو
الخميس، أغسطس 13، 2009
قصة : صورة رجل فارس
فرانثيسكو أيالا
لستُ أدري كيف وصل بنا الحديث في هذا اليوم إلي تناول سيرة أجدادنا . كان أصدقائي يتحدثون عن عظمة وأمجاد وبطولات آبائهم السالفين ، يتحدثون بغطرسة إستعراضية مليئة بالمبالغة ، لكنهم لم يتفوهوا بأكاذيب خيالية . وكنت أنصت إليهم ملتزماً الصمت ، رغم أنه ليس لديّ ما أخجل منه ، لكنني دوماً أشعر بحياء يمنعني من الحديث عن نفسي أو عائلتي ، بل وحتي عن كل ما يمت لي بصلة حميمة. كنت أستمع صامتاً ، حتي سألني صديق لي ، وماذا عن جدك؟ ماذا كان يعمل ؟ فأجبته بأنه " كان فارساً". حينئذ نظر إليّ الجميع باندهاش وأجروا جميعا وبالتناوب ذكر الألقاب التي حصل عليها أجدادهم، والوظائف البارزة التي شغلوها في زمنهم . حكي أحدهم أن جده كان نائبا في مجلس بلدية أنتيكيرا ، وحكي الآخر أن جده كان رئيساً للمحكمة الإقليمية بقرطبة . وكان جد ثالثهم وصيفاً في البلاط الملكي . وهكذا أجداد بقية الأصدقاء قد شغلوا وظائف شبيهة . هل كانت تراودني فكرة أن أقول لهم إن جدي كان فارساً من فرسان المائدة المستديرة ؟ ابتسمتُ بوجه بشوش أمام هذه الأضحوكة ، وقلت " لا شيئ من هذا " . أم أنه كان واحداً من هؤلاء الفرسان الأثرياء الذين يعيشون من أملاكهم بلا عمل ؟ لا شيئ من هذا ، حقا كان جدي يعيش في الفترة التي كان فيها يُكتب علي مظاريف الخطابات "مالك أراضي" بلا كتابة لاسم ما، لكنه لم ينتسب لهذه الطبقة الثرية الفارغة. كان جدي رجلاً وقوراً ، له طريقه في الحياة ، كما أنه كان عصامياً وليس أرستقراطياً . كان نبيلاً ولكن بشكل آخر . كان طبيباً وأستاذاً بالجامعة ، واستطاع أن يحقق مكانته الاجتماعية بمجهوده الشخصي ، لكنه فوق كل ذلك كان فارساً . أنا لم أتعرف عليه في حياته ، لم تتح لي الفرصة لذلك ، لأنه قد مات قبل مولدي بعام واحد ، لكنه ترك في عائلتي هالة من الإحترام له والإعجاب به والتكريم لذكراه . هذه الأشياء تسمح لي الآن أن أتذكره ، كما لو أنني قد تعرفت عليه في حياته وعاشرته أمداً طويلاً ، والفضل في ذلك يرجع لأمي لأنها الباعثة لهذا الإحترام ، فقد ملأت طفولتي وغذتها بالحكايا الكثيرة عنه .
حكت لي ذات مرة ، وكنت صغيراً آنذاك لكنني كنت مدركاً ، قصة مرتبطة بسيدة كنا نعرفها ونتبادل معها الزيارات (وكانت الزيارات بين المعارف في تلك الفترة تمثل طقساً إجتماعياً هاماً بكل معاني الكلمة ، حيث علي الجميع أن يلتزم بمواعيد الزيارة وإيقاعها وقواعدها ووقارها ) .
السيدة التي أتحدث عنها كانت صديقة لأمي ، ولم تكن زياراتنا لها واجباً اجتماعياً فحسب ، بل أكثر من ذلك بكثير ، فهي سيدة عانس ، ظهرت عليها علامات الشيخوخة ( أو هكذا كان يبدو لي من منظوري كطفل)، وكانت ثاقبة الذهن متقدة الذكاء ، سعيدة ومبتسمة دوماً وحنوناً مع الأطفال . ولعل أهم ما كان يميزها ذاكرتها التي تشبه جوهرة منقوشاً عليها رسومات واضحة ، كتلك التي اعتادت أمي أن تعلقها فوق فستانها الساتان الرمادي ذي الخرز الكهرماني الأسود . خرز أسود لامع يشبه عينيها الدقيقتين . والصداقة بينها وبين عائلتي كانت قد بدأت منذ زمن بعيد .
الحكاية التي روتها لي أمي ذات يوم عن هذه السيدة ، وروتها بكل ثقة فيّ لعلمها أنني سأحفظ سرها ، كانت كما يلي :ـ
منذ زمن بعيد ، عندما كانت هذه السيدة في الثامنة عشرة ، استدعي أهلها جدي ، وكان طبيباً وصديقاً للعائلة ، ليستشيروه في وعكتها الصحية التي بدأت منذ وقت قريب ، حيث بدأت الصبية تعاني من التقيؤ والدوار والعصبية الشديدة . ذهب جدي حينئذ إليها وأجري كشفه ولخص تشخيصه في عبارة واحدة " إذا كانت متزوجة فهي أعراض حمل ، وإن لم تكن كذلك فأنا لا أعرف سبباً لما تعانيه " . كان جدي فارساً قادراً علي تغليف العبارات الثقيلة التي تتطلبها طبيعة عمله بألفاظ محترمة ومقنعة . عندما حكت لي أمي هذه القصة كانت تنظر لصورة جدي المعلقة في مكان بارز من الصالة . كانت الصورة كبيرة الحجم كتمثال نصفي في حجم طبيعي ، مأخوذة من آخر صورة له قبل موته ، وكنا نحتفظ منها بصور صغيرة ، لكن ، وبرغم البرواز العريض المصنوع من الأبنوس المحيط بها ، وبرغم أننا علقنا الصورة بعد وفاته ، إلا أنها لا تعطينا إنطباعا بأنها صورة لميت عندما نتأملها بدقة؛ فهي ليست كصورة تافيرا ، هذا الطائر الأمريكي الذي رسمه جريكو علي أنه أثر جنزي (وهو طائر لا أعرف عنه أي خبر حتي الآن) ، بل علي العكس من ذلك ، كانت صورة جدي تعطينا شعورا بالجدية والحيوية والعمق .
كانت أمي تنظر إليها ، فكنت أري في عينيها الزرقاوين شيئاً كأنه الموافقة علي موته ، موافقة حزينة ، نعم ، ومليئة بالألم الراسخ في أعمق قلبها . أثناء ذلك ، كنت أشعر بداخلي بإحساس بخيبة الأمل لأنني لم أتعرف عليه في حياته ، وأظن أن ما يجب علي الآن هو أن أعشق صورة قديمة ذهب صاحبها للعالم الآخر . التزمنا الصمت برهة ، بعدها سألت أمي عن نهاية القصة التي بدأتها عن هذه الفتاة ، ماذا حدث لها؟ كيف انتهي أمرها؟ أجابتني أمي بأن عائلة الفتاة عجزت عن معرفة مرتكب الجريمة هذه ، ذلك لأن الفتاة لم تعترف بشيئ رغم أن عائلتها استخدمت معها كل الأساليب الممكنة من توسلات ودموع ، وتهديدات وعقاب . ربما كان من المستحيل لصاحب هذه الجريمة أن يصحح خطأه عن طريق الزواج ، فربما كان متزوجاً ، أو راهباً ، أو رجلاً مجهولاً أو وضيعاً ، فيتسب زواجها منه في عار أكبر من العار الذي لحق بها .
قاومت الفتاة كل الضغوط التي فرضوها عليها بكل ما أوتيت من قوة ، وأخيراً وضعت وليدها لكنه جاء ميتاً . إنها فتاة باسلة وتعيسة ، لذا فمن الصعب مقارنتها بهذه السيدة العجوز المرحة ، حاضرة النكتة ، التي تزورنا وأعرفها منذ زمن بعيد . فلنعد مرة أخري إلي جدي ، فالصورة التي رسمت في أذهاننا عنه أنه ليس فقط الرجل المعصوم من الخطأ ، بل هي صورة فارس مليئ بالمزايا ، فارس بكل معاني الكلمة ، فهو الإنسان الجاد ، المخلص، البشوش ، المتفاني من أجل الآخرين ، وبالإضافة لذلك ، فهو رجل فيلسوف . لقد واجه هذا الرجل في حياته الكثير من المحن المؤلمة ، بلا شكوي ، وعاني منها في صمت ، وعليّ أن أحترم صمته وخصوصياته ، خاصة أنه كان متحفظاً ، لكنني أستطيع أن أخمّن بعضاً من همومه بأن أجمع التفاصيل المبعثرة من حكايات أمي ، بجانب بعض التخمين المبني علي الفضول وبعض الملامح المستنبطة من مجموعة صوره الفوتوجرافية الموجودة بألبوماته . يُخيل إليّ أنه كان ذا طابع منفرد ، وأنه كان يحيا داخل مسئوليته المقدسة . علينا أن نعترف أن هناك نوعاً من الهموم يجعل حياتنا كئيبة ويغلفها بالمرارة ، لكنها مع مرور الوقت تتحول لذكريات جميلة لو تعاملنا معها من منظور كوميدي . سأقتطف بعضاً من المواقف التي واجهها جدي مع زوج ابنته الكبيرة ، وهو رجل خيالي وعاشق للمسرح ومن أشد مناصري جوانيير ، ومن ألد أعداء روسيني وفيردي . عقد هذا الرجل الكثير من الصفقات الوهمية التي لم تأت سوي بالخسارة والديون، التي كان علي جدي أن يسددها دون أن ينبس بكلمة . كان هذا الرجل المتبجح ، المتظاهر بالأبهة ، بطلاً لحدث لا يمكن نسيانه ، فقد رأي ذات يوم أثناء تناول الغداء ، فأراً يسير بين قدميه ، فقفز فوق المائدة وأطلق صرخات مليئة بالرعب أمام اندهاش الحضور ، وكان يردد هذه العبارات " لا ، يا إلهي ، لا استطيع أن أحتمل كل هذا ، أنا لا أقاوم الفئران ، هذا فوق طاقتي ، احبسوني لو أردتم مع أسد ، نعم أسد ، لكن الفئران لا أحتملها ، لا أستطيع ..." ، ومنذ ذلك الحين استغل أخوالي، إخوة زوجته ، هذه الفرصة لينتقموا منه بسبب حماقاته المتكررة ، وأصبح ضحية لسخريتهم المستمرة لعدة أشهر . فمن حين لآخر ، وأثناء تناولهم الغداء ، يعيدون ذكر هذا الحدث المضحك حتي وضع جدي نهاية لهذه الدراما بأن وبخ أولاده بألفاظ رقيقة أمام زوج ابنته المهزوم ، وأوضح لهم أن له مستقبلاً بارعاً في ترويض الأسود في السيرك الأمريكي الكبير ، الذي سيزوره عما قريب . كان جدي يقول ذلك بكل جدية ، لذلك لم يتجرأ أحد علي أن يبتسم ، لكن ابنته الكبيرة ، زوجة هذا الدُن كيشوت المتصنع ، قطبت جبينها ، ناظرة في طبقها . امرأة مسكينة تلك المرأة التي فرضت عليها الحياة أن تعايش رجلا يشبه زوجها . لكنها كتوم لسر بيتها . كانت هذه السيدة ، كما ذكرت ، الإبنة الكبيرة لجدي ، بينما كانت أمي هي آخر ثمرة في عنقود طويل متعدد الثمار ، لذا كان يوجه عنايته وحمايته وشفقته بكل رقة لهذه الطفلة الصغيرة ، حتي أصبح مفهوماً للجميع أنه نوع من التفضيل . وانضمت هذه الطفلة إلي حفيدات أبيها اللاتي كن يلعبن في حديقة المنزل عند مولدها . مما لا شك فيه أن الأب كان يفكر في هذه الطفلة عندما ينظر إليها ويجدها بين حفيداته ، فيدور في خاطره أن قانون الحياة سيجعلها يتيمة خلال وقت قريب ، ولأنها لا زالت صغيرة كانت لا تحمل للحياة هماً ولم تواجه محناً ، بينما كان أشقاؤها يواجهون ما يواجهونه من مصاعب الحياة وبلاويها . كان الأب يركن إليها فيتحدث معها في أوقات فراغها ، ويحكي لها ما يتعلق بيومه . كان يكلمها هي فقط ، ويقدم لها ما استنبطه وتفكر فيه ويعلّمها بشكل غير مباشر كيفية التفكير الفلسفي . هكذا تربت أمي و سمت روحها ، ولحسن حظي وصلني جزء كبير من هذه التربية لأنه قد تكرر معي ما حدث معها . فأنا ابنها الوحيد ، لذا كانت تثق في وتعتقد أنني سأفهمها أكثر من الآخرين ، فكانت تروي لي تأملاتها وتبدي لي آراءها ، وتناقشني في كل ما يشغلها في الحياة ، كما تحكي لي أحزانها التي تجلبها لها تلك الحياة. حقاً كنت أنا حافظ سرها وموضع ثقتها ، وهذا يرضيني بشكل كبير.
تعرفت من شفتيّ أمي علي صفات جدي الشخصية . حكت لي من ضمن أشياء أخري أنه عندما ساد وباء الكوليرا وعم المدينة بأسرها وقضي علي حياة الناس موتاً ورعباً ، وجعلهم يبتعدون عن أقاربهم المصابين به ، كان جدي يزداد اقتراباً من الناس ليؤدي واجبه المهني ، وأنه تميز حتي أصرت الحكومة علي أن تكافأه بمنحه لقب نبيل . لكن جدي رفض لأنه يتعارض مع مبادئه الديمقراطية ، فهو رجل نبيل بطبعه . فهذا الفارس ، صاحب هذه الصورة ، لا يحتاج لشهادة مكتوبة لتدل علي نبله . أغمض عينيّ لتتحرك في مخيلتي صورته عندما كان يتنزه في حديقة منزلنا بصحبة شابة صغيرة ، هي أمي ، أتخيله رجلاً طويلاً ، نحيفاً ، بلغ من الكبر عتيا ( لقد ازداد نحافة في سنواته الأخيرة ) أتخيله بشاربه الأبيض الطويل المتساقط علي فمه ( ففي صورة سابقة كان قصير اللحية ، وكان يطلق علي شاربه اسم فابوريس) أتخيله بعينيه العميقتين الكامن فيهما حزن السنين . بعد أن تقدم العمر بجدي أحيل إلي المعاش وترك الجامعة وودع حياته العملية ، لكنهم كانوا يطلبونه لمساعدتهم في الأوقات العصيبة . ومن هذه الأوقات عندما عاد الوباء من جديد . لم يكن شنيعاً كالمرة السابقة ، لكنه كان خطيراً . لا أعرف تفاصيل هذا الوباء ، فثقافتي الطبية محدودة وكل معلوماتي عنه أنه وباء يهاجم الرئتين . علي أي حال ، كان جدي يستنفد كل طاقاته كلما طلبوه ليعتني بالمرضي . وذات صباح ، عاد جدي ليستريح علي أريكته ويتناول كأساً من النبيذ اعتادت أن تقدمه إليه أمي ، فسألته إن كان سيصطحبها كالعاة في عيد الربيع أم لا . كان الربيع قد أطل ومازال الوباء موجوداً ، لكن السلطات المحلية أمرت ألا يتوقف عرض العربات وألا يلغي الاحتفال ، وليتم ككل عام في مدينتنا وفي نفس التاريخ بلا تأجيل . " ربما فعلوا ذلك لكيلا يشعر الناس بالقلق الشديد ". حفل الربيع حفل كبير ، يعشقه كل الشباب وخاصة الصبايا ، لأن قلوبهن مفتوحة لكل ما يبعث فيهن السرور والبهجة والحرية . ربما كانت أمي تنتظر هذا الحفل لتضيئه بجمالها الرقيق ولتتلاقي مع من سيكون زوجها في المستقبل . روت لي أمي ، وهي حزينة حزناً يطفح منها ، كأنه جرح يُفتح من جديد كلما تذكرته ، أن جدي ، بعد أن صمت لحظة ، أجابها ب "لا" ، لأنه مشغول ومرهق ، كما أن جو هذا العام لا يسمح بالتنزه . ولأنني أعرف جيدا حمية الشباب ورغباتهم الشديدة ، أتخيل مضمون ما حملته عيناها الزرقاوان من خيبة أمل لم تعبر عنها كلماتها بدقة . لكن ما حدث في صباح اليوم التالي كان مفاجأة لم تكن تتوقعها . فأثناء تناولهما الإفطار ، أحاط ابنته بنظرة حادة ومؤثرة وحزينة ، وقال لها وهو يصب القهوة في فنجانه الفضي ( وكان يلاحظ باهتمام هذا السائل الغامق الذي ملأ به فنجانه ) إنه فكر جيداً في الأمر ، وإنه موافق علي أن يصحبها إلي حفل الربيع ، و سيعطي أوامره ليجهزوا الخيل في الساعة الخامسة لتذهب بها إلي العرض . وعليها هي أن تعد سلة الزهور كذخيرة لها لتشترك بها في الحفل ولتفوز بالطبع في معركة لا سفك فيها للدماء . قفزت أمي من مقعدها بكل سعادة عندما سمعت ذلك ، وتوجهت إلي جدي لتقبله في جبهته ، وشكرته بكل كلمات الشكر " أنت طيب جدا يا أبي ، تضحي من أجل سعادتي " . " قد يكون هذا العام هو الأخير الذي أصطحبك فيه لحفل الربيع يا ابنتي " همس لها بذلك . اكتسي وجهها بالحزن عندما سمعت العبارة الأخيرة ، " يا أبي ، لا تقل ذلك بالله عليك" . والتزمت الصمت وشعرت بالخوف ، ورغم أنها عجزت أمام خوفها ، إلا أنها قضت وقتاً سعيداً أثناء العرض ، وشعرت بالتسلية واستمتعت بالحفل في بعض اللحظات . ومن آن لآخر ، كانت تلقي نظرة خاطفة علي أبيها الكهل الذي جلس بجانبها ، فيبادلها النظر ويبتسم لها ابتسامة تبعث علي الطمأنينة . وبالفعل ، كان هذا العام عامه الأخير الذي اصطحب فيه ابنته لحفل الربيع والعرض التقليدي للعربات . في اليوم التالي سقط مريضاً ، ولم يطل مرضه فوافته المنية . ويوم الحفل ، عندما استيقظ من نومه كان يسعل ، واكتشف عندما بصق أنه قد أصيب بالوباء الذي دمر كثيرا من السكان . كان جدي يعلم جيداً انه سيذهب للعالم الآخر بعد أيام قليلة بسبب تقدمه في السن ، وقوة المرض . لذا لم يشأ أن يحرم ابنته الحبيبة من رغبتها البريئة .
آه ، عندما تكون المشاعر عميقة وصادقة وتصدر منها أفعال مليئة بالطيبة والتضحية ، يكون الألم أكبر بكثير من هذا الألم الذي ينتابنا عندما نواجه مشاعر باردة ولا مبالاة .
مازالت الدموع تسكن عيني أمي كلما حكت لي ذلك .
الجمعة، يوليو 03، 2009
ملكان ومتاهة / بورخس
الجمعة، يونيو 26، 2009
حوار مع يوسا
الأحد، مايو 03، 2009
لعبة الوقت
الاثنين، أبريل 20، 2009
قصة : باقة ورود زرقاء
جديد
«حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ
إبراهبيم عادل زيد يعّرف «أحمد عبد اللطيف» روايته الجديدة «حصن التراب» بأنها (حكاية عائلة موريسكية). ولأول وهلة قد يبدو الحديث ...

-
غادة نبيل قد يحب الشعراء – أكثر من الروائيين – رواية أحمد عبد اللطيف الأخيرة "إلياس" ( دار العين ) . فى أعمال أخرى أقل تجر...
-
العجوز والصرافة الشابة الإثنين 21 مايو الاهرام المصرية إبراهيم أصلان الكاتب( خوان خوسيه مياس) أحد أبرز الكتاب الأسبان المعاصرين. له ...
-
(1) في رواية أحمد عبد اللطيف الأحدث "إلياس"، (دار العين، القاهرة)، نحن أمام ما يشبه الحكاية، مروية على لسان ما يش...